كتب:هانئ مباشر هى سيدة المقام الرفيع التى تنحنى لها الرءوس، وتنثنى أغصان القلب اعتزازا وفخرا بمن أنجبت، ورفعت نشيد الصبر ملحاً لجروح أدماها الفراق، كما بقدر ما توجتها التضحية أكاليل أوسمة فخر، تمسك بطرف الذاكرة خيطا رفيعا كأنه مسبحة الصلاة، وهى أم ولكنها ليست كمثل بقية الأمهات، حملت ابنها مرتين، مرة فى بطنها وليدا ومرة على رأسها شهيدا.. هى "أم الشهيد"، هى "حكاية وطن". بل هى حكاية أكبر، حكاية كبيرة بحجم السماء والأرض، حكاية كل أم كرمها المولى عز وجل وميزها دون باقى الأمهات بمنحها ذلك اللقب العظيم، "أم الشهيد"، لقب لم يمنحه لها إلا لأنه يعلم مقدار الصبر الجميل الموجود بقلبها، وعظمة روحها على مواجهة ذلك الحزن الذى يحرق قلوب أقوى الرجال فما بالنا بمن ينتزع منها الجزء الأكبر من روحها وقطعة منها. وعلى مدى السنوات الماضية شاءت الظروف أن ألتقى وأقابل كثيرا من "أمهات الشهداء"، كنت أستغرب من ملامح الهدوء والسكينة وقوة الصبر التى كانت تحيط بهن وهن يتحدثن عن فلذات أكبادهن من الشهداء على الرغم من أن كلامهن كفيل وكما قلت قادر على حرق قلوب أقوى الرجال. "حبيبى ياعمر حبيبى ياضنايا وحشتني".. أكاد أشعر بحرقة قلب، السيدة الفاضلة هالة إسماعيل والدة الشهيد النقيب عمر خالد سلامة، الذى كان يلقب بين زملائه بلقب "النينجا" لبراعته الشديدة فى كل العمليات الخاصة التى كان يشارك فيها قبل استشهاده فى سيناء" والنار التى بداخلها وهى تنطق باسم ابنها، لكن تماسك الصابرات المحتسبات المؤمنات بقضاء الله وقدره. "ابنى شهيد بطل أخذ حقه وحق زمايله واستشهاده مكافأة، كمان الحمد لله رب العالمين، لكن لسه ما أخدتش حقى كأم فقدت ابنها وسوف آخذه أمام رب العباد لأن قلبى عمره ما يهدى ولا دموعى ستتوقف إلا لما أقابل "ضنايا"، الله يحرق قلوبهم..الله يحرق قلوبهم". تواصل أم الشهيد كلامها وتقول: كل ما أقوله وينطق به لسانى هو مجرد هوامش، أما النص الحقيقى فهو فى القلب عصى عن الكتابة، فحين يمر علينا الوقت نكتفى بالصمت والنظر لصوره، من يصلح أصابعى التى تلفت وهى تتلمس وجهه فى الصور، أحقا رحل، أحقا لم يعد بيننا فتدمع العين ويبكى القلب ونكتم صرخة لا يعلم ألمها إلا الله. ربما تمر الروح بأيام ثقيلة محملة بكل حزن وضيق ويتحير شعورك بين الاستسلام والخضوع، رحم الله وجها أحن إليه ولم أعد أراه، ورحم الله روحا نقية كسرنى غيابها ووجعنى رحيلها واشتاق للقائها، فاللهم اربط على قلبى وقلب كل أم أعياها الشوق والحنين وارضى عن ابنى وتقبله عندك من الشهداء وأحسن ختامنا واجمعنا به يا أرحم الراحمين. وحتى هذه اللحظة.. مازالت "لسيدة الفاضلة فاطمة عباس والدة الشهيد على على السيد أحد شهداء كمين "البرث" كلما رأت أحدا من زملاء ورفاق سلاحه بل أى ضابط أو مجند يمر أمامها إلا وقامت باحتضانه بشدة: "أصل أنا باحس على ماشى جمبهم وأشم رائحته"! "فحتى هذه اللحظة وعلى الرغم من مرور عدة سنوات على استشهاده مازلت أشعر أنه حى ومازال يقاتل فى سيناء حتى الآن، لقد استشهد بعد أن ظل يقاتل كرجل لآخر لحظة وبعد أن تلقى أكثر من 60 طلقة وزفيته للسماء ومتأكدة أنه مستنينى وهايكون لى شفيع عن ربنا يوم الحساب". ثم تنظر إلى صورة كبيرة له معلقة فى برواز وبدت وكأنها تحدثه: "عمرك مازعلتنى وعمرك ماخرجت عن طوعى وعن تربيتى لك حتى فى معركتك الأخيرة كنت تقوم بتطبيق المبدأ الذى قمت بتربيتك عليه، "قبل ما تحط يا ابنى رجلك حط كفوفك وحط عدوك فى الأرض"، بطل يا على يا سيد الرجال ومتشكرة على أغلى هدية ولقب منحته لى وهو لقب "أم الشهيد"، وإن شاء الله اللقاء فى الجنة".. من قال إنى حزينة؟! لقد قمت بمنع جميع النساء الذين التفوا حولى يحاولون مواساتى لحظة جنازته من البكاء أو "الصويت"، وقمت بإطلاق الزغاريد، وده حقه لأنه كان عريس يزف للسماء وأعلم أن الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين وبقية الشهداء فى انتظاره..هكذا وبتلقائية شديدة وبهدوء أشد كان بداية كلام "السيدة الفاضلة فاطمة شاهين والدة الشهيد عبده عبدالحى أبو النور": "ابنى بطل من أبطال مصر، وأكرمه المولى عز وجل واصطفاه ليكون من الشهداء، ابنى منذ ولادته وحتى لحظة استشهاده ونحن نتشرف به، كان حسن الخلق وحريصا على أداء الصلاة فى مواعيدها ويشهد الكل بذلك، وسيظل رمزا للتضحية والفداء كغيره من أبناء مصر المخلصين، ولم أشعر بأننى فقدته، وإنما سبقنا إلى دار الآخرة، وكما قال الله تعالى "ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، وسوف أتشرف به يوم القيامة، وحتى تأتى لحظة اللقاء المكتوب لا أملك إلا التسلح بالإيمان والاستعانة بالله للصبر وتحمل غيابه". ثم تقول لى نفس المعنى الذى قالته أم الشهيد عمر خالد: "سأظل منتظرة حكم ربنا يوم الحساب، من قاتلى ابنى والذين استشهدوا وأريقت دماؤهم بغير حق"!