من الفصل الثاني من الرواية: في ملل حياتها الطويل تمنت أن تلتقي بشخصية مثل آدم. سئمَتْ حياتها الرتيبة دون مبالاة من فاروق زوجها الذي تستغرب كيف وافقت علي الزواج منه بهذه السرعة، ولم تعترض علي قرار أخيها ياسين قبل ست عشرة سنة، ليكون فاروق رفيق حياتها. هي لا تكرهه ولا تحبه. إحساس مؤلم أن تعيش دون أن يكون للأيام مذاق مميز؛ تتشابه الأيام معها كأنها تعيش نسخة مكررة من يوم واحد بلا طعم وبلا روح، ولا أمل في أضعف الأمنيات التي قد تقود إلي نوع من التغيير ولو حتي إلي الأسوأ! أما أن تستمر مع شريك دائم في حالة حياد عاطفي وفكري، فستؤدي هذه الحالة مع الوقت إلي كارثة الخواء الروحي. كل ما خرجت به من دراستها لشخصية فاروق طوال الفترة السابقة أنها حفظت عاداته جيدا، متي ينام ومتي يوقظه صياح ديكه الداخلي، ومتي يكذب ودوافع اتهامه للآخرين بالنفعية دون استثناء، وحالته عندما يستغرق في تنظيف أنفه بإدخال إصبعه بالتناوب في منخاريه أو التجشؤ بفجاجة أثناء تناول الطعام. يفكر في نفسه أكثر من تفكيره في الآخرين، ويبالغ في الاهتمام بمظهره أمام الناس ويترك لها أسوأ مناظره في البيت. رجل لا يعرف أن التجمل للمرأة من دواعي سرورها وغبطة قلبها، وأن التودد لها يشحن نفسها وروحها بالقبول علي الحياة. فشلت ليلي في إرضائه وفي إراحة بالها برضاه. تغبش في ذهنها مغزي الزواج، وتنبهت لفداحة الارتباط المتعجل في مؤسسة الزواج وفي التزام البقاء المؤبد دون محبة. لم ينتبه مرة إلي زينتها وملبسها، بل لم يلتفت إن أطالت شعرها أو قصرته. لا يثني علي طعام أو شراب جهزته ولا حتي عطر فاح من مشارفها. كل شيء يسير بشكل روتيني قصير الأجل، حتي حين يمدحها الضيوف لمائدتها اللذيذة العامرة، يزداد فخره كأنهم يتحدثون عن مطعم يمتلكه.
باغتتها فجأة حالة استنفار، ذاك الإحساس المقلق وفكرة العودة إلي البيت. تغير حال المقهي إلي ضجيج لأن المباراة كانت علي وشك البدء، دفعت حسابها سريعا وحين تأخر عليها النادل، لم تنتظر بقية الحساب وانصرفت. بدا الشارع شبه خال من الناس. رفعت يدها فوقف التاكسي تحت يدها المرفوعة قبل أن تنزلها، ذكَّرها الحال بالأفلام القديمة، حين كان الشخص يغادر بيته وينادي: "تاكسي!" فيقف أمامه التاكسي في ثوان كأنه خرج من قمقم. فرحت بأنها ستكون في البيت بضع ساعات وحدها. تتوق لهذه الوحدة التي نادرا ما تتوافر لها. الطريق كان هادئا إلا من صيحات استحسان أو استنكار من المقاهي المنتشرة علي الأرصفة. السائق أوقف شريط القرآن وحوَّل مؤشر الراديو ليستمع لوصف المباراة وعينه علي الناس بانتظار زبائن آخرين يتلقفهم في الطريق. وصلت للبيت، اتجهت فورا لتأخذ حماما ساخنا تهرب به من أفكارها المشوشة، أو بالأصح لتغسل عنها كل هذه الأفكار التي تراودها منذ أن فتحت المظروف، هل تسافر، هل تبقي، وهل تسافر مع العائلة أم وحدها كما ذكر أخوها؟ في حقيقة الأمر كانت ترغب في أن تصفي أفكارها من شوائب الطريق واليوم والسأم، وتستسلم لحلم يقظة آخر هي في أشد الحاجة إليه الآن. حين انزلقت بخفة إلي ماء البانيو الساخن شعرت بارتياح وانسجام. كان الراديو الصغير في الحمام يبث بعض الأغنيات. قديما كانت الأغنيات تشكل لها مجرد حاجز رومانسي ضد ضجيج الخارج، منذ زمن ليس قصيرا تعودت علي وضع الراديو هكذا، حتي أنها لا تغلقه أثناء وجودها بالخارج، إن لم يطربها انتشر شدوه في الأركان أثناء غيابها، علَّ روح المكان تستكين أو علي الأقل يطرد شبح الكآبة الجاثم في البيت. مر موجز الأنباء دون أن تنتبه له، بعده جاءت أغنية أم كلثوم (عودت عيني علي رؤياك) انسجمت مع الأغنية التي لم تسمعها من زمن طويل: زرعت في ظل ودادي غصن الأمل وانت رويته وكل شيء في الدنيا دي وافق هواك أنا حبيته هذه الأغنية بالذات تعيدها إلي طفولة بعيدة، بل تتذكر صيفا بعينه أرسلتها أمها لتحضر "عيش محمَّص" من فرن حَنّا. كان بعيدا والطريق هادئ والعربات قليلة والأغنية تنبعث كشعاع من نور من المحال والبيوت عبر إذاعة أم كلثوم. طوال الطريق كانت هذه الأغنية تصاحبها كلما عبرت علي دكان سمعت المقاطع تتكرر إلي أن وصلت حتي فرن حَنّا. كانت الأغنية تصدر من راديو بعيد من داخل المخبز رغم الضجيج. كانت في العاشرة، وقفت في الزحام. وقف جوارها صبي له رائحة صابون معطر، جنبه في جنبها ملتصقا بها من شدة الزحام ويحاول بصوته المسرسع لفت نظر البائع ليأخذ منه النقود، هي تصرخ مثله. كان البائع يوزع الخبز علي الكبار ويختار من الصغار من يعرف أهاليهم. التصاقها الجانبي بهذا الصبي النظيف أسري فيها رعشة خفيفة جديدة عليها تماما. رعشة داخل جذع جسمها سرت كموجة هادئة حتي انتهت من الأطراف. ابتعدت عنه لكنه بسبب الزحام عاد والتصق بها جانبيا دون قصد. رائحته ودفء جسمه أثارا فيها شعورا لذيذا لم تفهمه. لم تعد تنادي مثله علي العيش. صارت تتأمله بخفر ووجهه قريب جدا منها حتي لا تكاد تري ملامحه من هذه المسافة. كانت تمد يدها بلا صوت. حين استلم الصبي الخبز، وقبل أن يستدير، تنبه إلي أنها لم تأخذ خبزها. أعطاها خبزه لتحمله وتقف بعيدا وسألها بكم تريد. أمسك النقود منها وعاد يسرسع بصوت أقوي حتي حصل لها علي خبزها. هذه البطولة الصغيرة التي قام بها شادي- وهذا اسمه- جعلتها تشعر بامتنان لن تنساه. مشيا معا لمسافة طويلة تجاه بيتها، ترددت في أن تسأله عن محل سكنه، واكتفت بتأمله والاقتراب منه واستنشاق رائحته بعمق. رافقها حتي بيتها البعيد، ثم قال لها إن عليه أن يعود فهو يسكن في درب الشمس، خلف الفرن. حكي لها عن هوايته في جمع الطوابع. وصف لها مكان بيته فأوهمته أنها تعرف المكان. عاد وهو يلوح لها. ظلت تنظر له ورائحته العاطرة لا تفارق أنفها رغم ابتعاده. في تلك الليلة حلمت به. ظلت لأيام تتمني قدومه بألبوم الطوابع. تمنت أن تقول لأهلها إنه صديقها الذي تعرفت عليه في الفرن، وتخبر أخاها أنه وسيم ورائحته عاطرة وأنه اشتري الخبز لها بنفسه وأنها تريد أن تتزوجه في المستقبل. صارت تشم الصابون الموجود في البيت بحثا عن رائحته. سألت أمها مرة عن أنواع الصابون المعطر، فاستغربت الأم من مغزي هذا السؤال. منذ ذاك الوقت وصارت ليلي كل ليلة تستحضر رائحة عطر الصابون. تحلم بشادي أحلاما وردية وتتذكر أولي دغدغات روحها عند الفرن، ولا تفهم معني أن تسخن وجنتاها هكذا حين تتذكر هذه اللحظات. تتذكر هذه الأحداث الصغيرة كحفنة من الرمل، كلما أوغلت في التجربة وأضيفت الأعوام إلي عمرها ازدادت، حتي أصبحت خبرتها كجبل رابض، وكلما داهمتها الليالي القابضة تتساءل: "هل تصل النساء جميعا إلي النتيجة نفسها التي وصلت إليها أنا في النهاية؟ وإذا وصلن إلي ما وصلت إليه: كيف يواصلن الحياة مستمتعات؟ أم يخدعن أنفسهن؟ أم تري أن جميع النساء مثلها مجرد جسد فارقته روحه؟" وهي في الثانية عشرة جاءها الحيض للمرة الأولي، كانت يومئذ في حصة التاريخ. شعرت أولا بمغص يكاد يفتك بالمنطقة أسفل سرتها، ثم بشيء ساخن يتسرب منها، هلعت ولم تعرف ماذا تفعل، خشيت أن تكون قد فقدت سيطرتها علي نفسها وأنها تتبول بلا إرادة. رفعت يدها للمعلمة تستأذنها أن تخرج للحمام، لكن المعلمة وبختها، وقالت إنها تتهرب من الدرس وصارت تنهال عليها بكل الأسئلة، عليها فقط، وهي لا تعرف ماذا يحدث لجسدها، ولماذا هذا الكابوس، ولماذا تحولت المُدرّسة إلي ما يشبه الشيطان أمامها. بعد الحصة دخلت مُدرّسة أخري استلمت من الأولي، ولما طلبت باستعطاف مذلول من المدرسة التالية أن تذهب للحمام، لم تسمح لها أيضا. ظلت جالسة مكانها يتسرب منها شيء ساخن، يبرد تحتها، وهي في قمة الخجل والانزعاج والحيرة. انتهت الحصة. جري الجميع، بقيت هي لوقت طويل متخشبة في دكتها. رفعت مريلتها فوجدت بقعة دم صغيرة بقّعت سروالها الأبيض ونشعت علي المريلة من الخلف. ذهبت لحمام المدرسة متخفية عن عيون أي أحد، حين دخلت انهارت في بكاء ونشيج مؤلم. خلعت سروالها وبدأت تغسله من صنبور الماء البارد وهي تنتحب، ثم خلعت المريلة وظلت لوقت طويل تحاول إزالة البقعة بماء بارد ودموع حارة. لبست سروالها وخرجت وهي تشعر بقشعريرة. أحست أنه أطول زمن في تاريخها استغرقته في العودة إلي البيت، رغم أن أحدا ربما لم يشعر بها، إلا أنه تهيأ لها أن كل من يمر بها ينظر لمريلتها ويكاد يكتم تهكما ما. في البيت أرادت أن تتخفف من أحمالها، تمنت حضنا يلملم ما تناثر من روحها، سمعت عن العادة الشهرية، وعن الدم المتدفق دافئا بين الفخذين، لكنها لم تعرف السبب، ولم يشرح لها أحد ما قد يعينها إن حدث الأمر معها. أمها لم تخفض صوتها وهي تحكي لجارتهم عن هذا الحدث الذي لا يستثني بنتا، لكن رعبا أصابها بسبب تناقض المعلومات، رعب جعلها تصدق أمها عندما أخبرتها: "لابد أنك كذبت عليَّ في شيء ولم تقولي الحقيقة، وهذا عقاب ربنا، وكلما كذبت سينزف دمك حتي تجفِّي وتصيري مثل أم نوال المسلولة!" وأم نوال هي جارتهم العجوز المصابة بالسل. تسير بوهن وبانحناءة جانبية ولها سعال غريب الصوت يقبض النفس. هكذا تربت ليلي منذ ذلك التاريخ علي أن أي كذبة هي السبب فيما سيصيبها من نزيف كل شهر، نزيف يمتص حياتها ويسحبها تدريجيا للموت. لكنها كانت تستغرب، كيف يكذب أخوها كل هذا الكذب البيّن- الذي تعرفه- ولم يُصِبْهُ يوما ما أصابها. كانت تذهب مرات إلي "سَبَتْ" الغسيل، بعد كل كذبة تكتشفها له، تريد أن تري مرة سرواله ملوثا بالدم مثلها، لتستريح من خلال هذه المؤازرة الضمنية الأخوية! وصلت لحالة نشيج من البكاء المكتوم وهي تستدعي هذه الأحداث. انتبهت إلي أن ماء البانيو قد برد، مستعيدا إحساسها يوم أن برد عليها سروالها المبلول والذي مرضت بعده بالتهاب مثانتها. فتحت صنبور الماء الساخن فشعرت بارتياح وانتقال مؤقت لدفء من نوع آخر، يأتيها مع وصول صوت أم كلثوم البديع يكرر المقطع الذي يقول: قربك نعيم الروح والعين وبسمتك فرحة قلبين ونظْرِتك سحر وإلهام عايشين علي الأمل البَسّام تذكرت هذه الأيام البعيدة: الفرن ودغدغة روحها الأولي وشادي ورائحة الصابون، لكنها تأملت كلمات الأغنية من جديد. فابتسمت ابتسامة عريضة: "تُرَي.. أين أنت الآن يا آدم؟ يجب أن أعود إلي فيينا. لابد أن أوافق علي السفر!" هكذا قالت في سرها.
خرجت ليلي من الحمام منتعشة، لكنها بقيت مشوشة فكريا؛ فذكرياتها تتداعي دائما بفوضوية حين تكون وحيدة. لا تستطيع أن تتحكم في مسارها. تستسلم كل مرة علي أمل أن فتح الباب لبعض الذكريات قد يسهم في التخلص من الموجع فيها، وأنها قد تتمكن من الإمساك بالأبهي منها والإبقاء عليه، لكنها تفشل دائما، ويبرهن لها الزمن أن الذكري السيئة ما زالت قادرة علي طرد الذكري الطيبة من الذهن أو علي الأقل تشويهها. الأغنية نفسها التي ذكَّرتها بالزمن الجميل نغصت عليها بذكري أخري أليمة، اعتقدت أنها تجنبتها وهي في البانيو وأزاحتها لمكان بعيد. أغنية أم كلثوم نفسها التي كانت تملأ الشوارع والحارات والبيوت وتخرج من كل نافذة وباب في هذا اليوم البعيد. تتذكر الآن ذاك اليوم الخريفي الذي عادت فيه من المدرسة، كانت في الثالثة عشرة، وفي أسبوعها الأول في المدرسة الإعدادية، سعيدة بمريلتها الزرقاء الجديدة وبلوزتها البيضاء وضفيرتها السميكة السوداء ذات الشرائط الحمراء، كانت تردد كلمات الأغنية بشكل خاطئ لكنها سعيدة ومنسجمة باللحن، كان الشيخ عزوز جالسا أمام بقالته والراديو يلعلع بالأغنية نفسها لأم كلثوم، متربعا علي مقعدة الواطئ يتأمل المارة ويقوم لتلبية احتياجات المشترين ببطء ولامبالاة. ينشط دوما بمجرد سماع الأذان، يقوم بطقوس الوضوء باستعراض يعرفه أهل الشارع. يصب من إبريقه علي كفيه وقدميه أمام المحل متمتما بأصوات عالية يعقبها تمخضات وبصق، ليذهب بعدها إلي الزاوية القريبة تحت إحدي العمارات الحديثة لأداء الصلاة، ثم يعود بعدها ليفر مسبحته مغمضا عينيه عائشا داخل أوراده في عالم آخر. نعته الناس ب "الراجل البركة". حتي أبوها وأمها يبجلانه باستمرار بالصفة نفسها ولا تسمع منهما اسمه إلا بهذه الصورة. هذه الصورة التي رسمها لنفسه في عقول الجميع جعلتها تتردد في إخبار أحد بما فعله معها ذات ظهيرة، فمن ذا الذي سيصدقها! هي لم تفهم وقتذاك أسباب تلك الأنفاس الساخنة والارتباك الذي شمل حركته، فبدا كما لو كان شخصية مذعورة تهرب من أسد داخل فيلم كرتوني. حدث كل شيء بعد أن عرجت علي دكانه لتشتري "فُنْضام"، الحلوي التي تعشقها. سألت الشيخ إن كان عنده "فُنْضام"، فأكمل أوراده وهو يبربش لها بعينيه بما معناه: "نعم". وقفت خلف الفترينة تشب بحثا عنه. قام ودخل المحل وطلب منها أن تدخل لتساعده، ووضع لها سلما قديما مربوطا بدوبارة. دخلت وصعدت وهو يدّعي أنه يسند لها السلم حتي لا تقع. سندها في الصعود وأوحي لها أن الحلوي هناك، كلما صعدت درجة أشار إلي رف أعلي، لكنها لم تجد شيئا، داهمها إحساس غريب لم تعرف ما هو. توجست، أحست بغرابة نظرته، ثم شعرت بأن إصبعه الغليظ ينغرز في فلق مؤخرتها بالتحديد. نزلت من السلم مهرولة بينما كان يقترب منها ويزنقها في الحائط وسط المعلبات والجوالات، ويده تسحب يدها الصغيرة لتتحسس قضيبه، الذي كان في هذه اللحظة يتورم من تحت جلبابه بشكل غير مفهوم لها، بينما يده الأخري تعصر صدرها وتفرك حلمتها. قبل أن يسحبها بقبضته الغليظة من رقبتها ليقرب وجهها من الكائن العابث في الظلام، أفلتت وعبرت كعادتها من تحت "البنك" وخرجت إلي الشارع، محاولة استنشاق أكبر قدر من الهواء تنسي به رائحة كريهة تزكم الأنف تشبه رائحة الغراء. اختلط في ذهنها ما حدث لها مع شادي قبل عامين من هذا التاريخ. اختلطت رائحة الصابون مع رائحة غراء كريهة، وذكري دغدغة التلامس الطفولي مع الإصبع الغليظ المنغرس في مؤخرتها؛ ملامح شادي وملامح الشيخ عزوز؛ إضافة إلي خوفها من التصريح بما حدث لأحد. هل كان عليها أن تخبر ياسين، أو أختها، أم أن ما حدث لها عيب لا يجب أن تصرح به، هل كانت مخطئة لأنها تعشق الحلوي أم لأنها دخلت الدكان أم لأنها وافقت وصعدت السلم، أم لأن الشيخ عزوز وجد في جسمها ما أثار شهيته. هذه الحكاية تحديدا تمددت في وعيها أكثر من حجمها الطبيعي، أعادت إنتاجها عشرات المرات، وساهمت دون قصد في إنضاجها قبل الأوان، لم يكن لها التأثير السلبي كما يقول علم النفس، هذا ما أدركته بعد عشر سنوات من حدوثها، لكنها ساعدتها علي أن تضع كل لفتة يقوم بها أي رجل علي لوح التشريح، وجعل لقصص التحرش أولوية عند الحكي مع صديقات المدرسة، وأصبحت هوايتها الإنصات للموضوعات الجنسية التي تحكيها البنات للتعرف علي هذا العالم، حتي في مبالغاتهن عن قياس قضبان الرجال والأولاد ووضعيتها أسفل الملابس. "لا بأس!" قالتها لنفسها- لأن كثيرا من الوقائع التي مرت تحت بصرها أوصلتها إلي حقيقة مهمة فيما بعد- إن عقل الإنسان عضو معطل عند الغالبية، وأنها كي تخرج من دائرة الناس العاديين يجب أن تستخدمه، واكتشفت أنها في أوقات الضيق والضجر بالحياة، تغور إلي ذكري بعيدة تثير فيها أحاسيس ضاعت منها طويلا: البحث عن هذا العقل الذي يشاركها ولو جزءا يسيرا من أفكارها المهملة. تنقب عن هذا العصف المباغت اللذيذ الذي يدغدغ الفكر عبر أسئلة تعيد ترميم ما ضاع في رتابة الحياة. لقد سئمت عبر سنوات طويلة سماع الأجوبة السطحية المكررة المتخاذلة المخدرة. تحتاج الآن إلي من يفهم روحها ويرمم ما أصابها من عطب. لا تدري لماذا أصبحت تربط فيينا منذ أن زارتها، بمكان أقدم في خيالها يطلق جموح التحدي في الحياة؟ يطلق أسئلة بلا هوادة تشكك في كل شيء وتعيد ترميم الأعمدة البالية، أو تدميرها وإنشاء غيرها. بهذا الإحساس المخدر، أرادت أن تقترب من فيينا عمليا؛ أن تبحث عن السبيل إلي النسيم الذي يخفف من تنهداتها. راحت إلي اللاب توب فتحته وبحثت عن الرحلات المتجهة إلي فيينا. أرادت أن تستعلم عن مواعيد السفر، أن تتخذ خطوة واضحة للشروع في التنفيذ. وجدت رحلة يومية تتجه من القاهرة إلي فيينا بعد الظهر، لفت انتباهها أن الرحلة تحمل رقم 797. تأملت الرقم وأوقفت الشاشة عنده، لا تدري ما السبب الذي جعلها تستريح له، وجدت فيه سحرًا ما يجذبها. كأن هذا الرقم هو مفتاح لباب جنة قريبة قادمة أو بعيدة آتية؛ إلي جنة آدم، رقم سيحملها إليه لتشعر بأمان تفتقده. أراحها أكثر غيبوبتها السريعة مع رقم الرحلة 797. أحست أن الرقم 7 يمثل آدم وأن الرقم 9 يمثلها هي، تهيأ لها رمزا يحوطها به آدم. أراحها هذا، اكتفت به شعورا يغمرها بطمأنينة. نسيت بقية المعلومات التي كانت تبحث عنها. علي المائدة استقر المظروف الأصفر السميك بالصور وأوراق الدعوة إلي فيينا، رفعته لتتأمل الطابع المتلألئ مرة أخري، الطابع العريض الذي يصور قصر "الشونبرون". قربت الطابع تدريجيا حتي أنفها، كأنها أرادت أن تشم عطر هذه الحديقة- الجنة ذات المائة ألف وردة التي تغطي فناء القصر كل عام، ربما أرادت عبر خيالها أن تمحو برائحة هذه الزهور، ولو للحظات، ذكريات الروائح الكريهة العالقة التي لا تتخلص منها الذاكرة بسهولة