دول عظمى فى ما يرعبنا ويخيفنا عبدالله البقالى إذا كانت كثير من التقارير التى تواظب منظمات غربية متخصصة على إصدارها بصفة دورية، تتغيا رصد حيثيات الواقع بما يساعد على معالجة الاختلالات وتصحيح الأخطاء وتدارك النواقص، فإن بعضها على الأقل يمكننا من إدراج التطورات التى تكتظ بها الأوضاع العالمية فى سياقها الصحيح، مما يساعد على فهم ركام هائل من الخلفيات التى يقع الحرص على إخفائها والتستر عليها. وفى هذا السياق، نقرأ بعيون نقدية ما كشف عنه التقرير الأخير الصادر قبل أيام قليلة عن معهد ستوكهولم الدولى لأبحاث السلام المعروف اختصارا ب (سيبري)، والذى يستعرض بدورية سنوية حجم الإنفاق العسكرى فى العالم، من حقائق مذهلة تُظهر طبيعة العلاقات الدولية، وتقدم تفسيرا مقنعا للأحداث المتواترة والمستجدة فى الكثير من مناطق العالم. فقد أكد التقرير الأخير لهذا المعهد، أن حجم تجارة الأسلحة فى العالم ارتفع خلال السنوات الخمس الفارطة بنسبة 10 بالمائة، وأن المبلغ المالى الإجمالى لحجم هذه التجارة حقق خلال السنة الماضية وحدها رقما قياسيا وصل إلى أكثر من 1،8 ترليون دولار أمريكى (وللذين لا يفقهون كثيرا فى لغة الأرقام المالية الخيالية فإن 1،8 ترليون دولار تعنى 1822 مليار دولار أمريكى صرفت على تمويل ما يساهم فى دمار الإنسانية)، بزيادة وصلت إلى 2،6 بالمائة مقارنة مع ما حققته هذه التجارة خلال السنة التى قبلها، وهو مبلغ مالى خيالى يضاعف عشرات المرات الميزانيات المخصصة لخدمات التعليم والصحة والسكن والاستثمارات وغيرها.. وكثير من القطاعات الاستراتيجية التى تتوقف عليها حياة الإنسان فى العشرات من دول العالم. وهذا يعنى أيضا، بلغة المتخصصين الذين يحسنون الحسابات العلمية فى مثل هذه الأمور ويدققون فى منطق المقارنات، أن نسبة كل فرد من سكان العالم من هذا المبلغ الإجمالى وصلت إلى ما قيمته 239 دولارا للفرد الواحد، وهو مبلغ يتجاوز بكثير معدل الدخل الشهرى لملايين الأشخاص فى العالم الذين يواجهون صعوبات جمة وإكراهات حقيقية فى ضمان الحد الأدنى من مستوى العيش الكريم، وقد يناهز الدخل السنوى للفرد فى دول أخرى غارقة فى أتون التخلف والفقر. ويوضح التقرير ذاته، أن دولا عظمى بعينها من قبيل الولاياتالمتحدةالأمريكية وروسيا وفرنسا وألمانيا والصينوالهند تحتكر هذه السوق المدمرة، وأن الولاياتالمتحدةالأمريكية تربعت على مقدمة الدول المسوقة للأسلحة فى السوق العالمية حيث باعت الإدارة الأمريكية ثلث الأسلحة العالمية فى السنة المنقضية ل 98 دولة فى مختلف أصقاع المعمورة. وقد يساعدنا مقال نشرته مجلة (الإيكونومست) الاقتصادية البريطانية نسبيا على فهم حرص الإدارة الأمريكية على الرفع المتواصل فى تسويقها للأسلحة فى العالم حينما أوضح أن مرد ذلك إلى «الرد الأمريكى على الإنفاق العسكرى الصينى المتزايد فى فترة رئيس الصين الحالي، شى غين بينغ، مما فرض على منافسى الصين الإقليميين الرفع من حجم إنفاقهم العسكري، إذ أنفقت الهند على الأسلحة أكثر من أى دولة أوروبية، فيما كان الإنفاق العسكرى الكورى الجنوبى فى عام 2018 الأعلى منذ 2005، لكن هذا المقال المتخصص غير قادر على تبرير هذا الإفراط المذهل فى التسويق العالمى للأسلحة بالأسباب التى حددها فى تنامى وتيرة التصعيد من طرف المنافسين الإقليميين للصين، لأن المضامين الخطيرة لتقرير معهد (سيبري) تكشف معطيات أكثر أهمية وخطورة، تفسح المجال لأسباب حقيقية أخرى تعتبر أكثر إقناعا، فهذه المضامين تؤكد أن ست دول من بين الدول العشر الأوائل التى يمثل بها الإنفاق العسكرى الجزء الأكبر من الناتج المحلى الإجمالى والذى يطلق عليه أيضا (العبء العسكري)، تقع فى منطقة الشرق الأوسط، وأن متوسط هذا الإنفاق فى هذه الدول الست بلغ فى السنة الماضية 4،4 فى المائة من إجمالى الناتج المحلي. وتزيد هذه المضامين فى التوضيح، بأن نصف مبيعات الإدارة الأمريكية من الأسلحة خلال السنة الفارطة تركزت فى منطقة الشرق الأوسط. وهذا ما قد يساعد على الفهم الصحيح والدقيق لطبيعة الحروب المشتعلة فى هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم، كما قد يفسر حجم التنافس المحموم نحو التسلّح بين دول تجمعها عوامل الدين واللغة والحضارة، وتفرق بينها حسابات سياسية صغيرة وكبيرة فى تربة سياسية تغذيها عوامل خارجية بصفة رئيسية. وليس من باب المصادفة، أن تمثل منطقة غنية وزاخرة بموارد مالية مذهلة سوقا لأسلحة الدول العظمى، بما يعنى إلهاءها عن تمويل مظاهر التنمية الحقيقية، وما يضمن ويوفر أسباب النمو والتطور فى منطقة تزداد وتتنامى فيها الحاجة الملحة لهذا التطور. ليس غريبا القول إن حجم الإنفاق العسكرى العالمي، يكشف زيف الشعارات التى لا تتوانى الدول نفسها المسيطرة على هذه التجارة المدمرة عن رفعها فى كل لحظة وحين حول تجويد عيش الأفراد والجماعات فى مختلف أصقاع المعمورة، وهى نفس الدول التى تغذى ميزانياتها من تجارة تدمر هذا الإنسان. وليس غريبا أيضا القول إن مثل هذه الحقائق المرعبة، تضع مصداقية الجهود الأممية فى التصدى لمظاهر الفقر والمجاعة والجهل والأمراض وغيرها كثير فى العالم محل مساءلة حقيقية. إلى اللقاء فى تقرير جديد يزيد من قناعتنا الراسخة، بأن القوى العظمى إنما هى عظمى فيما يقلقنا ويخيفنا.