حوار س. ج. بوليكرونيو - ترجمة: رفيدة جمال ثابت لا يتوقف المفكر الأمريكى الشهير نعوم تشومسكى عن إبداء رأيه فى كل ما يقع فى العالم تقريبًا، خاصة إذا كانت أزمة تخص العالم العربى، وفى القلب منه القضية الفلسطينية. والحقيقة أن كل قضاياه عادلة، وصوته يمثل صوت الضمير الإنسانى فى عالم يسعى لتجاهل آلام الآخرين، البعيدين عنهم، حتى يبدو مجرد التضامن عتبة لا يمكن للغرب تخطيها. هنا حوار مع تشومسكى على خلفية أحداث الشيخ جراح وتدمير غزة، يؤسس فيه لأصل القضية، ويمنح لمن لا يعرف الحقيقة فرصة أخرى ليعرفها. فى البداية أود منك أن تضع فى السياق الهجوم الإسرائيلى على الفلسطينيين فى المسجد الأقصى وسط الاحتجاجات على الإخلاء، ثم هجمات الغارة الجوية الأخيرة على غزة. ما المستجدات؟وما الذى لم يتغير؟وإلى أى مدى ترتبط هذه الجولة الأخيرة من العنف الإسرائيلى الاستعمارى الجديد بنقل ترامب للسفارة الأمريكيةإلىالقدس؟ هناك على الدوام تطورات مفاجئة ومنعطفات جديدة، لكنها بشكل رئيسى قصة قديمة، تعود إلى قرن مضى،واكتست بأشكال جديدة بعد انتصارإسرائيل في67، وبعد القرار الذى اتخذته الجماعات السياسية الكبرى منذ 50 عاماً باختيار التوسع عوضاً عن الأمن والاستقرار الدبلوماسى، وتوقع (وتلقي) الدعم الدبلوماسى والمادى من الولاياتالمتحدة على طول الخط. لطالما تبنت الحكومة الصهيونية هدفاً راسخاً طويل الأمدو المتمثل ببساطة فى التخلص من الفلسطينيين واستبدالهم بالمستوطنين اليهود باعتبارهم» أصحاب الأرض الشرعيين» الذين يعودون إلى وطنهم بعد قرون من المنفى.فى البداية،اعتبره البريطانيون، أصحاب السلطة حينذاك، مشروعاًشرعياً. وقد أجاداللورد بلفور، صاحب الإعلان الذى منح اليهود «وطناً قومياً» فى فلسطين،التعبير عن المعيارالأخلاقى للنخبة الغربيةحينما قال إن: «الصهيونية، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة، حسنة أم سيئة، ضاربة بجذورها فى تقاليد عريقة، ومتأصلة فى متطلبات اليوم وتطلعات الغد، وتفوق أهميتهامطامح وتحيزسبعمائة ألف عربى يقطنون الآن فى تلك الأراضى العتيقة».لقد اتسمت السياسات الصهيونية منذ ذلك الحين بالانتهازية. ومتى سنحت الفرصة،كانت الحكومة الإسرائيلية -والحركة الصهيونية بأكملها- تطبق استراتيجيات الإرهاب والإجلاء. وحينما تكون الظروف مناوئة، تلجأ إلى وسائل معتدلة. منذ قرن مضى،كانت الخطة تشييدبرج مراقبة وجدار فى غفلة من العيون، وسرعان ما يتحولان إلى مستوطنة، حقائق على الأرض. النظير لذلك ما تفعله إسرائيل اليوم من طرد آلاف العائلات الفلسطينية من ديارهم المستقرين فيها لأجيال. ومما لا يدعو للشك أن المزاعم القانونية غير المنطقية لطرد الفلسطينيين (قوانين الأراضى العثمانية وغيرها) هى مزاعم عنصرية بشكل قاطع. إن إسرائيل لا تفكر مطلقاً فى منح الفلسطينيين حق العودة إلى ديارهم التى طردوا منها،بل ولاحق البناء فوق ما تبقى لهم. لقد سمح انتصارإسرائيل فى 1967 بتطبيق إجراءات مماثلة على الأراضى المحتلة، فى انتهاك صارخ للقانون الدولى، مثلما تلقى القادة الإسرائيليون الأوامر مباشرة من سلطاتهم القانونية الأعلى. ونُفذت المشروعات الجديدة بسهولة ويسر بعد التغير الجذرى فى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية. بشكل عام اتسمت العلاقات قبل 67 بالود الذى يكتنفه الغموض. بعد الحرب بلغت العلاقات أوجها بالدعم غير المسبوق لدولة تابعة.كان الانتصار الإسرائيلى هدية عظيمة للحكومة الأمريكية. ونشبت حرب بالوكالة بين الإسلام الراديكالى (والذى كان مقره فى السعودية) والقومية العلمانية (مصر فى عهد عبد الناصر). مالت الولاياتالمتحدة،مثلما سبقتها بريطانيا، إلى تفضيل الإسلام الراديكالى، والذى اعتبرته أقل تهديداً لهيمنتها الاستعمارية. وقضت إسرائيل على القومية العلمانية العربية. كان التفوق العسكرى الإسرائيلى مثار إعجاب القيادة العسكرية الأمريكية فى 1948، وانتصارها فى 67 أوضح بجلاء أن قيام دولة إسرائيلية عسكرية يمكن أن يشكّل قاعدة وطيدة للنفوذ الأمريكى فى المنطقة، كما يتيح خدمات ثانوية مهمة فى تعزيز ودعم الأهداف الامبريالية الأمريكية فيما بعد. أفضت السيطرة الأمريكية على المنطقة إلى الاستقرار على ثلاث ركائز أساسية: إسرائيل،والسعودية،وإيران (والتى كانت حينها تحت حكم الشاه). نظرياً، كانوا جميعاً فى حالة حرب، لكن على أرض الواقع كان التحالف وثيقاً، لاسيما بين إسرائيل والحكم الديكتاتورى الدموى فى إيران. فى هذا الإطار الدولى،أمكن لإسرائيل تبنى السياسات التى دامت حتى اليوم، يصحبها دائماً الدعم الأمريكى الضخم برغم نوبات الاستياء من حين إلى آخر. الهدف السياسى الذى يتربع على قائمة أولويات الحكومة الإسرائيلية هو بناءدولة «إسرائيل الكبرى»،شاملة «القدس» الممتدة بشكل واسع بما فيها القرى العربية المحيطة، ووادى الأردن، وجزء كبير من الضفة الغربية بجانب الكثير من أراضيها القابلة للزراعة،والقرى الكبرى داخل الضفة الغربية،بالإضافة إلى مشروعات البنية التحتيةالمقتصرة على اليهود فحسب ودمجها فى إسرائيل. يتجاهل هذا المشروع المناطق التى يتركز فيها الفلسطينيون، مثل نابلس، لتحاشى ما يطلق عليه القادة الإسرائيليون»المشكلة السكانية» المفزعة؛والمتمثلة فى وجود أعداد غفيرة من غير اليهود فى «الدولة اليهودية الديمقراطية» المتصورة فى «إسرائيل الكبرى»؛مصطلحان متناقضان يصعب استيعابهما مع مضى الأعوام. الفلسطينيون داخل «إسرائيل الكبرى» متقوقعون فى 165 منطقة معزولة، يفصلهم عن أراضيهم وبساتين الزيتون جيش غاشم، ويتعرضون للهجمات المتواصلةالتى تشنها عصابات يهودية متشددة(حركة شباب التلال) التى يحميها الجيش الإسرائيلى.فى ذات الوقت، استقرت إسرائيل واستولت على مرتفعات الجولان والذى يعد انتهاكاً لأوامر مجلس الأمن (مثلما فعلت فى القدس). إن قصة المجازرالواقعة فى غزة تتسم بالتعقيد والتشابك بشكل لا يتيح لنا سردها هنا. إنهاواحدة من أسوأ الجرائم المعاصرة، التى يغلفها شبكة متينة من الخداع وتبريرات الجرائم الوحشية.تجاوز ترامب سابقيه فى إطلاق العنان للجرائم الإسرائيلية. وكانت أحد الأسباب الرئيسية اتفاقيات التطبيع (اتفاقيات إبراهيم)، والتى أضفت الطابع الرسمى على اتفاقيات قديمة ضمنية بين إسرائيل والعديد من الأنظمة الدكتاتورية العربية؛ مما خفف من القيود العربية على عنف إسرائيل وتوسعها.كانت تلك الاتفاقيات عنصراً رئيسياً فى رؤية ترامب الجغرافية الإستراتيجية؛ ألا وهى بناء تحالف رجعى بين دول وحشية قمعية، تمتد من واشنطن،مروراًبالبرازيل (جايير بولسونارو)، والهند (ناريندرا مودي)، والمجر (فيكتور أوربان)، وانتهاءً بآخرين أمثالهم. كما تخدم اتفاقيات التطبيع هدفاً آخر لترامب وهو دمج مناطق الموارد الرئيسية المطلوبة للتعجيل بكارثة بيئية تحت مظلة واشنطن، وهى القضية التى كرس لها ترامب وأنصاره جهودهم بحماس منقطع النظير. ويشمل ذلك المغرب، والتى تحتكر بشكل شبه كامل الفوسفات المطلوب فى الزراعة الصناعية التى تدمر التربة وتسمم الجو. ولتعزيز هذا الاحتكار المغربى، اعترف ترامب رسمياً باحتلالها الوحشى وغير الشرعى للصحراء الغربية وصدق عليه؛ إذتتمتع تلك المنطقة أيضاًبمخزون كبير من الفوسفات. والملاحظ أن إضفاء الطابع الرسمى على التحالف بين بعض دول العالم الأكثر عنفاً وقمعاً ورجعية لقى استحساناً كبيراً لدى طوائف مختلفة. حتى الآن، تولى بايدن زمام تلك البرامج. فقام بإلغاء الأعمال الوحشية غير المبررة التى سمح بها ترامب. من ناحية أخرى مازال النظام الإجرامى الذى شيده ترامب وكوشنر قائماً، برغم أن بعض المتخصصين فى شئون المنطقة يعتقدون أنه ربما يتداعى مع الهجمات الإسرائيلية المتكررة على المصلين الفلسطينيين فى المسجد الأقصى وممارساتها العنيفة الأخرى. المستوطنات الإسرائيلية فاقدة للشرعية القانونية، فلماذا تواصل الولاياتالمتحدة تقديم الدعم لإسرائيل منتهكة بذلك القانون الأمريكى، ولم لا يسلط المجتمع التقدمى الضوء على هذه اللاشرعية؟ لطالما كانت إسرائيل دولة عميلة ذات قيمة منذ إظهار تفوقها فى العنف فى 67. القانون ليس عائقاً. على مر السنين اتسم موقف الحكومات الأمريكية تجاه القانون الأمريكى بعدم الاكتراث، متشبثاً بالممارسات الاستعمارية المعهودة. على سبيل المثال، ينص الدستور الأمريكى على أن المعاهدات التى تبرمها الحكومة الأمريكية هى «القانون الأسمى للبلاد». المعاهدة الرئيسية التى أُبرمت بعد الحرب هى ميثاق الأممالمتحدة، والتى تحظر «التهديد باستخدام القوة» فى العلاقات الدولية. هل هناك رئيس أمريكى لم يخرق هذا الشرط؟ على سبيل المثال، إعلان أن كل الخيارات متاحة إن عصت إيران أوامر الولاياتالمتحدة، ناهيك من تلك الأمثلة النموذجية لما يُسمى «جريمة دولية عظمى» (محاكمات نورمبرج) مثل غزو العراق.ينبغى أن تثير الترسانة النووية الإسرائيلية الضخمة، فى ظل القانون الأمريكى، تساؤلات جدية بشأن شرعية المساعدات الاقتصادية والحربية التى تقدمها أمريكا إلى إسرائيل. هذه الصعوبة تم التغلب عليها بعدم الاعتراف بوجودها،إنها مهزلة فاضحة، ويترتب عليها الكثير، مثلما ناقشنا فى موضع آخر. إن المساعدات الحربية الأمريكية المقدمة إلى إسرائيل تخرق أيضاً «قانون ليهي»، والذى يحظر تقديم المساعدات الحربية إلى جماعات متورطة فى انتهاكات حقوق الإنسان بصورة منهجية. والقوات المسلحة الإسرائيلية تزخر بالعديد من المرشحين.لقد بادرت بيتى ماكولوم، عضو حزب الكونجرس، بمواصلة تنفيذ هذا المشروع، والذى ينبغى أن يكون على قائمة أولويات الأفراد الذين يقلقهم الدعم الأمريكى للجرائم المروعة التى ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين. بل إن تهديد تدفق المساعدات الضخم بمقدوره أن يحدث تأثيراً جذرياً.