فردة حلق الحلق الهلالي المُثبت علي الاستاند الدائري في وسط محل الاكسسوارات يُشبه حلقاً كان يخصها، ذلك الحلق الفضي المنقوش علي حوافه نجمات صغيرة، والذي ضاعت فردة منه منذ أسبوعين، ولم يوقف غضبها رذاذ المطر الذي طوَقنا في لحظة أرادت لنا السماء بعض المجون، لكن موجة الغضب كانت أقوي من الفضاء المبلل أو من هزة أرضية تُنشط الإيقاع والدورة الدموية، لا شيء يزعزع اصغائها لهواجسها بأن ضياع فردة حلق هو صدي إشارة سلبية تمسنا نحن بشكل شخصي، وهو أمر جلل يساوي رغبة مختبئة لأحدنا في الرحيل أو في انتحار العلاقة، تسترشد بأنه في كل مرة تضيع منها فردة حلق تكون نهاية علاقة وتقول:" في الهزيع الأخير من العلاقات تسقط فردة حلق، تشتبك أولاً في الشعر أو في الفستان ثم تنتفض وتقفز وتهرب لتضع كلمة النهاية علي طريقتها، فهل قدري أن أظل وحيدة، لا أفهم الحكمة!!؛ وأحياناً تضحك وتؤدي بطريقة مسرحية تقليدية:" ما بيعيشليش حب"، ثم ترتسم علي وجهها ملامح جدية؛ فتتسع عيناها وتزم شفتاها لتخرج الكلمات كأنها صدي حجر، سيجيء يوم آخر لا تضيع فيه فردة الحلق، وأكسر فيه الخرافة ثم أقرأ آيات من الذكر الحكيم وأعتذر للسماء ألف مرة لأني يوماً فقدت يقيني بجزئي الناقص. من السهل حسب نزعتها للشك أن تتهور في تحليلاتها وأن تتدحرج فوق بلاط الهذيان وتنتصر لنظرية الخسارة والشقاء، وإن جادلتها تتهمني بأنني قاس جداً للدرجة التي تجعلني متبلد الحس أو تقول جملتها الأثيرة: "قدر النساء الجميلات أن يذهبن لرجال لا خيال لهم". وعند هذه النقطة كنت ألتزم الصمت وأحمد الرب لأنها اكتفت بذلك ولم تضف إلي قائمة الاتهامات: الاستغلالي والأناني، ما يعذبني أنها أصدق امرأة صادفتها ولا يوجعني سوي أنني لم أنجح في تغيير مزاجها الغضب، ولا أخفيكم سري أن هذا كان مفتاح انجذابي إليها، عذابها هو وقودي وإن هي هدأت أنكسر أنا ويتلكأ طريقي إلي أسطورتي ولن أنجو من التوهة وشوْك المجهول، قال لي أبي ذات مرة أننا لا نتعلم من الفوز ولكننا نتعلم من الخسارة، وأبي تُغريه الحكمة وتُعجبه الصحراء لأنها نظيفة، وإن خذلته البراهين لا يُغلق باب النزوة، لم آخذ حصتي من هذه الأمور عن أبي، وأُفضل أن أكون وغداً يلعب بالبيضة والحجر، بالبلاغة والمعني خلف صورة الملك السعيد الذي يطمئن علي ما ملكت يمينه، فالوقوف محلك سر يجعل العلاقة أشبه بدورة المضاد الحيوي، مجرد محاولة للشفاء من رتابة الحياة حتي تتحول إلي تكرار بائس لفعل المفروض أنه يصنع الفرح، وما يميز علاقتنا هو طرفي الآخر الذي لا يستقر عند مدار. تتمترس في مكانها حيث تجلس في وضعية اليوجا تلك التي أبهرتني منذ رأيتها لأول مرة ولم أعرف كيف أضاهيها أبداً، تتربع وأرجلها متقاطعة ومطوية إلي داخل جسمها وجذعها العلوي منتصباً فيما هي تُجمع كل فردات الحلقان الوحيدة وتشخص بنظرها إلي نقطة بعيدة تستعيد فيها صوراً من حياتها، أب متجهم وأم مهدودة الحيل وصفعة قوية من أبيها علي أذنها اليمني لأنها رفضت وهي صغيرة أن تتناول الدواء، حتي هذه اللحظة هي تظن أن الصفعة هي سبب عدم إذعان تلك الأذن بالذات للاستسلام لأي فردة حلق، قالت لي ذات مرة أنني أشبه أباها، واقعي جداً لا أُصاب برعشة الخرافة أو حمي الخيال. حلق علي هيئة هلال، طرفاه لا يلتقيان ولا يعدان بالاشتباك؛ لكن بهما يكتمل سحر العالم، لا يتركني ألتفت عنه ويكاد يقفز كما لو أنه يشتهي إذن تُحرره من إعاقته وتثبيته علي هذا الاستاند الدائري، يشتهي أن يمارس حياة يومية يستقبل فيها الشمس ويهتز في الهواء مع كل حركة، يشم رائحة صاحبته الجديدة ويلمس جلدها، سأشتري لها اثنين من هذا الحلق، أقدم لها واحداً وأُخبيء الآخر، فإن ضاعت فردة أُباغتها وأقدم لها واحدة مخبأة وأزعم أنني وجدت المفقودة فلا يزول الشغف ولا تسأم روحي اللعبة. شورت وفانلة وكاب أعتذر عما فعلت، ألم يكن كافياً هذا الاقتباس الدرويشي حين اختصرته وصرفته ليلائم لحظتنا ويكون وسيطي إليها، أم أن الرسالة لم تصلها أبداً؟ هي الآن تجلس علي المائدة الأخيرة في سينابون بالدور الثاني، تتباطأ يدها اليمني وهي تشد فستانها القصير، فتتعرّج رسوماته المتداخلة وتسيح ألوانه البنفسجية والزرقاء مع الأبيض في لحظة عاطفية تبدد بعض القلق، وتسند بذراعها الأيسر المسند الخشبي للمقعد بينما تطل من زاويتها البانورامية علي شارع مكرم عبيد ولا تُدرك عيناها ما يدور في الخارج، كل المشهد ينحسر في صورة غائمة تتراقص تفاصيلها علي أنغام خافتة لموسيقي غربية تنساب من سماعة خلفية، تضع أمامها كما اتفقنا رواية "العطر" للألماني باتريك زوسكيند، هذه النسخة التي تحمل توقيع نبيل الحفار مترجماً وتتصدرها صورة صبية معصوبة العينين وتتداخل فيها الألوان الغامضة مع اللون الأخضر في الغلاف الخلفي. تتصفح الرواية ثم تضعها أمامها دون اكتراث لتتصفح المواقع الصحفية علي ال آي باد الصغير، تحاول أن تتابع آخر الأخبار في هذه المرحلة الحاسمة من عمر البلاد، لم يكن في وسعها أن تبتعد كثيراً عن التواصل مع العالم الخارجي خلف الواجهة الزجاجية لهذا المحل الصغير الدافيء والمعبق برائحة القرفة وهمهمة الأحبة في الزوايا المخفضة الإضاءة مختلطة بصراخ المراهقين يلعبون ألعابهم الاليكترونية الصغيرة أو يلقون علي بعضهم نكاتاً لا تتمهل عمرهم الصغير، كل خبر تقرؤه يرد علي الآخر وهي تتشبث بسلامها النفسي وتتمسك أكثر بالحاجز الخشبي علي يسارها كأنه درع يحميها من السقوط في فخ الغول الذي ينفخ برياح العبث، تسمع خشخشة هذه الرياح وتحافظ علي ثباتها، تناضل حتي تمنع نفسها عن التورط في الاستسلام لمعاهدة اليأس والزمن يتفتت من حولها، تغلق ال آي باد وتُعدِل من وضعية الرواية أمامها كأنها تُضبط تفاصيل الصورة من أجل موعدنا الأول ليكون وترنا لمعزوفة العمر كله كما أخبرتها هاتفياً وأنا أحاول أن أقلد فريد الأطرش وأغني لها حكاية العمر كله، ولما تنتهي من ضحكتها المجلجلة تغلق الهاتف وهي تقول ستجعلها لحظة قدسية. وأنا لازلت في هذا التاكسي اللعين كأن عجلاته التصقت بالأسفلت لوقوفه طويلاً بسبب إشارات المرور أو زحام لا مبرر له وربما مظاهرة أو اثنتين تقطع علينا الطريق، يكاد رأسي ينفجر من نشرات الأخبار ومواجزها المتتالية ترصد الموت الطائش والجنون السياسي، لا أريد أن تمتصني الأخبار، يقول صديقي أنني أهذي طويلاً في الفترة الأخيرة وأنني أصبحت كائناً مالحاً لا أصلح حتي للجنوح بعدما فقدت الاصغاء لقلبي، من أين لصديقي هذه الشاعرية وفطرة إحساسه بالمجهول التي هبت فجأة علي جسده الهزيل؟ .. لا أنا هو ولا الكون يدور حول شاعرية اللغة المريضة، فإذا لم أكن الذكر المناسب للغزالة، فلماذا صحوت مبكراً وذهبت إلي صالة التدريب لأمارس بعض ال"جيم" واطمئن علي مفاتن عضلاتي، فهل يُفضل أن تراني في أول مقابلة قيصراً أم سطراً شعرياً لا يغني ولا يسمن من جوع؟.. من البداية عرفت أن الغزلان لا تركض فقط في كلمات لا تظلها من اللهب، من البداية عرفت أن الجسد هو الغواية وأن المجد للجسد وسأجني بعد قليل ثمار حكمتي، أقف أمام سينابون حسب خطتنا، كل شيء متفق عليه ومختوم بختم الأشواق المشتعلة، أتريث قليلاً أمام الواجهة الزجاجية قبل أن أهاتفها، تنظر هي من أعلي فلا تستطيع أن تُجمع كل تفاصيلي، لكنها تلملم أشياءها ثم تسرع لتختبيء في غرفة الحمام وأنا عليَ أن أتعرف علي مائدة منزوية في ركن عليها رواية العطر، أجلس مقابل مقعدها الشاغر ظهري مكشوف للعالم، تطول جلستي فأتصفح "العطر" وأخرج قلمي الأسود وأقرر أن أكسر هذا الفراغ النهائي، فأكتب لها اهداءً في صدر الصفحة الأولي "هل تخيلتِ جسراً يحملني ويحملك.. كُلاً منا إلي الآخر، هذه الرواية كانت جسراً من العطر ويتأكد العطر حين أنتظرك". تطول جلستي وهي لا تحضر، يكاد الانتظار يصرعني وتنفجر عضلاتي عن أكمام القميص البرتقالي ذي الكاروهات الضيقة، يظهر الجارسون أمامي كأنه قادم من ممر أبيض وهمي ويعطني ورقة مكتوبا عليها بخط صغير منمق ثلاث كلمات غامضة تنسف هذا الغبش بين الواقعي والافتراضي، شورت وفانلة وكاب. ديل حصان في وضعية الرقص، تقف بثبات وتفرد ذراعها اليمني بموازاة ذراعي الأيسر وتضغط علي كفي، تتأكد من استقامة ساقها اليسري قبل أن تلتف ساقها اليمني حول خصري وهي ترفع رأسها لأعلي ثم تخفضها قليلاً وتنظر في عيني هذه النظرة العميقة التي تهد كياني ثم تسرقني،إنها اليوجا يا عزيزي، تجيب عن سؤالي الذي استعصي عن الخروج من فرط الدهشة، تنظر في المرآة المقابلة بتركيز كأنها تختزن صورتنا علي هذه الوضعية وتقول: عايزة نتصور كده. أدور معها وأعرف أنها لا ترغب في أن تستعير هذا المشهد ليشكل حياتنا ويثبتها علي وضعية واحدة، فأنا أشعر بتوقها لخطوات مختلفة عن خطواتنا اليومية، ولأنها تدرك أن كل شيء ممكن في الرقص، فإنها تصير أخف وزناً وأكثر التصاقاً بجسدي ولا تحذر شيئاً يجعلها أقل حماساً أو يُحولها لتكون حيادية، هنا يكون الجسد دخل نظاماً آخر بعيداً عن البرمجة العادية، يندفع إلي الصهيل في فضاء يمنح اليقين بأن ما تحت الجلد ليست شرايين تسري فيها الدماء وفقط، وإنما الحب يغذي هذه الدماء ويفرد الشرايين عن آخرها، جسدها يبدو لي بلورياً وأنا أتناقله من يمناي إلي يسراي، فيما هي تهمس في أذني وتنحني في رومانسية وخشوع كأنها تضبط إيقاعنا الخاص وتحميني من حمي جسدي التي تلهبني وتحولني إلي كرة نارية، يمتد جسدي ويرتد جسدها وينعكس الوضع، كل منا يريد أن يخطف الآخر أو أن يسرق سحره، أتوجه إليها في حركة روتينية بحمي الجسد، بينما هي تبحث عن نقطة ثابتة أوسع من مدارك الجسد، وبشطارة الراقصين في لحظة تجمع جسدي المحموم وروحها الحرة. أقول لها: فنظر نظرة في النجوم، فترد: أنا نجم عالي، بس عالي أوي و كل ما انظر تحت أخاف أنحدف عجبي !!! كان بيننا هذا المزج المثير بين الفسيخ والشربات، الحادق والحلو، الشهوانية والصوفية، المجون والحكمة، اثنان يتبادلان سحرهما ويُكملان الجزء المنقوص في الريح المسافرة، يخلقان أسطورتهما في واقع مسوّر وبيت من زجاج، بارع أنا في السحر وممارسته حتي ينطق به الصدي، أرتجل الوهم والمستحيل علي جناحي فراشة تصعد إلي آخر نقطة في الخيال، وحدها تعرف أن الأساطير يمكن أن تحدث، فتتجلي في الضوء دون أن تشعر بدائرة الساحر المخادع تُحاصرها. بحضورها تكوّنت صورتي، من الرمادي الغائم إلي الأزرق الذي يتكيء علي ضوء القمر، حرفان من حروف الأبجدية يتواري كل منهما وراء الآخر؛ يشتبك به ويمتليء وينجذبان كما يرشدهما كتاب السحر، أُغمض عيني وأفكر فيها أُرسل ترددي إلي الكون ليجلبها لي علي نفس التردد، ثم أقول لها: سخرتُ لكِ الكون. وهي لا توقف عنان خيالها عند مفترق وتمضي يقودها قلبها لتُعيد ترتيب الأحداث والحكايات، آخذ من روحها وتأخذ من سحري. لم أكن أدري أهي مسحة حزن صامتة التي تكسو وجهها المتأمل، أم هي هيئتها المنجذبة إلي ما وراء الطبيعة؟.. في قلبها زمنان يتصارعان، غدُ لا يكف عنه القلق وأمس يجر سلاسل الخوف:"انتظرتك، لكنك تأخرت"، تقولها وهي تُقلب في ألبوم الصور، فأرد مشاكساً: لا يستدعي ذكريات الصور هذه إلا مُحب، ألهذه الدرجة تحبينني؟، تُدحرج ابتسامة صغيرة وتكتفي بها رداً، لم تلتقط من صورتنا سوي الجانب الإيجابي، أرادت الحكاية أسطورة، صنعت شهرزاد ملكاً لا ينام إلا علي صوتها، لكنها لم تر شهريار ميتاً، مهجوراً، نفاية تلتقطها عصا المومسات العمياوات. صدقت ما في داخلها وآمنت بأنها الأصل والصورة، أقول لها: كل شيء نسبي، لا توجد حقائق مطلقة، وحتي قمة الهرم مدببة لا تتسع للجميع كما علمونا. فتُثبت الصورة علي وضعها رغم أنه لم يتبق منها سوي ديل الحصان لرجل شعره خفيف ومجعد. حكت لي ذات مرة ما قالته لها قارئة الفنجان، "لا تتزوجي من رجل له ذيل"، ووعدتها بيوم آخر مع رجل آخر تستعيد معه ربيعها، لكنها اختارتني أنا رجل بديل حصان، يقولون أنني متعدد المواهب، اجتماعي ومثابر، لا أخشي المجازفة ومواجهة الأخطار وأترك بصماتي أينما حللت، لكن شخصيتي المُحببة هذه، لها نقاط ضعفها أيضاً، فمع حياتي المثيرة وصخبها لا أميل إلي إنهاء ما بدأته وطبعي متقلب، حصان أُجيد الرقص والحجل وأعرف خطي الصيد وأدواته. أنسحب بهدوء من جوارها، أنحني تتشبث بي حتي تكاد تخلع جلدي عني: - رايح فين؟ - جاي تاني!! - بسرعة - حاااضر أذهب إلي الباب، أفتحه وأخرج دون تمهل أو نظرة وداع لئلا تضيع نرجسية احتفظت بها إذا لزم الأمر، وقد حان موعدها وصار في وسعي أن أُغير النهاية، فكل يوم يمر يتأكد لي أنني استوليت علي كل سحرها، أشعر بالخواء داخلها، أُطيل النظر إليها فأنتشي وأفرح وأضحك بأقصي ما استطعت دون أن أصدر أي صوت، لأنها تسدد فاتورة كل السابقات واللاحقات. تنطفيء شمعتها الآن، بعد أن فككت كل ألغازها، سأمتحن حقيقتي وأرحل من هنا بلا عودة، لن أشعر بنقص في الوجود، الحياة تسير والأصدقاء ها هنا وأساطير المعجبات لا تنفرط وسأصبح للحب نبيا! أصرخ علني أوقظ نفسي من هذا الهذيان، قبل أن تدهسني السيارة المسرعة بلا فرامل أو حلم أو روح طيبة كحبيبتي النائمة في سريرها الدافيء. ولما كانت عظيمة (حلوة ولا ملتوتة) أهوي الهوي وهمس الهوي في العيون وبسمة المغرم ودمعه الحنون وزلزلات الحب نهد الصبا أكون أنا المحبوب أو لا أكون عجبي يقولون في حواديت القرية القديمة إن عظيمة بنت العمدة المهيب ذو القلب الزجاجي، هكذا كانوا يصفونه لرهافة مشاعره وصلابتها في ذات الوقت، كاللغز المحير تارة تراه براقاً مثل الكريستال ينكسر الضوء في حضوره وينعكس نوره علي المحيطين، وتارة يكون كالزجاج المقسي حين ترتفع درجة الحرارة، فيواجه المواقف الصعبة بحسم يشد حيله ويسند جذع البلد، وحين تهدأ الأحوال يعود القلب ليتحول إلي سنبلة تشرق معها الشمس ولا تغيب. ولما كانت عظيمة ابنته بطلة حدوتة، فإن أحداً لم ينطق اسمها إلا وقال: اللهم صل علي النبي، يحكون أن أباها منحها هذا الاسم لتكون اسماً علي مسمي وهي ابنة أبيها الوحيدة بعد أن رزقه الله خمسة من الذكور، فقرر الأب الفحل في سابقة هي نادرة من نوعها في الصعيد الجواني أن يجعل ابنته، أُنثاه، فوق رؤوس أولاده، ذكوره. ولما مر جمال عبدالناصر علي الصعيد بالقطار وقفت عظيمة وسط الزحام تحاول أن تحدد مصدر ابتسامته واتجاه نظرته، ظلت تُلوّح له كثيراً وسط الزحام وكان يطل برأسه من نافذة القطار يُلوّح هو الآخر ويبتسم، فسمعت إحدي النساء تزغرد وتلهث حتي يندلق الكلام من فمها وهي تقول إن ناصر كان يبتسم لها شخصياً ورجل يحكي لرفاقه أنه كان ينظر إليه ويلوح له، وصبي يؤكد أنه نادي: يا ناصر، فرد عليه بالاسم والإشارة. الكل وقف عند مفترق يختارون أمانهم بابتسامة وتلويحة وإشارة من الرجل القوي الذي تطلعوا إلي مثابرته ولم يستطع أحد منهم أن يحدد اتجاه نظرته أو ابتسامته، كل منهم أرادها لنفسه وحصل عليها. وكانت ال"عظيمة" جدة الشاب الذي يتباهي بفحولته ويلوم جمال عبدالناصر "عمّال علي بطّال" لأنه في الزمن القديم ساوي بين كل الرؤوس وعمل مجانية التعليم، وفي ذات الوقت يمارس نرجسيته أمام عشيقاته ويحكي لهم في النور والظل عن جدته التي كانت غير كل صبايا القرية المخفية في حضن الجبل، عرف عنها ما قالته الحواديت وأفاضت عن صبية كانت عجيبة، كسرت الخرافة عند الخط السابح بين الخيال والواقع ودونت مصيرها كما يفعل الرجال في بلادها، كانت تنظر من فوق نحو الغيوم وتري السماء في متناول يدها فتخرج من دائرة طفولتها وحيدة علي جناح الصبا والأفق رهن طيرانها وأنوثتها ليست ذريعة للضعف أو السقوط، جميلة أقوي من الأحلام، يشي وجهها السافر بالريح وشعرها الحريري المتموج يركض أمامها علي الطريق ولا تجرؤ الأعين أن تلاحقها أو يُمني إنسان نفسه بنظرة حين ينشق الزرع والشجر وتخرج منه كأنها تمرغت علي العشب المبلول كتعويذة الحب غير الحذِر، كانت لا تعبأ بالأعراف والقواعد وحروف العلة، وكانت تقف مع أشقائها الشُبان علي نفس الخط وتقول: أنا!! والعجيب .. العجيب أنهم كانوا يقولون: آمين. كان الكون يعيش علي أطرافها وكانت روحها تنعكس علي منحنياته فيتخلي عن صمته الغامض حين كانت تقف علي التلة، ولما بلغت نقطة الفوران وحان زواجها، اختارت واحداً من ثلاثة رجال أشداء، قررت أن تكسر علي بابه أنوثتها ولا تنكسر، تعبث معه وتمشي علي الحبل الذي يتردد بين الفعل والاسم وتبصر ما لا يبصره الآخرون، ما يكفي أن يُحرِض الحواديت لتخطفها من الأغوار وتجعلها أسطورة في فضاء اللهفة والاحتمالات. ولما لفّت الأيام ودارت الليالي، وبعد أن أنجبت أربعاً من الإناث والذكور، تلاشت صورة الزوج الحبيب في لحظة أعلن فيها عن ضجره، ولما قالت له: أنا!! نكزها بأصابع خرقاء وخبطها بالكف، فابيض قلبها وخلا من كل الصور التي تجمعهما وأصرت علي الطلاق والفراق بعد أن تركت له الجمل بما حمل ثم هربت إلي المدينة وهي لديها هذا الولع القديم بالمجهول وتعاليها علي خوف لم تبال به يوماً، ولما كان الكل يفتش عنها وهي تسير في شوارع أوسع من حارات قريتها الصغيرة ولا يسعها أن تمسك قبضة عشب، اعتبرت العمارات العالية الخالية من القش والأفران وزرائب البهائم وعشش الطيور خراب مبين، فانفطر قلبها علي المساكين الذين يعيشون في هذه الصحراء المجنونة التي لا تحمل وعداً بشيء وتجري فيها السيارات وراء بعضها كما لو كانت تتناثر علي سفح هاوية أو كأنها تعبر من زمن إلي آخر وربما، في عبورها، تدهس البني آدمين كمن أصابتها حمي المطاردة:" أيه الخراب ده، لا خضرة ولا مية ولا خزين وشوية قش وخشب علي السطوح والله عمار يا بلدنا". كانت تحاول عبور الطريق وتقلبت قدماها علي أرض ثلجية موجعة كحد سكين بارد، بكت وتنهنهت ليس لأنها تاهت في زحام بشر يمشون في شارع يعلو ويهبط بهم وهم في حالة يصعب توصيفها إذا كانت صحواً أم إغفاءة، لكنها بكت واشتعلت فيها النار عندما رأت صورة جمال عبدالناصر ترتفع فجأة في وجهها؛ لم تفهم سر بكائها، ما الذي لم تخففه عنها هذه الصورة وهذه النظرة الممتدة إلي نقطة من الصعب تحديدها، ما هذا الكم المضاعف من الأحاسيس المختلطة بمحبة يمتليء بها القلب وفراغ يسحبها إلي المتاهة والهذيان؟ راحت تقضم أظافرها بجنون حين اقتربت أكثر من الصورة المعلقة علي جدار في الشارع وهي تدقق في تفاصيلها وتحاول أن تعيد تلك اللحظة التي رأت فيها ناصر في قطار يمر أمامها كخاطرة وراحت تبكي أكثر لأنها لم تستطع مرة أخري أن تمسك بنظرته وابتسامته، كانت تشعر أن هذه النظرة لها وحدها وهكذا كان يشعر الجميع، خاب أملها وسارت في طرقات المدينة عزلاء مطعونة بالأمان، تنقلت من حفرة إلي دُحديرة وكانت لا تكف عن أن تقول: أنا!! تحسست الصورة الكبيرة علي الجدار حين شعرت بأن في الجو ما يشي بالخطر، كانت تشب علي أطرافها وتتلمس بأصابعها المرتعشة ما تستطيع أن تصل إليه دون اكتراث بنظرات المارة وكلماتها صاحبت نحيبها: أنت البرهان، أنت الكمال والنقصان. تسمرت أمام الصورة والحجر حتي شق الفضاء الصرخة الشهيرة: ناصر مات. ولما قررت عظيمة أن تنجو من المدينة الباردة، قررت في سابقة هي أيضاً نادرة من نوعها في الصعيد الجواني أن تعود إلي قريتها في حضن الجبل، وتختار رجلاً جديداً تتزوجه ليس لأن الوحدة وحشة كما تقول نساء أخريات أو أن تشبع شبق روحها بالاتحاد في جسد ولكن لأنها قررت أن تجعل من تعدد الزيجات في عائلتها قاعدة لم يستثن منها إلا ابنها الأكبر والد الشاب المفتون بنفسه وبحكاية جدته، وإن ظلت زوجته طوال عمرها تطارده بالشك ولا تغفر له انحراف عائلته عن خط الزواج الأحادي المستقيم، أما ابنهما النرجسي فالتزم بقاعدة أن امرأة واحدة هي هدر للوقت. من مجموعة قصصية بعنوان "دومينو" تصدر قريباً عن مصر العربية للنشر ومكتبة أطياف