من السابق لأوانه تلمس ملامح السياسة الثقافية التى تقوم عليها وزارة د. أحمد هنو، بعض المؤشرات تبدو إيجابية خاصة فيما يتعلق بالسعى لتجديد دماء الوزارة، وفى محاولة إقامة تواصل عملى بين وزارة الثقافة ووزارات أخرى على رأسها التعليم، وأيضًا فى متابعة الوزير الشخصية للقضايا المثارة والتفاعل معها. يبدو للكثيرين أن هنو يبذل جهودًا كبيرة فى العمل على إصلاح ملف الثقافة المصرية، أو على أقل تقدير إعادة العجلة للعمل بعد توقف دام لوزارات عدة متعاقبة تجمدت الأمور فيها عند حدود تسيير الأعمال والاكتفاء بإقامة الأنشطة والاحتفالات الموسمية مع تجنب التفكير فى مشاريع تواكب الزمن والتغيرات الجذرية الحاصلة فى عالمنا العربى والعالم منذ مطلع القرن، بل وعدم الالتفات من الأساس إلى منظومة الثقافة المتيبسة! لكن وفيما ننتظر اكتمال المشهد الثقافى الجديد بعناصره ولاعبيه الأساسيين من الجائز التساؤل حول الأسس والفلسفة التى سينبنى عليها الفعل الثقافى خلال الفترة المقبلة خصوصًا وقد صدر تكليف رئاسى للحكومة بزيادة الاهتمام بالشأن الثقافى، وعلاج أوجه القصور فى هذا الملف، مما يعنى أن الدولة باتت تنظر إلى الثقافة كأحد العناصر الرئيسية اللازمة لصياغة المشروع العام. غير أن أى سعى لتطوير آليات العمل الثقافى لابد أن ينطلق بداهة من أسئلة أساسية على رأسها فى تقديرى الشخصي: ما الذى يحكم الرؤية إلى الثقافة حاليًا؟ هل مازلنا ننظر إليها عبر عدسة الماضى؟ أعنى.. أى نموذج ثقافى مر علينا سابقًا ستتبعه وزارة هنو؟ نموذج ثروت عكاشة على سبيل المثال أم فاروق حسني؟ هما أشهر مثالين فى العمل الثقافى المصرى مع الفارق بالطبع فى النظرية والتوجهات والتطبيق، لكن المؤكد أن أى عمل ثقافى رسمى جاد سيتوقف أمام كل تجربة منهما على حدة خاصة إن كان، وكما فى وضعنا الحالي، يعانى من حالة جمود ثقافى تغيب فيه النظريات والأفكار ولا مصدر لقوته إلا المحاولات شبه الفردية من مبدعين وفنانين لا يبقيهم صامدين إلا الإيمان بمشروعهم. لا توجد فى مصر ثقافة واحدة، ثمة أنواع متجاورة، لكنى هنا أتحدث تحديدًا عن الثقافة الرسمية التى تعبر عنها الوزارة بهيئاتها المختلفة، ومع أنه فى مواقع من تلك يبذل العاملون جهودًا ما لتقديم الخدمة الثقافية وفق ما تسمح به الظروف، إلا أنه فى المحصلة النهائية تتفق الأطراف العاملة فى الساحة الثقافية على أن هناك عطبًا جوهريًا طال آلة الثقافة المصرية فأعجز مكوناتها عن أداء دورها، ولا يتعلق الأمر بنقص الإمكانيات فقط بل الأسوأ تشوش الدور المنوط بها إلى حد ضياعه كاملًا بين أروقة الهيئات الرسمية إلى أن تحولت من منصات تسهم فى نشر المعرفة وفق مقتضيات إنشائها إلى مجرد مبانٍ يقطنها موظفون يؤدون أعمالًا روتينية فى غياب شبه تام للجمهور والمثقفين على حد سواء. لا يمكن الحديث عن ثقافة فاعلة لبلد ما بمعزل عن الجمهور والمشتغلين بالثقافة، كما أنه لا يعول على فعل ثقافى لا يغطى سوى العاصمة ومراكز قليلة متفرقة فيما يتجاهل النظر إلى مكونات البلد ككل، ولا يمتلك سياسة ما يمكنه من خلالها إبراز مكونات الثقافة المصرية بتنوعاتها الثرية، كيف يفكر ويبدع هؤلاء الذين فى الجنوب، والذين فى الشمال؟ كيف نضمن حضورًا وفاعلية للحركات الإبداعية المختلفة من دون السعى إلى صهرها فى بوتقة ثقافة واحدة يتم رسمها فى العاصمة. تجارب وزارة الثقافة المصرية، وبشكل إجمالى وباستبعاد التفاصيل، يغلب عليها الطابع المركزي، ثمة سياسة ما ترسمها الوزارة وتتولى هيئاتها تطبيقها، سياسة تنطلق من عناوين محددة لم يطرأ عليها إلا تغييرات طفيفة عبر العهود المتعاقبة، والفكرة الأساسية فى ذلك أن الوزارة تتولى الترويج لمجموعة المبادئ الأساسية التى تقوم عليها الدولة والمتوافق عليها من الأغلبية، وفى هذا الإطار نجد أن مصطلحات بعينها تتكرر لتكون عناوين لبرامج وندوات وإصدارات واحتفالات، لكنها ومع ضرورتها يتم تقديمها بمعزل عن واقعها لتصبح كأنها محاضرات مدرسية يسمعها الجمهور صاغرًا، إن حضر، قبل أن ينفض عنها تمامًا. الثقافة فى عهد وزيرها د. أحمد هنو فى حاجة إلى إدراك أولى بأن عليها الخروج من أسر تشابه دورها مع دور وزارة التعليم، عمل الثقافة ليس مجموعة تعاليم معهود: إلى الوزارة إيصالها إلى الشعب عبر البرامج والأنشطة، ربما كان ذلك صالحًا فى فترة ما، فى الستينيات مثلًا، لكنه شكل لم يصمد طويلًا، تمرد الجمهور عليه منذ السبعينيات، خرجنا من أسر النظرية الواحدة، لكن الوزارة مازالت هناك، لم تتمكن من مجاراة التغيرات فظل منهج عملها قائمًا على التكليف القديم: تنفيذ مجموعة سياسات محددة. السبيل الأمثل أمام وزارة الثقافة لإجراء تحول سريع وملموس فى ملف الثقافة الخامد هو الانتقال ولو جزئيًا من حالها كمنفذ ثقافى إلى مشرف عام، ليس من حق الوزارة تحديد الاتجاهات الثقافية، ولا الانتصار لنوع من الإبداع على حساب آخر، ليس لها أن ترسم المشهد العام أو أن تتدخل فيه بأى قدر من التأثير، البديل الطبيعى أن تسمح بتشكله بحرية مع الثقة فى أن النقاش العام حول النصوص والأعمال قادر بنفسه، ومن دون توجيه، على إنتاج تأثير حقيقى ضمن الأهداف المحددة للوزارة، ذلك أن الثقافة المصرية واحدة من سماتها الرئيسية الالتصاق بالأرض وبالقضايا المصيرية والهم العام. لن تتحقق العدالة الثقافية فى مصر إلا عبر التحول والتوسع فى سياسة المنح الثقافية، عبر التخطيط لمجموعة ضخمة من البرامج يتولى القطاع الخاص والمجتمع المدنى والأطراف الفاعلة فى المشهد تنفيذها على أن يتوقف دور الوزارة على وضع الشروط الضامنة للوصول إلى الأهداف الاستراتيجية الوطنية المتمثلة فى الارتقاء بالوعي، تنمية الإنسان، البعد عن التطرف، تنمية الذوق، إلى غير ذلك من السياسات العامة الواجب عليها تحقيقها. لن يتحقق لوزارة الثقافة أى من أهدافها إلا إن وضعت المبدع على رأس أولوياتها باعتباره حجر الأساس فى عملية الثقافة ومن دونه يصبح الأمر كله أقرب إلى مصنع ضخم يدار من أجل إنتاج اللاشىء! لن يتحقق الإصلاح الثقافى المنشود إلا بإيجاد الآليات التى تضمن للمبدعين الحصول على المقابل المناسب لنشاطهم: الندوات، الأمسيات، القراءات، وبجانب هذا وضع شروط اتفاقات الملكية الفكرية موضع التنفيذ، والقضاء على سوق تزييف الكتاب التى تمارس عصاباتها أعمالها تحت أعين الجميع! لن يتحقق لوزارة الثقافة أى من أهدافها إلا إن اعترفت أن الزمن يمضى للأمام وأن قانون الحياة الأساسى أن تحل أجيال مكان أخرى، وعليه فإن التحديث لا بد أن يشمل أعضاء اللجان المختلفة التى من المفترض أنها تضع خطط الثقافة المصرية.. هل من المعقول أنه بنهاية الربع الأول من القرن الحادى والعشرين ما زال عقل الثقافة المصرية يدار بعقليات تنتمى إلى ستينيات القرن الماضى!