موجة من التساؤلات والتحليلات حول مستقبل الأمن الأوروبى أثارتها تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون حول ضرورة اعتماد أوروبا على نفسها فى مجال الدفاع، وعدم الاعتماد الكامل على الولاياتالمتحدة فى مشهد عالمى يتسم بالتوترات المتزايدة وتغير المواقف الجيوسياسية، تأتى هذه التصريحات فى وقت حساس، ما يعد أول رد فعل غربى قوى عقب فوز دونالد ترامب برئاسة الولاياتالمتحدة مرة أخرى، المعروف بمواقفه التى تنطوى على تقليل الالتزامات الأمريكية تجاه الدفاع عن أوروبا، هذه التصريحات تفتح باب التساؤل: هل نحن أمام بداية تشكل قوة عسكرية أوروبية مستقلة؟ وهل ستتمكن أوروبا من مجابهة التحديات الأمنية وحدها؟ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس حلف الناتو، اعتمدت أوروبا بشكل كبير على الولاياتالمتحدة لضمان أمنها، فالحلف، الذى يُعتبر بمثابة الدرع الدفاعى لأوروبا، يعتمد فى معظمه على القدرات العسكرية الأمريكية، بيد أن مع تصاعد التوترات بين أوروبا وروسيا، وتصاعد النزعات القومية فى أوروبا وتغير الرؤية الأمريكية تجاه الحماية الأوروبية، بدا واضحاً أن الاعتماد الكامل على الولاياتالمتحدة لم يعد خيارًا مستدامًا. ترامب، منذ ولايته الأولى، كان صريحًا فى تذكير الحلفاء الأوروبيين بأن الحماية الأمريكية ليست بلا مقابل، مشيرًا إلى أنه على الدول الأوروبية تحمل المزيد من التكاليف والالتزامات الدفاعية ضمن الناتو وفى ظل عودته للحكم، يبدو أن أوروبا قد تواجه تحديًا جديدًا يتمثل فى سياسة أمريكية تقليدية تطالب بتخفيض الالتزامات المالية والعسكرية الأمريكية فى الخارج، بما فى ذلك حماية أوروبا. جاءت تصريحات ماكرون لتكون صرخة فرنسية تسعى للانفصال جزئيًا عن التبعية للولايات المتحدة فى الشأن الأمنى، ماكرون المعروف بتوجهاته نحو تعزيز دور أوروبا الاستراتيجى، يؤكد باستمرار أن أوروبا بحاجة لبناء استقلالية عسكرية فعلية، ويرى أن التبعية العسكرية لأمريكا تجعل أوروبا فى موقف ضعف فى مواجهة التحديات الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالتهديدات الروسية التى تبرز بوضوح فى ظل الأزمة الأوكرانية. ماكرون لا ينكر أهمية الولاياتالمتحدة كحليف، لكنه يضع يده على موطن الضعف الأوروبى؛ حيث تفتقر الدول الأوروبية إلى جيش موحد وإلى ميزانية دفاعية مستقلة وقوة ردع نووية مشتركة، ففرنسا هى الدولة الوحيدة فى الاتحاد الأوروبى التى تمتلك ترسانة نووية. ولذلك، يشير ماكرون إلى ضرورة بناء منظومة دفاعية مستقلة، بحيث يكون لأوروبا قواتها وقدراتها الخاصة التى تمكنها من ردع أى تهديدات دون الحاجة لانتظار الدعم الأمريكى. الأزمة الأوكرانية كانت بمثابة اختبار حقيقى لأمن أوروبا ولعلاقاتها مع روسيا، فالغزو الروسى لأوكرانيا كشف مدى ضعف القدرة الأوروبية على التعامل مع التهديدات المباشرة فى محيطها، وأظهر مدى اعتمادها على المساعدات الأمريكية لتوفير الأسلحة والمعدات الحيوية. وعلى الرغم من أن حلف الناتو أظهر دعمه لأوكرانيا، إلا أن الولاياتالمتحدة كانت فى الصدارة من حيث الدعم العسكرى والاستخباراتى. هذا الوضع، وفقًا لرؤية ماكرون، يفرض على أوروبا التفكير فى بناء قوتها الذاتية بدلاً من أن تكون طرفًا تابعًا ومن جهة أخرى، فإن روسيا، التى تعتبر نفسها قوة تقليدية منافسة للناتو، تجد فى توسع الحلف وتمدده نحو الحدود الروسية تهديدًا مباشرًا لأمنها ومصالحها يستوجب اتخاذ الإجراءات اللازمة لردعه وفى حال تصعيد العداء والتوترات وفى حال تخلت الولاياتالمتحدة عن التزاماتها تجاه حماية أوروبا، ستكون القارة العجوز فى مواجهة مباشرة مع روسيا، دون دعم قوى يكافئ القوة الروسية. من الناحية النظرية، أوروبا أبدت رغبة متزايدة فى بناء قوة عسكرية مستقلة عن الولاياتالمتحدة فالاتحاد الأوروبى أسس ما يُعرف ب«صندوق الدفاع الأوروبى» لتعزيز الأبحاث والتطوير فى مجال الدفاع، وهناك جهود لتشكيل «قوة رد سريع» أوروبية قوامها 5,000 جندى، ولكن، هل هذا يكفى لمواجهة قوة عسكرية بحجم روسيا؟ يواجه مشروع القوة العسكرية الأوروبية عدة تحديات أولها، التباين فى الرؤى بين الدول الأعضاء فبينما تفضل فرنسا الاستقلالية العسكرية، تظل ألمانيا وبعض دول أوروبا الشرقية حذرة من هذه الفكرة، وتفضل استمرار التحالف الوثيق مع الولاياتالمتحدة ، كذلك يواجه المشروع تحديًا ماليًا، حيث تتطلب القوة العسكرية المستقلة استثمارات ضخمة، فى وقت تواجه فيه العديد من الدول الأوروبية ضغوطًا اقتصادية شديدة. علاوة على ذلك، هناك تحديات تنظيمية؛ فتشكيل قيادة عسكرية موحدة والتنسيق بين قوات الدول المختلفة عملية معقدة، فليس من السهل بناء جيش موحد بميزانية مستقلة وتسليح متكامل فى وقت قصير، خاصة إذا كانت بعض الدول ترى أن تهديد روسيا يتطلب استجابة سريعة قد لا تحققها أوروبا، فى حال تبنت الولاياتالمتحدة سياسة أقل التزامًا تجاه الدفاع عن أوروبا، ستجد الأخيرة نفسها أمام خيارين: إما أن تسرع فى بناء قوة عسكرية مستقلة، أو أن تبحث عن ترتيبات أمنية جديدة يمكن لأوروبا أن تعزز شراكاتها الدفاعية مع قوى أخرى مثل بريطانيا وكندا، أو حتى تسعى للتعاون العسكرى مع دول مثل اليابان وأستراليا لمواجهة النفوذ الروسى والصينى المتزايد. فى النهاية، يمكن القول إن تصريحات ماكرون لا تمثل موقفًا فرنسيًا فحسب، بل تجسد شعورًا متناميًا فى أوروبا بأن الاعتماد الكامل على الولاياتالمتحدة فى ضمان الأمن لم يعد كافيًا لكن أوروبا ما زالت بعيدة عن تحقيق قوة دفاعية مستقلة قادرة على التعامل مع التحديات الكبرى بمفردها. «أخبار اليوم» الصحيفة - المؤسسة لم نعش فيها أجمل أيام عمرنا فقط، بل عاشت فينا ورسمت لنا حياتنا، كنا نقضى بين مكاتبها ساعات طويلة أكثر مما نمضيه فى بيوتنا وبين أسرنا، كانت هى الحياة بحلوها وصعوباتها، ولكل جيل فيها حكايات وقصص وتجارب ونحن الآن وسط صعوبات وتحديات كبيرة نصنع تجربة تحتاج من جميع الزملاء أبناء «أخبار اليوم» العمل يدًا واحدة بأفكار خلاقة فإذا خلصت النوايا سيكلل الله جهودنا بالنجاح لتظل صحافة الناس، ترصد أحلامهم وتطرح عليهم الرؤى بوطنية لتنير الرأى العام دائمًا وأبدًا لتعيش وتبقى صحافة الملايين.. كل 80 سنة وأخبارنا بخير.