ربما عانيت عزيزي القارئ في بعض الأحيان من نقاش مع قليل المعرفة الذي يعتد بنفسه عالماً بأمر ما أو يعتبر نفسه من أذكى أهل الأرض لأنه يعلم بعض المعلومات البسيطة القشرية عن هذا الأمر. فنصف العالم ما هو إلا نصف جاهل، ونصف الجاهل بالنسبة للجاهل كليةً عالم. الأسوأ أن يكون لهذا نصف الجاهل جمهور جاهل كليةً فيرونه عالماً ويعتبروه قدوة أو عالماً بأمور الحياة لعلو صوته، وكذلك كثيراً ما يخطئ الجمهور العالم في نظرته لشخص بليغ، فدائماً ما تعطي البلاغة إنعكاساً بالعلم والمعرفة والثقة بالنفس، والواثق في نفسه ننظر إليه أنه يعلم وأنه صادق حتى وإن كان جاهلاً تماماً، لدرجة أنك قد تشك في معلوماتك عندما ينطق بعكسها شخص بليغ واثق من نفسه. للأسف هذا البليغ الجاهل يرى نفسه واهماً أنه متفوق عن أقرانه ومؤهل جداً للحكم على الأمور واتخاذ القرارات الحاسمة وكذلك تحديد الصواب من الخطأ. وللأسف قد يتبعه الجهلة وأنصاف المتعلمين لما رأوا منه من ثقة وبلاغة هذه الظاهرة الاجتماعية والنفسية تمت دراستها على أيدي عالمي النفس ديڤيد دانينج و چوستين كروجر، وقد أسموها "تأثير دانينج - كروجر" - "Dunning - Kruger effect". في هذه الدراسة قام الباحثون باستطلاع رأي مجموعة من الطلاب الجامعيين عن أدائهم في بعض الامتحانات، ووجدوا أن الطلاب انقسموا لفريقين، فريق أفاد بأن إجاباتهم كانت ممتازة والفريق الآخر متشككون في إجاباتهم وأفادوا بأن إجاباتهم لم تكن بالقدر الجيد. وأظهرت نتيجة الاستطلاع بأن الفريق الواثق في إجاباته حصل على درجات متدنية والفريق المتشكك حصل على الدرجات الأعلى. كذلك قام الباحثون بعمل استطلاع لرأي بعض الجنود في ميدان التدريب الحربي عن مدى معرفتهم بالأسلحة المختلفة وطرق صيانتها، فوجدوا أن الكثير من الجنود الذين استعرضوا معرفتهم بالأسلحة وأبدوا خبرات عالية كانوا الأقل في التصويب الصحيح. من الصحيح أن مانينج و كروجر قاما بتعريف هذه الظاهرة ومنحها مسمى، ولكن في الحقيقة لم يكونا أول المتحدثين عنها، بل تحدث عنها قبلهم كونفوشيوس و تشارلز دارون وكذلك المتنبي الذي قال: الجهل في كثير من الأحيان يولد الثقة أكثر مما تفعل المعرفة، وكذلك قال: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم. يتميز العالم بالتواضع وإدراك أنه لم يكمل كل العلم بعد ولم ينته من معرفة كل شيء بعد، ذلك الشخص المتفوق ليس لديه الوقت لتعلم مهارات الحديث وفن اللباقة لانشغاله بالعلم والعمل والإنجاز، أما هؤلاء الجهلة قليلو العلم والعمل منعدمي الإنجاز دائماً ما ترى أصواتهم تعلوا و جعجعتهم تغطي على فشلهم ومحدودية قدراتهم. إنهم كالطبل يصدر صوتاً عالياً لأنه فارغ من الداخل. لم يقدم مانينج و كروجر علاجاً لهذه الآفة، ولكن معرفة هؤلاء الأشخاص يجعلك تفصل بين الجاهل الجعجاع والعالم المتواضع، ويجعلك تضع حاجزاً بينك و بين الطاقة السلبية التي يصدرونها لك عند التعامل معهم أو الانصات لهم. عن نفسي أبتعد عنهم وأتجنبهم قدر ما أستطيع. ذلك الجعجاع يملأ نقص علمه بصوته العالي ويملأ نقص درايته بالتنظير والكلام المرسل، اجتنبوهم لمصلحتكم ومصلحتهم، اجتنبوهم ليعلموا نقص علمهم وضعف حجتهم، اجتنبوهم لتنعموا بحياة أقل تعقيداً وأكثر هدوءً وما أحوجنا إليها.