قد يختلف البعض على نتائج حرب أكتوبر من الناحيتين العسكرية، والسياسية، بخاصة بعد معاهدة السلام، لكنّ أحدا لا يستطيع أن ينكر أنها كانت بمثابة "عودة الروح"، على غرار رواية الحكيم، هذه الروح التي غابت عن المصريين طوال ست سنوات، عاش فيها المصريون صدمة ألهت الجميع، وزرعت في الحلوق مرارة لا تزيلها إلا الدماء. أعادت الحرب، التي كانت بمثابة عبور من حافة اليأس إلى شاطئ الأمل، الروح لشعب كاد أن يهوي في هاوية الانهزامية والسلبية واللامبالاة، وكان الشاعر الكبير صلاح جاهين فردا من هذا الشعب، استرد بالحرب روحه المفقودة. لم يكن يعلم صلاح جاهين، الذي كرس إبداعه الغزير لدعم ثورة يوليو خلال عدد هائل من القصائد والأغاني، أنه سيستفيق من حلمه على كابوس مروع ما كان له أبدا أن يتخيله، وأن الحلم الذي طالما بشر الناس بتحققه كان سرابا. صلاح جاهين الذي كان قلم الثورة طوال السنوات، بالاشتراك مع لسانها عبد الحليم حافظ، كتب عددا ضخما من القصائد في مديح الثورة وقائدها، غناها "حليم"، لعل من أشهرها "احنا الشعب" التي كتبها عام 1956 بمناسبة اختيار الشعب الرئيس جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية، و"بالأحضان" التي كتبها عام 1961 بمناسبة العيد التاسع للثورة، وأغنية المسئولية التي كتبها عام 1963 بمناسبة العيد الحادي عشر للثورة. ثم تأتي أغنية "يا أهلا بالمعارك" التي كتبها جاهين عام 1965، أي قبل النكسة بعامين فقط، والتي تعكس مدى ثقة جاهين في قوة نظام يوليو، وقدرته على هزيمة أي عدو كائنا من كان. لتأتي هزيمة يونيو ضربة قاصمة لصلاح جاهين، شلت تفكيره وأفقدته القدرة على التصرف، كما فعلت بالمصريين جميعا آنذاك، ولكن على عكس عبد الحليم حافظ والأبنودي وبليغ وحمدي الذين أثارت فيهم النكسة الرغبة في الكتابة للتعبير عما يجيش بالصدور من غضب مكتوم، وصدمة موجعة، لم يستطع جاهين أن ينبس ببنت شفة، ليرفض طلب حليم أن يكتب له أغنية عن النكسة، معلنا صمته التام. كان جاهين يشعر بمسئولية أدبية، إن جازت التسمية، عن الهزيمة؛ باعتباره قلم الثورة الذي لطالما صال وجال، والشاعر الذي ملأ الدنيا بكلمات التعظيم في "ناصر"، ليرى جاهين أنه كان شريكا لرجال النظام وإعلامييه وصحفييه في تضليل الشعب وإيهامه بحلم يخفي خواء مروعا. صمت إذن صلاح جاهين مقهورا محاولا التكفير عن خطيئته، كما رأى، ولكن الأبنودي لم يسكت. ورغم هذه الفاجعة المزدوجة، أي الهزيمة وصمت جاهين وجفاف مداده عن التغني باسم مصر، فإن الأمر انطوى على جانب إيجابي نسبيا؛ إذ كشف عن بقعة ضوء جديدة في مسرح الأغنية الوطنية المصرية، تمثلت في التعاون المشترك بين الأبنودي والملحن الكبير بليغ حمدي والعندليب الأسمر في عدة مناسبات، كان أهمها "عدى النهار". كانت "عدى النهار" هي البكائية التي ارتمى في أحضانها المصريون يبكون مرارة الهزيمة، ويتطلعون نحو نهار جديد. وكم كان أثرها عظيما في تسلية نفوس المصريين، حتى أن الزعيم جمال عبد الناصر نفسه تعلق بها، وعرف عنه أنه كان دائما ما يستمع إليها. وفي حين كان صوت العندليب يصدح بكلمات الأبنودي معبرا عن حزن المصريين وتشتتهم وأملهم في نصر قريب، كان الصمت يخيم على صلاح جاهين، الذي أصيب بحالة من الاكتئاب والعزلة، كأنه بهذا الصمت يجلد نفسه، ولم يخرجه من هذه الحالة سوى صديقته المقربة الفنانة الراحلة سعاد حسني التي ألحت عليه ليكتب لها فيلم "خلي بالك من زوزو" عام 1972، ليواجه جاهين بموجة من الانتقاد لتحوله من الثورة إلى "الهلس"، كما وصفه البعض. ويبدو أن قبول جاهين لكتابة الفيلم، وأغنياته الراقصة، كان امتدادا لحالة اكتئابه وعزلته، وكانت نوعا من الاحتجاج الصاخب الذي لم يفهمه البعض، وما كان أشبه تلك الحالة بحالة الآلاف من الشباب الاشتراكي والقومي والناصري، الذي أفاق من أحلام العروبة والاشتراكية على كابوس هزيمة مريرة؛ إذ هوى هذا الشباب في مستنقع من اللامبالة والعبثية والاستهتار. عام واحد فقط فصل بين هذا الفيلم وبين الانتصار الذي زلزل كيان المصريين، بل والعرب جميعا، ومن بينهم صلاح جاهين، الذي أخرجه النصر عن صمته، وانتزعه من عزلته، وكأنه شعر أن ذلك النصر قد محا كل أثر لما رآه خطيئة من تغن بأمجاد النظام الناصري، ليعود جاهين إلى القصيدة الوطنية من جديد، لكن يبدو أنه قد تعلم الدرس جيدا، فخرجت فرحته بالنصر حذرة، خوفا من الوقوع في الغرور الذي أطل من "يا أهلا بالمعارك" ليكتب: من غير ما نتفاخر ونتباهى لا بالرايات اللي رفعناها ولا بالحصون اللي انتزعناها ولا بالدروع اللي مزعناها ولا بالدموع اللي ابتلعناها على الضنى الغالي وحجبناها وحياة عيون مصر اللي نهواها وأكتوبر اللي كما النشور جاها بلاش نعيد في ذنوب عملناها أنا اتعس اللي بدعها وجناها ومازلت تحت عقبها وجزاها وحياة ليالي سود صبرناها واتبددت بالشمس وضحاها نكبح جماح الزهو، مع أنه من حقنا، ونحمي النفوس منه ولو "العبور" سألونا يوم عنه عادت الروح إذن لصلاح جاهين، ويبدو أن جراح يونيو قد شفاها نصر أكتوبر، لكن يبدو أن صلاح جاهين غير قادر على التخلي عن الفخر، الذي رآه "من حقنا"، ليخرج قائلا: الحرب مش نزهة ومش تفاريح مش طبل أجوف يملا سمع الريح الحرب لما تبقى حرب صحيح معناها موت وألم ودم يسيح راجل لراجل.. مش بنات قنازيح على كتفهم مدفع فشنك صفيح وشمال يمين يستعرضوا المفاضيح ويرقَصوا هودهم بشكل قبيح ويصوروهم مأجورين سناكيح سايقين بطل مصرى ف كرامته جريح ويقولوا دول أسروه .. كدب صريح! ده كان في يونيه اللي ماشافش قتال ودخلنا في أكتوبر رجال لرجال "ارحم يا مصري" بقم يقولم قال ويسحوا الأندال دموع تماسيح