كان الفنان فى حاجة ماسة إلى استعادة ثقته بنفسه وفنه والتى لم يكن لها أن تستعاد إلا بلحظة نصر الفن انعكاس حقيقى ليس فقط للمجتمع ولكن للنفس البشرية وما تحمله من نقاط قوة وضعف وفرحة وحزن وهزيمة ونصر. والأحداث الكبرى ستظل لها الأثر الجلى الواضح على الفنون حيث تمد الفنانين بمشاعر وأخيلة وطرق جديدة فى التعبير تجعلهم يقدمون إبداعًا خالصًا قام على لحظة فارقة، لحظة قادرة على العلاج من مرض النكسة ولا شفاء منه إلا بالنصر، أغانٍ وأفلام ومسلسلات ومسرحيات لم يكن لها أن تكون لولا انتصار السادس من أكتوبر، إنها الأيام التى يتحول فيها الفنان إلى مقاتل من الطراز الأول، وبعد أن ألقت النكسة بظلالها سنوات ستاً على ممارسى الفن والذين تأثروا تأثرًا بالغًا فى نفوسهم مما حدث، فمنهم من هرب إلى الأفلام التجارية قليلة القيمة الفنية الجاذبة للجمهور الحزين المحبط اليائس عبر قصص مهلهلة خليعة، ومنهم من غرق فى تقديم أحزانه وبث شكواه عبر أغانٍ تبكى وتلطم وتئن وتنوح، ومنهم من ارتبك و انشرخت روحه فصار لا يعرف أين يضع قدمه بعد أن كان قبل النكسة يُبشر الناس بالغد المشرق وجنة الاشتراكية ليجد نفسه فى جحيم الهزيمة الصادم يهذى بأغانٍ وأعمال تجمع السخرية بالفلسفة ومغازلة البسطاء، ومنهم من صرخ (مدّد مدّد شدى حيلك يا بلد)، ومنهم من قدم حزنه عذوبة خالصة فى أغنية (على الممر) حيث عكست ملامح وجوه الشباب فى هذا الفيلم وجوه غالب المصريين الشاعرين بالألم والرغبة فى الثأر للكرامة. ● ● ● وجاء نصر أكتوبر ليغسل عن النفوس هذا الشعور بالانكسار ويُبدل الإحباط بالثقة والحزن بالفرحة، وإرتفع صوت الرئيس المُنتصر فى مجلس الشعب يزف البشرى بأن النصر قد تحقق، وأن المصريين قد عبروا، وأن وهم أسطورة العدو الذى لا يُقهر قد بددتها قواتنا المسلحة، وشاهدنا العلم المصرى يرفرف على أرض الضفة الشرقية وغنى الناس (محمد أفندى رفعنا العلم) وغرد عبد الحليم حافظ (عاش اللى قال) وعاد لصوته بعض من حماس أغانى التبشير ببستان الاشتراكية وتجميع الناس لأخذ صورة تحت الراية الوطنية وإلهاب حماسهم لبناء السد العالى، عاد صوته يحمل بعضًا من القوة بعد أن كان صوتًا حزينًا كسرتُه الهزيمه وهو يئن مُنسحقًا بكلمات (عدى النهار) بعد النكسة، وغنت وردة (على الربابة) بينما تشابكت أيدى بليغ حمدى وعبد الرحيم منصور وهم يهتفون على دقات قلوبهم المنتصرة (بسم الله الله اكبر بسم الله). ● ● ● كان الفنان فى حاجة ماسة إلى استعادة ثقته بنفسه وفنه والتى لم يكن لها أن تستعاد إلا بلحظة نصر، كان بليغ حمدى وعبد الرحيم منصور هما فارسا النصر فى تلك اللحظة وها هى شادية تغنى لهما لحنًا وكلامًا (عبرنا الهزيمة يا مصر يا عظيمة) بينما انطلقت الأغنية التى كُتبت قبل النصر بروح الأمل والرجاء وبكلمات السيدة نبيلة قنديل وألحان على إسماعيل لتكون هى أغنية النصر وهى أغنية (رايات النصر) التى ظهرت فى فيلم العصفور ليوسف شاهين لتكون نبوءة وبشرى تتحقق على الأرض ويغنى معها الجميع بعد السادس من أكتوبر (رايحين رايحين.. شايلين فى إيدنا سلاح ... راجعين راجعين ... رافعين رايات النصر ... سالمين سالمين حالفين بعهد الله ... نادرين نادرين ... واهبين حياتنا لمصر)، البساطة والصدق هنا جعلا من الأغنية فنًا يكاد يكون هو نفسه لسان الناس وذلك أمر لا يتأتى إلا بقوة النصر وإلهام. ولم تكن السينما ولأسباب كثيرة متباينة بنفس قوة الأغنية فى مواكبة نصر أكتوبر، لقد قدمت عدة أفلام بالفعل لكنها فى النهاية أقل بكثير من أن تُعبر من حيث الكم والكيف عن ما حدث فى نفوس المصريين من تحول كامل من الإرتباك إلى الثقة، ومن الهزيمة إلى النصر. كانت الأغنية هى الأسرع والأقصر والأكثر انتشارًا، أما الأدب والروايات فقد صدرت عدة روايات تتناول الحرب وأثرها مثل رواية (الحرب فى بر مصر) ليوسف القعيد و(الأسرى يقيمون المتاريس) لفؤاد حجازى و(خطوات على الأرض المحبوسة) لمحمد حسين يونس و(وميض تلك الجبهة) لسمير الفيل وغيرها. ● ● ● ولم يقتصر أثر نصر أكتوبر على الشعر والغناء والسينما والأدب فقط، لكنه امتد إلى شتى الفنون ومنها الفن التشكيلى، ذلك الفن الذى له تاريخ ضارب الجذور فى الدولة المصرية، ما عليك سوى أن تنظر إلى تمثال العبور لجمال السجينى حتى تُدرك أثر النصر عليه الذى يجسد فيه مصر الأنثى العفية وهى تقود بسواعد أبنائها الأشداء سفينة الوطن نحو النصر والمستقبل، وكذلك فى أعمال محمود شكرى ويوسف سيده وحامد ندا، تجلى فى منحوتاتهم ولوحاتهم وأعمالهم روح النصر وإشراقة القوة البهية القادرة ممزوجة بالهوية المصرية مفتونة بتمجيد الروح المصرية العالية العابرة للصعاب. لقد فعل الفنان والأديب المصرى جزءًا مما فعله المقاتل على الجبهة واستطاع أن يَعبر ويُعبر أيضًا، والقدرة على التعبير عن النصر فى الفن لا يمكن أن تكون إلا بعد أن حقق المقاتل العظيم ذلك العبور على الأرض وستظل حرب أكتوبر ونصرها المعجز ملهمة لأجيال وأجيال كثيرة قادمة لأنها نقطة حاسمة فى تاريخ مصر نقطة انعكس أثرها الإيجابى على كل تفصيلة فى حياة المصريين، ومازالت هناك أحلام كبرى تتعلق بإنتاج أفلام كبيرة تحكى تلك المعجزة العسكرية بصدق فنى يوثق تلك اللحظة. ● ● ● انتصار السادس من أكتوبر ليس فقط يخص أولئك الذين عاصروا ذلك النصر من أبناء الوطن لكن أثره الممتد الملهم يجعل من الواجب أن تظل الفنون تبنى وتحكى وترسم وتغنى وتصنع أعمالًا كبيرة عن ذلك اليوم الكبير لأن مفاهيم مثل النصر والقدرة على العبور وكسر الهزيمة وحفظ الكرامة وتأديب المعتدى وحماية الأرض والتضحية والقدرة على كسر العدو بالجهد والإيمان والعلم والتسليح والثقة بالله والوطن والنفس هى مفاهيم جديرة بالتجسيد، وأعلى حالات التجسيد هى العمل الفنى لأن عناصره الإبداعية إذا ارتفعت صار قادرًا على الصمود أمام الزمن وصار لدينا أعمال خالدة تحكى لنا عن ذكرى خالدة، ذكرى يتم إحياؤها بشكل فنى ومستمر حتى يعلم الأطفال أن الآباء والأجداد المصريين كانوا فى يوم السادس من أكتوبر رجالًا أشداء لديهم كرامة ورغبة فى النصر وصبر وجلد وعقول تقبل التخطيط والعلم وأرواح كبيرة تملك البصيرة، وأن مصر بها جيش وطنى قوى حقيقى مخلص استطاع أن يسابق الزمن وينتصر على الرغم من أنه يقاتل عدوًا يملك من القوة والدعم والتسليح والغرور الكثير تلك الأيام وذلك الوطن وهذا الجيش الذى عبر واستعاد الأرض وحقق المستحيل بإرادة مصرية خالصة كل ذلك قادر على إلهام أجيال كثيرة قادمة على العبور الفنى وتقديم أعمال إبداعية تزيد من ثقة وصلابة وفخر ابن هذا البلد الصبور.