بعد خمسة عشر عاما من الطبعة الأولى، صدرت الطبعة الثانية من كتاب" اغتصاب الذاكرة.. الإستراتيجيات الإسرائيلية لتهويد التاريخ" للكاتب الصحفي إيهاب الحضري، الذي سبق أن فاز بجائزة أصدقاء أحمد بهاء الدين عن الكتاب نفسه. يرصد الكتاب، ممارسات إسرائيل للسطو على تاريخ المنطقة، بهدف إضفاء شرعية مُزيفة على نهب الجغرافيا، وعبر فصول العمل يُوثّق الحضري لسرقات الآثار ومحاولات تهويد التاريخ، التي قام بها الكيان الصهيوني، في فلسطين ومصر والعراق وسوريا ولبنان واليمن، فضلا عن عمليات التدمير المتعمدة للكثير من الآثار التي لا تتماشى مع السياقات التوراتية، ويربط الخيوط ببعضها ليُقدم إضاءة لمشهد قد يعتبر البعض أن تفاصيله مُنفصلة، حيث يتم التركيز عادة على بعض ما يجري في فلسطين باعتبارها الأرض المنهوبة، دون انتباه لما يجري في هضبة الجولان المحتلة، من عمليات تنقيب محمومة وتحويل أسماء أماكن كاملة إلى العبرية، اعتمادا على ما ذكره العهد القديم، أو ما حدث في جنوبلبنان خلال الاجتياح الشهير، وقيام الاحتلال بدس قطع مزيفة، يُسهم اكتشافها فيما بعد في دعم عمليات تزييف تاريخ المنطقة. ويقول الحضري:" تعامل البعض مع نهب متحف بغداد عام 2003، باعتباره جريمة سرقة قام بها الغوغاء والباحثون عن الثراء السريع، دون أن ينتبه الكثيرون إلى أن الأمر ينطلق من مؤامرة حضارية، فقبل الغزو الأمريكي انطلقت تحذيرات بأن طمس قطع أثرية بعينها قد يكون مُستهدفا، ومن بينها لوحة السبي البابلي، التي تُوثّق إذلال نبوخذ نصر لبني إسرائيل". والكتاب حافل بالمعلومات المُوثقة التي اعتمد عليها المؤلف بعيدا عن الشعارات المطاطة، غير أنه لم يكتف بذلك، ففي الفصول الثلاثة الأخيرة اعتمد على التحليل، حيث أثبت أنه لا يمكن الاعتماد على التوراة كمرجع تاريخي، واستند في ذلك إلى اتجاه علمي رسّخه علماء آثار دوليون، كشفوا التناقضات الموجودة في حكايات التوراة، وأكدوا أن الحفائر التي قاموا بها في فلسطين أوضحت عدم دقتها تاريخيا. ثم انطلق إلى تساؤل مهم عن ارتباط الوجود التاريخي بالإسهام الحضاري، رغم تأكيده أن النصوص المصرية القديمة لم تُوثّق لوجود بني إسرائيل على أرضنا، وانتهى إلى إثبات أن بني إسرائيل لم يكونوا مؤثّرين في البلدان التي عاشوا فيها، بل إن معتقداتهم ونصوصهم الدينية تأثرتْ بالحضارات المصرية والفينيقية والبابلية. وفي النهاية لجأ الحضري إلى التشكيك في أسطورتين أساسيتين تُروّج لهما الصهيونية العالمية، وهما" الديانة المُغلقة" و" العرق النقي"، ليؤكد أن يهود عصرنا ليسوا امتدادا طبيعيا لبني إسرائيل القدامى، بل أنهم قاموا بتزييف شجرة العائلة، بهدف الزعم بأنهم الورثة الشرعيون للعبرانيين! وفي مقدمة الطبعة الثانية يقول الحضري:" نحن نُركّز على الحاضر بدعاية خطابية في أغلب الأحيان، بينما يراهن العدو على المستقبل بتخطيط مُدمّر. ومجرد قراءة عابرة لمضمون هذا الكتاب تُثبت ذلك، فالخطة التي بدأت قبل عشرات السنين لم تترك بلدا ذكرتْه التوراة في حاله. امتدت عمليات السطو خارج فلسطينالمحتلة، واستهدفتْ تراث مصر وسوريا ولبنان والعراق واليمن. في هذا السياق أجدني مُضطرا لاعتراف مؤسف، فخلال مراجعتي للكتاب استعدادا لطبعته الثانية، فوجئت بكمّ هائل من التوثيق لم يجد هيئات مُتخصصة تستخدم محتواه في ضخ دعايات تفضح المؤامرة، ليس هذا فقط، بل إنني كمؤلف اكتشفتُ أن كثيرا مما رصدتُه غاب عن ذاكرتي الشخصية! يمكن إيجاد مُبررات للنسيان على المُستوى الفردي، مثل تقدّم العمر وتراجع الذاكرة، لكنه يتحوّل على مُستوى المؤسسات المختصة إلى خطأ فادح بمذاق الجريمة. ما ينطبق على التوثيق يشمل الشق التحليلي، فرغم كل محاولات إثبات أن التوراة ليست كتاب تاريخ يُعتمد عليه، نجد وجهات نظر تخرج في بلداننا، من علماء دين يوصفون عادة بالمُستنيرين، تساهم- بكل براءة!- في تشكيك الأجيال الجديدة في عظمة تاريخهم، عبر ربْط ملوك مصر القديمة بأحداث التوراة".