هبطت الطائرة القادمة من باريس ليقع مشهدا لا ينسي .. يؤكد الحقيقة التي لا تتبدل وهي أن إرادة الخالق ورحمته الواسعة لا تحتاج معجزة حتي تتحقق ويستجيب لدعاء إنسان، وأن قلب الأم لا يخطئ. فقد ظل لمدة 27 عاماً يؤكد لصاحبته أنها ستلتقي برضيعها ولو طال الزمن بل ستعرفه وسط الزحام حتي بعد أن أصبح رجلا.. وتحول المشهد إلي فرح ليعيد السعادة إلي أم عاشت عمرها حزينة بعد أن جمعتها الأقدار بابنها المفقود وسط دموع المسافرين في مطار القاهرة والذين عاشوا لحظات إنسانية "بدون رتوش". كانت لحظات بالعمر كله..عشرات العيون تعلقت بباب الطائرة القادمة من باريس ظهر الثلاثاء الماضي، وهي تفتح أبوابها لتهبط منها الأم الفرنسية التي لم نرها بعد، وكان الجميع يترقب المشهد الذي يجمع بين ابنها الذي فقدته منذ 27عاما عندما كان رضيعا.. كانت الثواني وهي تمر أشبه بساعات طويلة.. عشرات الركاب يغادرون الطائرة دون أن تظهر. ملل..ومفاجئة كاد الملل يتسلل إلينا.. ولكن فجأة تنبه الجميع علي تلك الصرخة العالية التي أطلقتها هذه السيدة التي اجتازت المسافة بين باب الطائرة ومكان تجمعنا وبمشهد لا إرادي وكأنها قد حددت هدفها ليندمج الاثنان في عناق وبكاء كأنهما قد تحولا إلي قطعة بشرية واحدة في مشهد أبكي الجميع فقد سالت دموع المشاهدين لتنافس دموع الأم والابن في لقاء رتبته إرادة السماء لتؤكد أن رحمة الخالق أكبر من أي حدود للزمان أم المكان. وكانت "أخبار اليوم" هي صاحبة الفرح بعد أن تبنت نشر قصة الابن الذي يبحث عن أمه منذ اختطافه منها..كانت الاتصالات بيننا في"أخبار اليوم" وبين الابن "إبراهيم" لم تتوقف طوال الأيام الماضية نتابع اتصالاته اليومية مع والدته "باتريشيا" في باريس استعدادا لقدومها إلي القاهرة، حيث قامت بالحجز علي أول طائرة قادمة للقاهرة عقب تأكدها من وجود ابنها علي قيد الحياة. الوصول عن طريق النت كانت الاتصالات، "الأم" حددت موعد حضورها للقاهرة،لم تجد رحلة طيران مباشرة من باريس لمصر فاضطرت للحجز علي رحلة شركة لوفتهانزا الألمانية التي تهبط في مطار ديجول ترانزيت. كان الموعد هو الواحدة ونصف ظهر الثلاثاء طلبنا من مدير أمن المطار اللواء سعيد الشيمي، تسهيل مهمتنا في رصد اللقاء الأول بين الأم باتريشيا والابن وبالفعل أصدر مدير أمن المطار تعليماته إلي العميد أحمد صالح مدير إدارة الإعلام والعلاقات العامة لتقديم جميع التسهيلات الممكنة، وهي التسهيلات التي فاقت كل ما كنا نتوقعه، وكذلك توفير مترجم فرنسي لترجمة اللقاء فالأم كما علمنا منها لا تعرف العربية والابن الذي تربي في دمياط لا يعرف الفرنسية. يوم الثلاثاء وجدنا سلطات أمن المطار قد حددت الرائد محمد حسان ليتولي مرافقتنا وإزالة آية عقبات تعترض تغطيتنا الإعلامية فيما قام العميد أحمد صالح بالتنسيق مع جميع الأجهزة الأمنية والسيادية بالميناء الجوي بأخطارها بطبيعة مهمتنا. استعدادات توجهنا إلي مبني المطار الجديد حيث ستهبط الطائرة الألمانية فوجئنا بترتيبات غير عادية لم تكن كما قال مدير أمن المطار إنها ليست سوي رسالة إلي هذه المواطنة الفرنسية لتعرف الوجه الحقيقي لمصر.. كانت بانتظار الابن المصري سيارة "V I P" نقلتنا جميعا إلي نقطة وصول الطائرة. وعقب هبوط الطائرة وفتح بابها مباشرة علي الممر المغلق كنا نقف داخله، ليبدأ الركاب من جنسيات مختلفة أغلبيتهم من الألمان في مغادرتها، كان الابن يقف وقد أصبح في حالة نفسية وعصبية دقيقة استبدله القلق وهو ينتظر تلك اللحظة التي عاش سنوات عمره يحلم بها.. قال أن قداميه لا تستطيع حمله.. بلغ به التوتر أقصي درجاته وعيناه تنظران للسماء وهي تتابع الطائرة حتي هبطت علي الأرض. هذه أمي خرج معظم الركاب دون أن تظهر الأم حتي أن الرائد محمد حسان سأله عما إذا كان متأكدا أن أمه بين ركاب هذه الرحلة.. لم يجب فقد ظهرت سيدة تمسك في يدها فتاة صغيرة بمجرد خروجها من باب الطائرة وما أن وقعت عيناها علي الزحام أمامها حتي اندفعت تجري بأقصى ما يمكنها ثم تتوقف أمام الابن ..أخذته في أحضانها في عناق شديد كانت تصرخ بكلمات فرنسية غير مفهومة اختلطت بدموع أغرقت وجهها ..لم يكن أقل منها مشاعر هو يقول أنها أمي وظل الاثنان يتحدثان بلغة مختلفة عن الآخر، حتى جاء إبراهيم الدسومر مترجم اللغة الفرنسية الذي تولي الترجمة بينهما بعد ذلك. واستمر المشهد المؤثر عدة دقائق الأم لا تريد أن تفترق عن ابنها أو تتركه كأنها تخشي أن يضيع منها مرة أخرى.. تقدم منها ضابط المطار محمد حسان قال لها باسم الشرطة المصرية يهنئها على سلامة الوصول وعلى تلك اللحظة الجميلة في حياتها.. طلب منها جواز سفرها هي وابنتها أعطاهما لزميل له لينهي إجراءات الوصول في اللحظة وفي المسافة إلي بوابة الجوازات لم تتوقف ضحكات الأم ودموعها خاصة أن الابن قد انتابته مشاعر هيستيرية للتعبير عن سعادته فقام بحمل أمه بين زراعيه وهو يجري في ممر المشاة بين صالات الوصول.. بينما كانت شقيقته الفرنسية التي لم يتخط عمرها 14 عاما تترقب المشهد بابتسامة عميقة بعد أن فرغت من عناق شقيقها الذي تراه لأول مرة. كانت إجراءات الوصول قد انتهت في لحظات وأصرت الأم باتريشيا أن تحيي جميع الضباط ورجال الشرطة الذين كانوا قي وداعها.. نظرت إلي الرائد محمد حسان قائلة لقد امتلأ عقلي وصدري بمشاعر كثيرة ولكن استقبالكم الحافل والذي لم أتوقعه أربك كل هذه المشاعر داخلي. خارج مبنى المطار كان أصدقاء وأقارب الابن من الدمايطة في انتظارنا بعد تعارف سريع.. لتنطلق بهم عدة سيارات اتجهت مباشرة إلى دمياط حيث ستقضي الأم وشقيقة إبراهيم عدة أيام قبل حضورهما للقاهرة مرة آخرى. في دمياط في منزل "يال أو إبراهيم" الذي ورثه عن والده.. كانت محطة الوصول.. على باب المنزل كانت زوجة إبراهيم تحمل رضيعها وطفلهما الثاني في استقبال حماتها الفرنسية كان اللقاء لا يقل حرارة عن لقاء المطار أخرجت بعض الهدايا التي أحضرتها معها من باريس ومنها ملابس لهما اكتشف الابن في تلك اللحظة لماذا كانت أمه في حديثها معه عبر الانترنت تصر على معرفة حجم جسدي حفيديها. بعد فترة قصيرة فوجئت الأم الفرنسية بعودة إبراهيم ومعه تورتة كبيرة قدمها لها بمناسبة عيد القيامة باعتبارها مسيحية، ولكنه أراد أن يؤكد لعقيدتها رغم انه يواظب على الصلاة باعتباره مسلما ملتزما ومتمسكا بدينه.. وضحكت الأم كثيرا في اليوم الثاني عندما شعرت شقيقته الفرنسية ببعض الإعياء نتيجة الجولات المستمر في دمياط ورأس البر، حيث أمسك برأسها يتمتم بآيات قرآنية وأدعية للشفاء وهو يمسح علي الرأس، فقد تذكرت إن هذا ما كان يفعله والده معها قبل 30 عاما عندما تشعر بالتعب. حوار جلست إلى الأم "باتريشيا" .. كان واضحا من الوهلة الأولى أنها إنسانة طيبة القلب تتميز بحالة مودة لمن حولها.. ربما أظهر تلك المشاعر ما تعيشه الآن. سألتها: كيف يكون الشعور داخلك؟ قالت: ليس شعوراً واحداً بل مجموعة مشاعر من الخوف والقلق كنت أخشي أن تكون هناك صدمة جديدة في حياتي ربما لن يكون هذا الشاب هو ابني.. ولذلك تأخرت في النزول من الطائرة فقد كنت لا أستطيع أن تحملني قدماي ولكن ابنتي "استن" شجعتني على ترك الطائرة وأخيرا غادرت الطائرة، ولكن كانت المفاجأة حيث أخذت طريقي باعتبار أن الابن كالمتبع خارج المطار ثم نتعارف على بعضنا ولكن بمجرد خروجي من باب الطائرة أبصرت زحاما وشيئا ما جذبني إليه وأصبح قلبي يدق بعنف كلما اقتربت أدركت أن ابني وسطهم.. لمحته بالفعل كان يشبه والده تماما في تلك اللحظة عشت شريط ذكريات قبل 30عاما استرجعت في تلك الثواني ذكريات والده معي.. وبالمناسبة حتى لو لم يكن ابني يشبه والده كنت سأعرفه ولو كان وسط مليون شخص يشبهه..لقد كان قلبي هو بوصلتي التي قادتني إليه..عموما قلبي الآن مملوء بالفرحة والسعادة ولا توجد أي مساحة لأية مشاعر أخري الآن. فرق كبير سألتها فرق كبير بين وجودك الآن في مصر ووجودك آخر مرة قبل 27عاما؟ بغزارة سقطت دموعها، وقالت:لا أريد أن أتذكرها لقد كان جرحا ظل ينزف بين ضلوعي لم يندمل إلا الآن فقط..ولكن لدي مشاعر أهم فقد ازداد إيماني ويقيني بالله عرفت الآن لم هو رحيم بنا. قلت لها: ولماذا حدث ما حدث؟ قالت: والد إبراهيم كان يحبني بعنف ولكنه مر بتجربة قاسية قبل تعارفنا فقد كان متزوجا من ألمانية قبلي من أصل كندي أنجب منها طفلا خطفته وهربت، وظل هاجس الخوف من تكرار ما حدث يسيطر عليه رغم محاولاتي طمأنته من ناحيتي.. وزاد من تعقيد الأمور هي الغيرة الكريهة ممن كانوا حوله الذين كانوا يشعلون نار القلق والخوف نحوي، فقد كانت كل زيجاتهم من مستويات اجتماعية ضحلة بهدف المصلحة والحصول على الإقامة أما أنا فقد كان زواجا على الحب خاصة أنني سليلة أسرة فرنسية عريقة، فتم حرماني من ابني حتى لا أخطفه منه. وتواصل الأم كنت كالمجنونة فعلت كل شيء حتى أعثر عليه دون جدوى، حضرت لمصر أكثر من مرة لجأت إلى القنصلية الفرنسية في الإسكندريةوالقاهرة لمساعدتي ولكنهم فشلوا في تقديم أي مساعدة. مشاعر سألتها: هل مشاعرك نحو إبراهيم مثل شقيقيه من زوجك الفرنسي؟ قالت: أحبهم جميعا ولكن إبراهيم له منزلة خاصة فقد عاني الحرمان كل سنوات عمره عاش يتيما بينما كنت على قيد الحياة أريد أن أعوضه ما حرم منه ..ثم ضحكت قائلة: إبراهيم أكثر منزلة وشأنا فقد جعلني جدة بإنجابه طفلين يشبهانه تماما. وكيف ستكون الحياة بينكما مستقبلا؟ لا أريد أن يبتعد عني لحظة بعد الآن أحضرت كل الأوراق التي تثبت أني أمه وسأتوجه هذا الأسبوع إلى القنصلية الفرنسية بالجيزة حتى أحصل له ولطفليه على الجنسية الفرنسية.. إنني مستعدة بكل شيء ليعيش مع أسرته أو معي إذا رغب..وقد يفضل البقاء في مصر.. القرار في النهاية يرجع إليه.. المهم إننا معا الآن. وما رأيك في مصر الآن؟ مشاعري أسيرة ما حدث معي لدي وصولي وهذا لا يحدث معي في بلدي.. ولكن في الحقيقة رأيت مصر غير تلك التي نعرفها من الإعلام الغربي عنكم.. الناس تتعامل باحترام ورقي هناك دفء في المشاعر عندما يتعاملون مع الأجنبي رغم الظروف العامة التي تعيشها البلاد في فترة التحول..وتصمت باتريشيا قليلا وهي تقول أدركت ظلم ما يقدم وما يقال عنكم عندما رأيت إبراهيم المسيحي وجاره في دمياط يتعاملان معا بحب ومودة وكأنها أقارب بينما ما يصلنا عكس ذلك تماما. بعد ثلاثة أيام فوجئت بالأم الفرنسية تقول لابنها بلسان فرنسي صباح الخير إبراهيم ويبدو أنها نسيت "بونجور" التي كانت تحاول أن تلقنها لابنها ضمن تعليم اللغة الفرنسية.