أطبق علي بطاقة شحن عداد الإنارة بشدة، كأنه يخشى أن تفر من بين أنامله الباهتة, أخرج حافظة نقوده التي لم تكن تحوي إلا سبعين جنيها وكأنها تحصي ما مضى من عمره, انتزع منها ورقة من فئة الخمسين جنيها ثم أغلقها والحسرة تكاد تقضي على ماتبقى له من حياة، اقترب ببطء من قمرة النافذة التي خلفها فوق مقعد خشبي يعلوه جهاز حاسوب عتيق يجالسه الموظف والموكل إليه مهمة إعادة شحن بطاقات الإنارة الخاوية. مد الرجل يده المرتعشة إلى الموظف وهو ينظر إليه بضراعة ودفع إليه بالنقود والبطاقة , بدأ الأخير يداعب مفاتيح لوحة الحاسوب السوداء في رتابة مملة ثم رفع رأسه أخيرا وقال : سوف يتم خصم مبلغ ثلاثين جنيها والباقي لن يكفي لإتمام عملية الشحن . ما أن صكت تلك الكلمات آذان الكهل السبعيني حتى كاد يغشى عليه ويسقط من جلبابه البالي، خرجت الكلمات من فيه مبعثرة وبعضها رفض الخروج : ماذا تقول يا ولدي، هذه الورقة هي آخر ما أملكها، ولم هذا الخصم، كل ما لدي تلفاز صغير ومصباح يتيم لا أكثر ولا أقل. بتجهم رد الموظف: اذهب إلى المهندس المختص ثم نظر الي باقي الصف وصرخ بعنترية بلهاء: من خلف هذا الرجل ليتقدم, أنا لن أبقي اليوم بطوله لأجلكم. لملم الكهل ما تبقى له من بقايا أنفاس لا تزال تتشبث بالحياة وتحامل على نفسه وعلى الجدران الداكنة القاتمة وما بين سؤال هذا وذاك حتى وصل إلى مكتب المهندس, برفق طرق الباب ليأتيه صوتا من الداخل يسمح له بالدخول، فدفع الرجل الباب وتقدم بخطى مهتزة نحو مكتب المهندس الأنيق. رمق المهندس الكهل باستعلاء بطرف عينيه من أسفل نظارته الفارهة وهو يريح ظهره على مقعده المبطن ثم قال بلامبالاة : نعم , ماذا تريد؟ : خصموا نقود شحن البطاقة , فلما؟ ضغط المهندس علي زر أحمر أمامه ليوقظ صوتا كائيبا تردد في الردهة وانتزع العامل من جلسته فوق دكة خشبية صغيرة وألقى به في برهة أمام المهندس الذي بادره قائلا : خذ هذا الرجل إلى مكتب المحاسب. برغم الجهد الذي تجلي فوق قسمات الكهل جراء ارتقائه درج الدور الأول لم يشفع له ذلك وبدأ يرتقي درج الدور الثاني متحاملا علي (درابزينه) وتكاد روحه توشك أن تفارقه وهو يترجل درجة ويتسلم أخرى حتي وصل أمام مكتب المحاسب فجلس علي الأرض ملتقطا بعض أنفاسه التي تحاول الفرار منه. وما أن استطاع الوقوف حتي بدء السير صوب باب المحاسب وما أن هم بطرقه حتي ألقى به أرضا جسدا مكتنزا يرتدي بذة فارهة وبيده سيجارة مشتعلة من ماركة عالمية ليس لها مثيل حتي في أرقى أماكن بائعي التبغ، مثل رابطة عنقه التي تتباهى بدبوسها الذهبي البراق وبحذائه الثمين دفع الباب واندفع كالسيل للداخل وأمام المقعد المواجه لمكتب المحاسب جلس وبعنجهية مقيتة استلقت إحدى ساقيه فوق الأخرى، قفز المحاسب من فوق مقعده كالملسوع جراء ما راءه وما أن هم بالصراخ في وجه هذا الرجل ذو الكرش الممتلئ والتجاعيد المحتقنة فوق وجنتيه المحمرتين كاللهيب, وقذفه بسيل من السباب واللعان لهجومه الهمجي علي مكتبه وكشف ستر مكانته المهابة حتي خرست كل الحروف مع اندفاع مدير الإدارة إلى الرجل وهو يمد يده إليه في انكسار، محاولا ألا يغير وضع ظهره المنحني وابتسامة بلهاء ارتسمت علي الشفاه الجافة : تشرفت الإدارة كلها بقدومك الكريم سيدي، لعل الله أراد أن يكرمنا بطلعتكم البهية، كلنا طوع البنان..... صمت من إشارة من أصابع أربع ليد الرجل اليمني أما الخامس فقد انحنى في حضنهم كاتما ضحكته الهازئة. بهدوء مقيت أخرج الرجل المهاب كلماته وكأنه يلقي بحجارة فوق تلك الرأس المنكسرة قائلا: هل لي أن أعرف كيف يتوقف عداد إنارتكم البائسة عن إضاءة حظيرة بهائمي ؟ وجم المحاسب أما المدير فأسرع في استرساله متصنعا الدهشة : كيف هذا؟ ومتي؟ : حالا : الآن سيدي تضاء حظيرة معاليكم وبطاقة الشحن هدية منا لمجيئكم الكريم دلف العامل يحمل صينية براقة يعلوها فنجان قهوة من البن البرازيلي الأصيل وكوب كرستالي براق وزجاجة مياه معدنية, أمام الرجل الضيف انحني واضعا إياهم ثم تقهقر للخلف وهو لا زال منحنيا ثم لاذا بالفرار وكأنه يهرب من حسام مسلط علي رقبته. نظر الضيف إلى فنجان القهوة ثم قال هازئا : هل أُصبتم جميعا بالعته, هل هذا الفنجان الحقير لي؟ ثم هب واقفا وكما جاء كالعاصفة رحل مثلها, ولم ينس قبل أن يغادر الغرفة أن يقول للمدير وبتعالي نرجسي : قبل أن أصل , لا بد أن تكون البهائم مغمورة بالضوء. رد المدير محاولا قدر طاقته ألا ينهار وبشجاعة مفتعلة شاحبة كوجهه قائلا : عفوا سيدنا عن تلك السقطة الغبية منا . والسماح شيمكم. حين هم المدير في الخروج من الغرفة استرعى انتباهه الكهل الواقف في ذل فدنا منه وبعجرفة نظر إليه ثم قال : ماذا تريد أيها الشيخ؟ رد الرجل وهو يحاول قدر طاقته منع بعض القطرات الحزينة التي توشك التي تقفز من المقل الحائرة : لقد خصموا مني مبلغا, ولا أعرف لما ؟ صمت لحظة ثم قال والكلمات تخرج في حشرجة من صدره : لم يعد لدي ما يكفي إنارة العداد, المصباح الوحيد سوف يغرب عني. نظر المدير إلى المحاسب وفي شدة خاطبه قائلا : تولي هذه المشكلة, هل تدني بي الحال بعد هذا العمر وبعد خدمة هذا المكان أن أتصدى لتلك التوافه من الأمور. لم يشعر الكهل إلا وساقيه لم تعد تستطيع التحمل أكثر من هذا , هوت به أرضا ومن بعيد كان نفير سيارة البك الحانق يملأ الأفق.