سميحة شتا لقد شهد العالم مؤخرا انتخابات فى اثنتين من أكبر الديمقراطيات، المملكة المتحدةوفرنسا. وكانت نتائج الانتخابات البريطانية التى جرت فى الرابع من يوليو كما كان متوقعاً (فى معظمه): فوز ساحق لحزب العمال من يسار الوسط، وخلع حزب المحافظين من عرشه بعد أربعة عشر عاماً فى السلطة. لكن نتائج الانتخابات الفرنسية يوم الأحد الماضى جاءت مفاجئة. فقد جاء حزب التجمع الوطنى اليمينى المتطرف، الذى كان من المتوقع على نطاق واسع أن يفوز، فى المركز الثالث. وحصلت الجبهة الشعبية الجديدة، وهى تحالف يسارى يتراوح بين الاشتراكيين من يسار الوسط وحزب فرنسا الراديكالي، على أغلبية المقاعد وهو انتصار مذهل أصبح ممكنا بفضل التنسيق التكتيكى مع حزب النهضة الوسطى الذى يتزعمه الرئيس إيمانويل ماكرون. وترى صحيفة الجارديان أنه فى الوقت الذى كان يبدو أن نتائج انتخابات كل من بريطانياوفرنسا جيدة بالنسبة لأوروبا، فإنها أيضا تبدو سيئة، فهى جيدة لأن بريطانيا لديها الآن حكومة وسطية قوية ومستقرة حريصة على إعادة ضبط العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وسيئة لأن فرنسا تبدو مستعدة لفترة من الحكومة الضعيفة وغير المستقرة والمنقسمة التى ستعيق الاتحاد الأوروبى بأكمله. أن بريطانيا لديها حكومة مسؤولة وعملية من يسار الوسط، منتخبة لمدة تصل إلى خمس سنوات. ويقودها محام سابق فى مجال حقوق الإنسان عازم على الدفاع عن سيادة القانون فى الداخل وعلى الصعيد الدولي؛ وتتبنى مزيجاً حكيماً من اقتصاد السوق والتدخل الحكومى والعدالة الاجتماعية؛ وتدعم أوكرانيا بقوة وتلتزم بالسعى إلى إقامة علاقات طيبة مع البلدان الأوروبية الأخرى. والواقع أن هذه الحكومة تتوافق بشكل أفضل كثيراً مع القيم المعلنة فى المادة الثانية من معاهدة الاتحاد الأوروبى مقارنة بحكومة المجر، الدولة العضو فى الاتحاد الأوروبي، التى يجلس زعيمها القومى المناهض لليبرالية فيكتور أوربان مع بوتن فى موسكو لمعرفة كيف يمكنهما إرغام أوكرانيا على الاستسلام باسم «السلام». ولكن المشكلة تكمن فى ان بريطانيا لم تعد عضواً فى المجتمع السياسى والاقتصادى الأساسى فى أوروبا. وكما لو كان يتدرب على الجرى لمسافة 100 متر فى دورة الألعاب الأوليمبية فى باريس، زار ديفيد لامي، وزير الخارجية البريطانى الجديد، نظراءه فى ألمانيا وبولندا والسويد فى الأيام القليلة الأولى من توليه منصبه. وفى الوقت نفسه، سارع جون هيلي، وزير الدفاع الجديد، إلى أوديسا لإجراء محادثات مع نظيره الأوكراني. وكان لامى حازماً وبليغاً فى الدعوة إلى «إعادة ضبط» و»بداية جديدة» و»شراكة وثيقة» مع الاتحاد الأوروبى والدول الأوروبية الفردية. اقرأ أيضا| ترامب يتعهد بالإفراج عن تاجر مخدرات للحصول على تأييد الليبراليين في الانتخابات تقترح بريطانيا اتفاقية أمنية جديدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع تعاون أوثق فى العديد من المجالات. وقد تم التعبير عن الكثير من حسن النية فى برلينوباريس ووارسو وعواصم أوروبية أخرى. لكن حقيقة أن المملكة المتحدة هى مؤسسيًا مجرد «دولة ثالثة» أخرى للاتحاد الأوروبى تعنى أن عملية التفاوض على هذه العلاقة الجديدة الأقرب ستكون معقدة، مع العديد من إمكانيات التعطيل أو النقض لمختلف اللاعبين الوطنيين والحزبيين والبيروقراطيين داخل الاتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك، فإن الخطوط الحمراء التى أعلنها ستارمر من أجل استعادة الناخبين المؤيدين للخروج البريطانى إلى حزب العمال - لا عودة إلى الاتحاد الجمركى للاتحاد الأوروبى أو السوق الموحدة أو حرية التنقل - تحد بشكل خطير مما يمكن القيام به على الجبهة الاقتصادية. اقرأ أيضا| ترامب يحدد «موعد إنهاء» الصراع الأوكراني والواقع أن السياسة البريطانية ليست مختلفة كثيراً عن تلك السائدة فى القارة الأوروبية كما تبدو للوهلة الأولى. وكان أحد الأسباب الرئيسية وراء حجم انتصار حزب العمال أن أصوات اليمين كانت منقسمة بين المحافظين وحزب الإصلاح بزعامة نايجل فاراج، وهو المعادل البريطانى أو بالأحرى الإنجليزى لحزب التجمع الوطنى بزعامة مارين لوبان، أو حزب البديل من أجل ألمانيا، أو حزب فراتيلى دى إيطاليا فى إيطاليا، والذى يوجه المخاوف الاقتصادية والثقافية الشعبية الواسعة النطاق إلى كبش فداء للهجرة. وحصل حزب فراتيلى دى إنجلترا بزعامة فاراج أو إذا شئت، حزب البديل من أجل إنجلترا على نحو 14% من الأصوات الشعبية، مقارنة بنحو 24% للمحافظين. ومن المؤكد أن المشاعر الشعبوية القومية على جانبى القناة سوف تقيد وتعقد عملية إعادة ضبط العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، فى حين تزداد قوة اليمين المتشدد على الجانبين. ولكن رغم كل هذا فإن الأخبار الواردة من لندن أكثر تشجيعاً من تلك الواردة من باريس، فلا شك أن فشل مارين لوبان وجوردان بارديلا فى الاستيلاء على مقاليد البرلمان الفرنسى قد أسعد التيار السائد من المؤيدين لأوروبا، بحسب صحيفة بوليتيكو.. ولكن هذا هو المكان الذى تنتهى فيه الأخبار السعيدة، حيث انزلقت فرنسا إلى جانب ألمانيا، الوحش الكبير الآخر فى الاتحاد الأوروبي، الذى يعانى من صراعات داخلية خاصة به إلى الفوضى السياسية، حيث لم يفز أى حزب بما يكفى من المقاعد للحصول على الأغلبية. وقد يستمر الشلل لعدة أشهر ويلحق الضرر بالاتحاد الأوروبي، وأيضا لأنه عندما أعلن أن حزب الرابطة الوطنية لم يكرر نجاحه المذهل فى الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية، ولن يصبح سوى ثالث أكبر مجموعة فى الجمعية الوطنية، وهى الغرفة السفلى فى البرلمان الفرنسي. فإذا كان التصويت الشعبى فى بريطانيا يهدف فى المقام الأول إلى إخراج المحافظين، فإن التصويت فى فرنسا يهدف إلى إبقاء حزب الرابطة الوطنية خارجاً، وليس إلى إدخال أى شخص بعينه إلى البرلمان. والنتيجة هى برلمان منقسم بين ثلاث مجموعات رئيسية: الجبهة الشعبية الجديدة التى تم تشكيلها على عجل، وهى ائتلاف يسارى فضفاض من أربعة أحزاب مختلفة للغاية، بما فى ذلك فرنسا المتمردة المتشككة فى أوروبا والشعبوية؛ وحزب ماكرون الوسطي، الذى ليس حزبا فى الحقيقة، بل مجرد مجموعة؛ والجبهة الوطنية، وهو حزب منضبط للغاية. ولا يتمتع أى حزب بأغلبية بمفرده. ومن المرجح أن تكون جميع الخيارات التى تتم مناقشتها لتشكيل الحكومة غير مستقرة ومتفرقة. فالبلاد تعانى من دين وطنى مرتفع وعجز كبير فى الميزانية. وقد تؤدى خطط الإنفاق التوسعية من الجبهة الشعبية الجديدة إلى إثارة غضب أسواق السندات وإزعاج منطقة اليورو. ووفقا للدستور، لا يُسمح للرئيس بالدعوة إلى انتخابات جديدة لمدة عام آخر. وفى المعارضة، قد تكتسب الجبهة الوطنية المزيد من الدعم، استعدادا لترشح لوبان أو جوردان بارديلا للرئاسة فى عام 2027. باختصار، فى حين تتمتع بريطانيا بحكومة قوية ولكن بوضع ضعيف فى أوروبا، فإن فرنسا سوف تتمتع بوضع قوى فى أوروبا ولكن بحكومة ضعيفة. الواقع أن سلطة ماكرون ونفوذه تضاءل إلى حد كبير وهذا خطأه بالكامل. ربما أخطأ رئيس الوزراء البريطانى السابق ريشى سوناك فى تقدير الأمور عندما دعا إلى انتخابات مبكرة (ثم أدار حملة انتخابية مشبعة بالزلات)، لكنه كان ليضطر إلى الدعوة إلى انتخابات بحلول نهاية العام على أى حال. وكانت النتيجة واضحة بالنسبة للمحافظين، بعد 14 عاما فى السلطة ألحقوا خلالها مثل هذا الضرر بهذا البلد. وعلى النقيض من ذلك، كان لدى ماكرون أغلبية نسبية وإن لم تكن مطلقة لمجموعته الوسطية فى برلمان انتُخِب حتى عام 2027، وهو العام الذى تنتهى فيه ولايته الرئاسية. ويرى الخبراء أنه بالنسبة لأوروبا كلها، فإن المأساة هى أن ماكرون كان أيضًا أقوى المدافعين عما يحتاج إليه الأوروبيون بشكل عاجل، فى عالم محموم ممزق بين بوتن وترامب وشى جين بينج: المزيد من الوحدة، والمزيد من التماسك، والمزيد من القوة. وقد أصبح مؤخرًا الصوت الأكثر نفوذاً فى غرب أوروبا لصالح زيادة الدعم لأوكرانيا المحاصرة، التى أصبح مصيرها اليوم معلقًا فى الميزان. قبل بضعة أسابيع فقط، حذرنا ماكرون من أن «أوروبا فانية». والآن، فى عمل من أعمال الحماقة والغرور، طعن نفسه وأوروبا فى الظهر.