عبدالله البقالى لم نكن فى حاجة إلى من ينبهنا للخطورة البالغة التى أضحت ترتبط بقضية الديون الخارجية المتراكمة بذمة الدول الفقيرة،المحتاجة اقتصادياتها بصفة دائمة إلى جرعات كافية من الأوكسجين لتبقى فى غرفة الإنعاش المركز، ولا إلى من يشعرنا بالارتفاع المتواصل لحجم هذه الديون، وما يشكل هذا الارتفاع من صعوبات وتحديات وإكراهات للاقتصاديات الضعيفة والناشئة على حد سواء، فالخطورة ليست فى حاجة إلى تأكيد، لأنها أضحت من باب القول إن السماء فوق رءوسنا، ولأنه أضحى مؤكدا منذ فترة طويلة من الزمن، أن قضية الديون العالمية ليست بتلك الصورة الإنسانية، التى تقدم بها إلى الرأى العام، وليست بتلك القيمة الفضلى التى يتم الترويج الإعلامى لها، والتى تحاول رسم مشاهد سوريالية لدى الانطباع العام، حيث تسارع الاقتصاديات الكبرى والعظمى إلى إسعاف الاقتصاديات الضعيفة والعليلة، بل إنها فى حقيقتها، التي لم تعد خافية على ناظر، آلية من الآليات المدمرة التي توظفها وتستخدمها القوى الاقتصادية العظمى في العالم، للحفاظ على النظام الاقتصادي العالمي السائد، والذي يمكن هذه القوى من مواصلة واستدامة التحكم في مسارات وتوجهات الاقتصاد العالمي، ومن استمرار الإمساك بالشكيمة، لذلك كله وغيره كثير جدا فإن ما كشف عنه معهد التمويل الدولى فى تقرير نشره قبل أيام قليلة حول الدين العالمي، لا يمكن القول إنه جاء بجديد ما فى هذه القضية، التى تمثل أحد أهم الانشغالات فى الأوساط السياسية والاقتصادية العالمية، عدا كشفه لإحصائيات ومعطيات صادمة جدا، تؤكد أن معضلة الديون الخارجية تزداد استفحالا، وأنها تعرى عورات النظام الاقتصادى العالمي، بحيث أكد التقرير أن الدين العالمى يتجه صوب اختتام سنة 2019، عند مستوى قياسى جديد وغير مسبوق سيزيد على 255 تريليون دولار (255 ألف مليار دولار)، وهو مبلغ خيالى يزيد على ثلاثة أضعاف الناتج الاقتصادى السنوى للعالم، ويعنى بلغة الحسابات أن نصيب كل شخص من سكان البسيطة البالغ تعدادهم حوالى 7٫7 مليار نسمة، من حجم الدين العالمي يصل إلى 50032 ألف دولار، مع الإشارة إلى أن شعوب الدول الغنية المانحة لهذه القروض ليست معنية بما يترتب عنها، وبذلك، فإن معدلات هذه الديون تكون جد مرتفعة بالنسبة لشعوب الدول الضعيفة المستفيدة منها، وفى ضوء ذلك يمكن القول إن نصيب كل فرد من شعوب هذه الدول، بذمته عشرات الآلاف من الدولارات الأمريكية المترتبة عن ديون لم يكن مسؤولا عنها فى يوم من الأيام. ويضيف التقرير أن الاقتراض المرتبط بالدول يعتبر المحرك الأكثر أهمية للدين العالمى على امتداد العشر سنوات الماضية. إن استدانة الدول الفقيرة بهدف إنعاش اقتصادياتها، بجرعات من الأوكسجين لكى تحافظ على الحد الأدنى، الذى يضمن لها الاستمرار فى الحياة على الأقل ليست بالظاهرة الحديثة، التى ارتبطت بالنظام الاقتصادى العالمى الجديد، بل إنها قديمة قدم قيام الدولة بمفهومها المتداول، وقبل ذلك، كانت سائدة فى أشكال تقليدية أخرى تؤشر على التعاون والتكامل الاقتصادى بين البشر فى مختلف أنحاء المعمور، لكن الحالة التى أضحت عليها اليوم وارتباطها بسياسات اقتصادية دولية معينة، وبتنظيمات وبقواعد أعطتها هوية جديدة، وحولتها من شكل لتحقيق العدالة بين كافة الشعوب، عبر التكامل والمساعدة، إلى آلية من آليات استدامة التفاوتات بين الاقتصاديات العالمية، وتكريس الهيمنة والتبعية من طرف القوى الاقتصادية العالمية، وقد تكون سنوات الستينيات من القرن الماضى الفترة الزمنية، التى تشكل فيها المفهوم الجديد للديون العالمية، حيث عرفت تلك العشرية استقلال مجموعة من المستعمرات، وخرجت العديد من الأقطار منهوكة القوى من مرحلة استعمارية كانت جد مكلفة، فى حاجة ملحة إلى دعم مالى لمواجهة متطلبات بناء استقلالها الوطني، بيد أن الدول المستعمرة انتعشت بفائض مالى ضخم، مما استنزفته من المستعمرات ومكنها من أن تعيش إفراطا فى السيولة المالية، وتفطنت هذه الدول إلى الأهمية البالغة، التى يكتسبها نقل هذا الفائض من وفرتها المالية إلى دول العجز المالي، لكن بالصيغة التى تحفظ لها الأموال المقترضة من جهة، بحيث تشير المعطيات والإحصائيات المتعلقة بهذه القضية إلى أن الدول المانحة للقروض تستفيد سنويا بما قيمته 600 مليار دولار، نتيجة خدمة الديون الخارجية العالمية، ويحفظ لها نفوذها على المستعمرات، بما يجعلها متحكمة فى القرارات السياسية والاقتصادية لتلك الدول، من جهة ثانية، وهكذا، وإن كانت الدول المانحة للقروض تدرك جيدا عدم قدرة الدول المستفيدة منها على السداد، إلا أنها كانت، ولاتزال، تواصل إغراقها بالديون بشروط تعجيزية، الشيء الذى أبرز المفهوم الجديد للدين العالمي، الذى أضحى خدوما لأجندة سياسية واضحة للدول العظمى، ولذلك، لا نجد غرابة تذكر فى اشتراط مؤسسات مالية عالمية منح القروض بشروط تقليص الميزانيات القُطرية، المتعلقة بالصحة والتعليم وبالخدمات الاجتماعية وبرفع قيمة الضرائب، وإن لم تكن هذه المؤسسات المالية فى نهاية المطاف غير تجمع للقوى الاقتصادية العالمية، والتى نجحت من خلال هذا الشكل بالتدخل المباشر فى السياسات الاجتماعية والاقتصادية لدول الاقتصاديات الضعيفة. إذن، لم نكن فعلا فى حاجة لمن يثير انتباهنا إلى ارتفاع قيمة الديون المالية العالمية، ولكنا فى حاجة ملحة إلى من يخلص رقاب النظام الاقتصادى العالمى من قبضة هذه الآلية المدمرة، التى تفرغ العلاقات الاقتصادية الدولية من محتواها الإنساني، وتجردها من قيم التعاون والتكامل الحقيقى بين الشعوب فى مختلف أنحاء المعمور.