أبطأ عمار بن ياسر في مصر، وقد أرسله أمير المؤمنين عثمان بن عفان فى عام 34ه ليستطلع أمر الوشايات التى أطلقها "ابن سبأ" حول أمير المؤمنين ورجال حكمه، والتى أخذت تؤثر في بعض المسلمين، خاصة المرابطين فى منطقة خربتا فى شمال مصر (فى محافظة البحيرة حاليا) حوالى 100ألف مقاتل وقد تذمروا من والى مصر.. وكان الوالي عبدالله بن سعد بن أبى سرح، شقيق خليفة المسلمين فى الرضاعة والذى تولى مصر بدلاً من عمرو بن العاص فى عام 24ه، بعد فترة بسيطة من تولى الخليفة عام 23ه متناسين أن أبى سرح أصلا كان أحد قادة جيوش الفتح، وأمير المؤمنين وكان آنذاك عمر بن الخطاب، وقام ابن أبى سرح بفتح الصعيد والفيوم وتولى إمارة الصعيد، فى عهد بن الخطاب كما أنه منذ تولى مصر لم يدخر وسعا لغزوات الإسلام إلى النوبة فى الجنوب 27ه وصالحهم على جزية سنوية، وإلى أفريقيا تونس 27 و34 ومعركة ذات الصوارى أول معركة بحرية إسلامية 34ه.. وقد يكون كل ذلك سببا فى عدم تفرغه لمتابعة أمور مصر الداخلية. التف المتذمرون حول "عمار" يستميلونه، ويثيرون غضبه على أمير المؤمنين الذى عاتبه قبل ذلك فى خلاف مع عمار وعتبة بن أبى سفيان، فضرب الاثنين بالعصا، كما استغلوا فيه كبر السن "80سنة". وصلت الأنباء لأمير المؤمنين فى المدينةالمنورة عاصمة الدولة فأمر واليه بن أبى سرح باستدعاء عمار ثم إرساله إلى المدينة معززا مكرما. دخل عمار علي ابن أبى سرح فى دار الإمارة بالفسطاط، بمظهره البسيط عمامة غير نظيفة وجبة فراء.. فبادره ابن أبى سرح "84سنة" ويحك أبا يقظان لقد كنت فينا من أهل الخير فما الذى بلغنى عنك فى سعيك فى فساد بين المسلمين، والتأليب على أمير المؤمنين.. فألقى عمار عمامته على الأرض فرد الآخر.. لقد كبرت سنك، ونفذ عمرك.. فخرج عمار غاضبا. وهو يردد: أعوذ بربى من فتنة سعد.. فرد الآخر: ألا فى الفتنة قد سقطوا.. اللهم زد عثمان بعفوه وحلمه عندك درجات. هدأ عمار من ثورته، فعاد لابن أبى سرح من جديد معتذرا، يبكى حتى بلل لحيته، وقال: من يأمن الفتنة، لا يخرجن منك ما سمعت. وعاد عمار إلى المدينة للقاء أمير المؤمنين الذى عاتبه عتابا حادا.. يا أبا اليقظان قذفت ابن أبى لهب أن قذفك، وغضبت على أن أخذت لك بحقك وله بحقه. اللهم قد وهبت ما بينى وبين أمتى من مظلمة، اللهم أنى متقرب إليك بإقامة حدودك فى كل أحد ولا أبالى.. أخرج عنى يا عمار. عمار بن ياسر.. أحد أوائل المسلمين هو ووالده وأمه.. وجعل منزله مسجد له ولأهله.. وكان يقرأ فيه القرآن فسمعته قريش وهاجموا منزلهم. عذبهم أبوجهل حتى قتل الأب والأم، ونجا عمار بنفسه بأن سب رسول الله، لكنه ذهب للنبى باكياً يروى ما حدث. فقال له رسول الله: ما ترى فى قلبك؟ قال: مطمئن للإيمان. فقال له الرسول: فإن عادوا.. فعد! أى أن قلبك مطمئن للإيمان فإن طلب منك المشركين، سب رسول الله لتنجو بنفسك منهم فافعل مرة أخرى. لم يسمح أهل مكة بهجرة عمار إلى الحبشة فى المرة الأولى، لكنه استطاع ذلك فى هجرة الحبشة الثانية ليعود منها إلى المدينة، حيث هاجر رسول الله.. واستقر بجوار النبى الذى بنى له بيتا وأصبح "عمار" حُراً، وأخذ العلم والدين من رسول الله وشارك فى كل الغزوات بطلا مغوارا. فقد كان قناصا ماهرا فى غزوة بدر وحائط صد عن الرسول فى غزوة أحد، وعاملا نشطاً فى حفر الخندق. فى معركة اليمامة، قاتل حتى قطعت أذنه، وهو مستمر فى الصياح ينادى رجال محمد ليطلبوا الجنة والشهادة. قال عنه النبى: ملئ عمار إيمانا، حتى أخمص قدميه. ويروى أنه فى بناء مسجد النبى.. كان الصحابة يحمل كل منهم حجرا، بينما يحمل هو حجرين فأثنى عليه الرسول.. ثم قال تقتلك الفئة الباغية. شارك بعد وفاة الرسول فى حروب الردة، وكان له دور بارز فى مقتل مسيلمة الكذاب. فى عهد عمر بن الخطاب "13 23 ه" ولاه الكوفة التى بناها سعد بن أبى وقاص عام 16ه" بعد نصره على الفرس، ليجعلها مدينة لمرابطى الإسلام من المقاتلين، وتكون حائط صد شرقى لحماية حدود الدولة الجديدة، وكان معظم سكانها من المسلمين "الفرس إيران" وكانوا معتادين أبهة ملوكهم الأكاسرة، كما كانوا يحملون عنجهية مجد بلادهم القديم وكانوا يتمردون كثيرا ليتساووا بالعرب فى القتال والعطايا، فلم يكن مسموح له بالقتال على الخيول بل مشاه.. وكان عطاؤهم أو غنيمتهم فى الحروب ورواتبهم أقل من الفرسان العرب.. فغضبوا على سعد بن أبى وقاص.. فولى ابن الخطاب عليهم عمار.. فعابوا عليه طيبته وتواضعه وتبسطه مع الناس.. فقد كان يشترى حاجاته بنفسه من السوق.. فأقاله ابن الخطاب أيضا. بعد فتنة ومقتل عثمان "35ه" بايع على بن أبى طالب للخلافة ووقف معه فى معركة صفين "37ه" حيث وقف يعاتب عمرو بن العاص أهم قادة معاوية بأنه ومن معه يطلبون الدنيا وما لهم فى دم عثمان، الذى ادعوا خروجهم على الخليفة بسببه من شيء فتجمع الصحابة حول عمار. وقبيل القتال قال لمن حوله أأتونى بشربة لبن، فقد قال لى رسول الله أن آخر شربة تشربها فى الدنيا هى شربة لبن. ودخل غمار الحرب.. ومات. لم يصدق عمرو بن العاص فى نهاية يوم القتال ما جاءه عن مقتل عمار بن ياسر.. فنزل يستطلع بنفسه أرض المعركة، حتى وجده مقتولا.. ووجد رجلان يختصمان فى قتله فقال والله إن يختصما إلا فى النار. ارتج الأمر على ابن العاص فقد تذكر قول الرسول لعمار تقتلك الفئة الباغية، بل وحدث تمرد في الصحابة المنضمون لجيش معاوية، بل وفى بعض الجند ومنهم من انضم إلى جيش على بن أبى طالب على الفور، منهم الصحابى زبيد بن عبدالخولانى. لم يهدأ الجو إلا عندما علم معاوية بن أبى سفيان والى الشام، وقائد الجيوش المعارضة لخلافة على.. وعلي الفور بحنكته السياسية وخوفه على جنوده.. ردد على الفور إن من قتل عمار هو من أخرجه من داره وجاء به إلى القتال. حمل الإمام على جثمان عمار بن ياسر.. ليدفنه بملابسه شهيدا فى الإسلام مدافعا عن الحق عام 37ه وكان عمار فى سن 83سنة.