كم هي دوله ضعيفة.. تلك التي تقوم عقيدتها علي الخيانة والخداع .. تلك الدولة التي قامت بوعد وتأسست علي دماء العرب.. أما الوعد فهو وعد بلفور الحاكم البريطاني آنذاك علي الإقليم الفلسطيني فأعطي من لايملك وعدا لمن لا يستحق بتأسيس وطن قومي لليهود بفلسطين .. أما الدماء فكانت دماء العرب عندما استولت إسرائيل علي الأراضي العربية بالحروب الرخيصة والمؤامرات .. ومنذ ذلك الحين وإسرائيل كما هي لم تتغير .. لجأت إسرائيل إلي كل الطرق من أجل كسب معركتها مع مصر..لم تكن أسلحتها تقتصر على البنادق و الدبابات و الطائرات، بل كانت تستخدم سلاحا آخر أكثر ضراوة جعلها تكسب العديد من المعارك ، إنها الجاسوسية. و لكن مكاسبها أمام مصر لم تدم طويلا..فوقعت ضعيفة مهزومة أمام إرادة عسكرية قوية تقودها عبقرية بطل الحرب و السلام الذي كان كل حلمه هو عودة آخر شبر من أرض بلاده و استطاع تحقيق ذلك. كانت إسرائيل تلعب دائما دور الصياد الماهر في اختيار الجواسيس و كانت فترة ما قبل نصر أكتوبر العظيم من أنسب الفترات التي أوقعت فيها بالخائنين ظنوا أن وطنهم لن يستطيع الوقوف أمام البلطجة الصهيونية. لم يكن الجاسوس على العطفي مواطنا يتابع أخبار بلاده من الراديو أو الصحف و لا كان له قريب في إحدى المؤسسات العسكرية يساعده على معرفة أخبار حساسة ، بل استطاع العمل داخل أعلى جهة سيادية في مصر و هو قصر الرئاسة. كان مصدر عمله مع الصهاينة هو الرئيس أنور السادات شخصيا..و بالطبع رأت إسرائيل فيه كنزا متنقلا بإمكانه إمدادهم بمعلومات شديدة الأهمية. ولد على العطفي في حي السيدة زينب عام 1922، كان من أسرة فقيرة ، لم يستطع إكمال تعليمه فحصل على الشهادة الإعدادية فحسب. عمل كصبي بقال ثم عمل في أحد الأفران ثم عاملا في إحدى الصيدليات ووقع اختياره أخيرا على مهنة لم تكن منتشرة في ذلك الوقت سوى للطبقات الراقية و هي مهنة المدلك. كان العطفي شخصا طموحا محبا للحياة الارستقراطية ،رأى أن وجوده في مصر لن يحقق له ما يتمنى فأتخذ قرار السفر و بالفعل تم الموافقة على إعطائه تأشيرة سفر للولايات المتحدة و كان ذلك عام 1963. و لكن كيف سيعيش في دولة كالولايات المتحدة؟ و ماذا سيعمل هناك..هل سيعمل عاملا مثلما كان يعمل في مصر؟ . على الرغم من أمله في شغل منصب رفيع إلا أن شهادته البسيطة لم تؤهله لذلك. لم تكن لدى العطفي أية مبادئ أو انتماءات فالحياة من وجهة نظره عبارة عن فرص ذهبية يجب اقتناصها حتى و لو كان على حساب القيم. لم يمانع في الانضمام إلى جهاز الموساد الإسرائيلي بل ذهب إلى السفارة الإسرائيلية و عرض عليهم خدماته مقابل المال و الحياة الرغدة. وبالطبع رحبت إسرائيل بالخائن الذي ارتمى في أحضانها و باع وطنه،وقامت بإعطائه شهادة مزورة تفيد بحصوله على درجة علمية رفيعة و أعطته تأشيرة سفر لهولندا ليبدأ من هناك رحلته في الجاسوسية. سافر بالفعل إلى امستردام وهو لا يعرف ماذا سيفعل و لماذا اختاروا له تلك البلد بالأخص، و حين كان متجولا في شوارعها ،فوجئ بفتاة تصطدم به و تلقي في جيبه ورقة و تطلب منه الاطلاع على محتواها. فتح العطفي الورقة و قرأها و كان مكتوبا فيها أنه عليه أن يتوجه إلى أحد الشوارع في ساعة محددة و حين توجه إلى هناك وجد سيارة تنتظره و بداخلها الفتاة التي اصطدم بها وأمرته بركوب السيارة التي انطلقت بهما و توقفت أمام أحد المباني. نزل من السيارة و سار خلف الفتاة حتى وجد أمامه رجلا يحمل ملامح شرقية ، و تبين له بعد ذلك أن هذا الرجل هو ضابط بالموساد يدعى "إيلي برجمان" ذات الأصل المصري والمهاجر إلى إسرائيل. اجتمع العطفي مع برجمان الذي شرح له تفاصيل عمله بدقة و أخطره أنه سيخضع لعدة اختبارات و سيتسلم أدوات العمل من حبر سري و جهاز استقبال و إرسال بالشفرة و كاميرا دقيقة لتصوير الأوراق. و نظرا لنشأة برجمان في مصر فقد كان على دراية بالمجتمع المصري ، و كان يعلم جيدا أن مهنة المدلك في مصر نادرة و لا تطلبها سوى الطبقات الارستقراطية و الأشخاص المرموقين ، و امتدت رؤيته تجاه شخصية العطفي الطموحة، فطرح على قادته بالموساد أنه لو تم استغلال العطفي جيدا فبإمكانهم اختراق قصر الرئاسية. و بالفعل قامت إسرائيل بتمويل حملة دعاية ضخمة للعطفي داخل و خارج مصر و قامت بتنظيم مؤتمرات علمية واسعة له و أمدته بأحدث الأدوية و المنتجات الطبية المستخدمة في التدليك حتى اتسعت شهرته و أطلق الموساد على مهمة على العطفي "المهمة المستحيلة". في الوقت ذاته تم افتتاح أول معهد للعلاج الطبيعي في مصر و تم اختيار العطفي رئيسا للمعهد ، كان الرئيس السادات يرغب في ضم مدلكا إلى طاقمه الطبي و سمعت الرئاسة عن العطفي و شهرته الواسعة فاتفقت معه على أن يصبح مدلك الرئيس و خصصت له سيارة خاصة و مرتبا ، بمرور الوقت أصبح مقربا جدا من الرئيس السادات و أسرته و اتسعت صلاحياته و نفوذه و لم يكن أحد يجرؤ على تفتيشه بالمطار أو إيقافه في أحد الكمائن. وكان يمد الموساد بكل أسرار القصر و حياة الرئيس ، تخلى شيئا فشيئا عن حرصه و خوفه حتى أصبح يتصرف بثقة شديدة مستبعدا فكرة الكشف عنه، لدرجة أنه كان يلقي بخطاباته المرسلة إلى الموساد في أقرب صندوق بريد يقابله. كانت المخابرات المصرية في تلك الأثناء تبحث عن "الجاسوس المجهول" الذي كان ينقل لإسرائيل معلومات في غاية الأهمية و من داخل القصر. ومهما كان الجاسوس حريصا أو ذكيا فدائما ما يرتكب حماقة توقع به في النهاية و هذا ما حدث للعطفي فبعد تخليه عن حرصه..وصل به الأمر أنه قام بالتوجه إلى السفارة الإسرائيلية بأمستردام عدة مرات ناسيا أنه أحد رجال الرئيس و المقربين له. سمعت عنه المخابرات المصرية ووضعته تحت المراقبة و قامت بتصويره و هو بصحبة رجال الموساد و أرسلت ملفا باسمه إلى القاهرة و استطاعت أخيرا كشف شخصية الجاسوس المجهول.