ساعات حزينة ولكنها كانت أطول من أعوام كاملة.. ساعات اختلط فيها القلق مع الخوف والحيرة لتتحول إلي مشاعر من الحزن بعد ما تأكد ان فلذة الكبد قد ذهب للأبد. أوقات عصيبة لا تقاس بعمر الزمن بعدما تفرق الأهل والجيران وابناء الأسرة الواحدة ما بين بورسعيد ومحطة سكك حديد مصر وأخيراً امام مشرحة زينهم. مشاعر واحدة هي التي تسكن عقول وقلوب الجميع وهي تعبر عن امنيات ترسلها الامهات والاباء إلي السماء وهم يبحثون عن فلذات أكبادهم بعدما انقطع الاتصال بهم ولم يعد معلوما أي شيئ عن مصيرهم.. أمنيات عبرت عنها الدعوات بأن يكون الابن مصابا.. ولا يهم حجم الإصابة حتي لو كانت شللا.. المهم أن يكون حيا.. قبل أن يرتفع أذان الفجر كان العشرات قد توافدوا إلي المشرحة بعدما وصلت الانباء عن ارسال الجثث بالطائرات العسكرية.. الدقائق تمر والمئات يتوافدون حتي لم يعد هناك مكان لقدم امام ساحة المشرحة.. الكل جلس في حالة من الفزع، البعض حاول التماسك ويقنع نفسه بأن ابنه المفقود ليس بين القادمين.. اخيراً بدأت طليعة الشهداء في الوصول عبر اسطول سيارات الاسعاف بمجرد اقتراب السيارة وفتح بابها حتي يزدحم الجميع لمحاولة رؤية القادم.. ولكن دون جدوي فالجثث مغطاة وكانت تدخل بسرعة حيث يتم ايداعها غرفة الحفظ. المشاعر الحزينة موظفو المشرحة يحاولون استيعاب المشاعر الحزينة والغاضبة، مناوشات وقرارات من الاهل لن تشرح جثث ابنائنا.. تتعطل الاجراءات فأطقم كاملة من الاطباء الشرعيين جاهزة لبدء عملها.. ولكنهم يتوقفون أمام الصيحات الغاضبة اخيرا حسم الامر بقرار النيابة باستدعاء أهل من يتأكد بوفاته ليقدم اقرارا لتحمل مسئوليته عن عدم التشريح والاكتفاء بالفحوص الظاهرية.. الزحام يشتد فالموجودين ليسوا فقط الاباء والامهات والجيران.. وانما شباب الالتراس الذين جاءوا للتعرف علي اصدقائهم ليشاركوا في القاء نظرة الوداع الأخيرة. كثير من هؤلاء الشباب كانوا هناك في ستاد الموت وجاءوا بالقطار ولم يعودوا إلي المنازل وانما توجهوا مباشرة إلي المشرحة.. رحلة القطار ذاتها كانت مادة دسمة لفيلم انساني منذ تحركه ومغادرته بهم مدينة بورسعيد، تكدس بهم القطار جلوسا ووقوفا الكل كان يشعر بأنهم شخص واحد الذهول يسيطر عليهم لا يصدقون ما حدث.. ملامحهم وملابسهم الممزقة تؤكد انهم ضحايا معركة حربية.. البعض كانت جروح اصابته مازالت تنزف الدماء زملاء يحاولون تضميدها بقطع ملابسهم. الكثير منهم فقد تليفونه المحمول ضمن ممتلكاته التي تم الاستيلاء عليها من هؤلاء الهمج.. كل من يحمل محمولا ظل يعطيه لمن فقد تليفونه كي يطمئن أهله.. رنين الهواتف لا يكف الكل يحاول الاطمئنان علي ابنه واخرون فقدوا الاتصال بأبنائهم فيحاولون الاطمئنان من اصدقائهم في الرحلة في محطة الزقازيق توقف لها القطار كانت هناك مجموعات من الاطباء وبجوارهم النقالات الطبية بينما تعصف أكثر من 52 سيارة اسعاف بمجرد توقف القطار اندفع الاطباء يطلبون ارشادهم للمصابين لاصطحابهم إلي المستشفيات ولكن جاء صوت الجميع بالرفض.. قائلين اسعفونا الأن ونكمل علاجنا في القاهرة.. مشاهد الفيلم المفترضة تتوالي ينتشر الاطباء وسط مقاعد الركاب المصابين وزملائهم يحاولون مساعدة الأطباء الذين يقومون بعمليات تضميد وخياطة الجروح.. في خلال نصف ساعة كان قد تم خياطة جروح مائة شاب بمجرد مغادرة الاطباء للقطار بدأ في التحرك الي القاهرة ليستمر المشهد. »والنبي يا بني ما شفتش ابني أزاي ده كان معاك؟ ومسافرين مع بعض طيب حاضر حادور عليه لاننا اتفرقنا بعد المباراة«.. هكذا كانت كثير من نصوص المكالمات داخل القطار العائد.. حتي وصل القاهرة.. المشهد كان اكبر من التعبير عن تفاصيله.. قبلات واحضان في نفس الوقت كانت العشرات من العيون الحائرة لاباء وامهات واشقاء تدور وكأنها كاميرات تمسح بعدساتها كل الموجودين في القطار.. ربما يكون الابن المفقود وسطهم.. ولكن دون جدوي هكذا حال البعض الذي سارع إلي المشرحة. امام المشرحة كاد الغضب والحزن يفتك بالموجودين خاصة الذين تعرفوا علي جثث ابنائهم وعادوا من سراي النيابة بعد ان حرروا محاضر تعرف وكذلك اقرارات بعدم التشريح.. الكل في عجالة يريد ان يتسلم جثمان ابنه. سواد ونحيب علي الرصيف امام باب المشرحة مثلها مثل باقي الامهات جلست والدة سيد معوض »61 سنة« اتشحت بالسواد ونحيبها لا يتوقف جاءت من بنها لم تتوقع ان ابنها الذي تحبه لا تستطيع ان تتخيل ان تغمض عينها وتنام دون ان تراه مثل كل يوم.. لقد نام هو الان للابد ولا يبعد عنها سوي خطوات داخل الثلاجة.. الجيران يحاولون تهدئتها.. ولكنهم لم يتحملوا الموقف فذهبهوا في موجة البكاء ايضا. مجموعة شباب الالتراس من السيدة زينب كانوا مع بعض في بورسعيد اكتشفوا ان بعضهم اختفي اتصلوا بالاهل ربما يكونون قد عاد الزملاء للمنزل مباشرة.. ولكن كان النفي هو الجواب المنتظر اتجهوا للمشرحة فوالد زميلهم احمد يوسف الذي يسكن بمنطقة الناصرية توجه مع زملائه الي بورسعيد بعدما انقطع الاتصال بأحمد الطالب بالثانوية العامة ليبحث عنه لم يجده وسط الجثث الموجودة هناك طلب من زملاؤه الدخول للمشرحة والبحث عنه.. دخل الشباب ليخرجوا بعد دقيقة واحدة منكسا الرءوس والغضب يملأ عيونهم لقد عثروا عليه فوق سرير طبي.. اتصلوا بالاب الذي قال انه في الطريق فعلا ويقترب من القاهرة.. زملائه يسردون القصص، زميل احمد يقول احمد كان يشعر بأن نهايته وشيكة.. شعر بالخطر.. قرر ان يغادر المباراة قبل نهايتها ولكنه خاف خاصة انه كان يرتدي تي شيرت ألتراس الاهلي.. ولن يرحموه إذا وجدوه خارج الاستاد وحيدا.. اقنعناه بالبقاء معنا ويبكي زميله ليتني تركته ربما كان نجا من المذبحة. الأب المكلوم جلس الاب جودة السيد لا يصدق نفسه بعد تعرفه علي جثة ابنه احمد 15 عاما طالب الثانوي يقول الاب وسط دموعه ابني اعتاد الذهاب لجميع مباريات الاهلي وفي يوم الحادث طلب مني الذهاب الي بورسعيد لمشاهدة مباراة المصري والاهلي ولكنني رفضت لاني شعرت بقلبي ينقبض فجأة ولكن تحت اصراره ورجائه لي بالموافقة ضعفت امام رغبته ليسافر بورسعيد مع اصدقائه الذين كانوا سببا في اقناعي بالسماح له بالسفر عندما قال لي احمد ارجوك يا بابا لا تصغرني امام اصدقائي لاني وعدتهم بالسفر معهم في هذه اللحظة انهمرت دموع والد احمد وهو يضرب كفا بكف ويقول يا ليتني ما وافقت علي سفره واضاف بعدما علمت من التليفزيون ما حدث من شغب وفوضي بعد المباراة حاولت الاتصال بزملاء ابني ولكني دون جدوي علي الفور ذهبت كالمجنون الي بورسعيد وبحثت عن ابني في كل مكان في المستشفيات والاستاد ولكنني لم اجده نصحني احد الاطباء ببورسعيد ان اعود الي القاهرة والبحث عن ابني مع المصابين الذين تم نقلهم بالطائرات الي المستشفيات بالقاهرة وبالفعل بحثت عنه بعد عودتي للقاهرة في كل المستشفيات التي استقبلت المصابين ولكنني لم اجده وفي النهاية ذهبت الي مشرحة زينهم باعتبار ان ذلك هو الامل الوحيد للعثور علي ابني وانا في طريقي الي هناك لم تستطع قدماي ان تحمل جسدي بخطوات بطيئة وشعور بين الامل والرجاء والحزن قطعت بضعة امتار حتي وصلت باب المشرحة مرت علي »يا ولدي« وكأنها دهر كامل وبالفعل وجدت جثته داخل المشرحة لم تتمالك زوجتي التي كانت بصحبتي في رحلة البحث مشاهدة ابني انهارت وسقطت علي الارض مغشيا عليها وعند افاقتها طلبت الدخول للمشرحة مرة اخري لتري وجه ابنها للمرة الاخيرة لكن زوجها رفض خوفا عليها من الصدمة مرة اخري. ودائع الأصدقاء اما خالد علي 17 سنة من جماهير التراس اهلاوي والذي كان يقف امام باب المشرحة ليودع اصدقاءه من الشهداء فقد سرد لنا اللحظات العصيبة التي عاشها داخل استاد بورسعيد فقال انا توجهت الي محافظة بورسعيد حوالي الساعة 3 عصرا ودخلت الاستاد وبعد مرور ساعة ونصف نزل لاعبو الاهلي الي ارض الملعب ليستعد لعمليات الاحماء وعقب نزولهم فوجئت بجماهير بورسعيد تطلق الصواريخ والشماريخ علي لاعبي الاهلي هنا استشعرت ان شيئا ما سوف يحدث ولكن مع بداية المباراة شاهدت جماهير المصري تقوم باطلاق عدد كبير من الحمام في سماء الاستاد تعبيرا عن الحب والمودة وتحية لاعبي الاهلي وقتها شعرت بالامان واعتقدت ان هذه المباراة سوف تمر بسلام حتي انتهي الشوط الاول وبدأت الاستراحة وجدت جماهير المصري تنزل الي ارض الملعب وتتجه نحو جماهير الاهلي وتطلق عليهم الصواريخ والشماريخ وحدثت مشادات واحتكاكات بين عدد من جماهير المصري وجماهير الاهلي ثم بعد ذلك هتف الجمهور البورسعيدي هتافات معادية ضد لاعبي الاهلي وجماهيره وقاموا بعمل اشارات بايديهم تعبر عن الذبح والانتقام والسباب ومع بداية الشوط الثاني مرت الامور بسلام حتي الدقيقة 35 هنا وجدت جماهير المصري تتوجه الي مدرجات جماهير الاهلي وتحاصرها من جميع الاتجاهات فشعرت بالخطر وايقنت ان هناك مخططا من قبل الجماهير البورسعيدية للانتقام من جماهير الالتراس الاهلاوي فلم اتردد لحظة واحدة في الخروج من الاستاد ووافقني صديقي احمد محمود التراس اهلاوي 18 سنة والذي اكد لنا هو الاخر انه شاهد جماهير المصري وهي تتوعد لنا وشعرت ان قوات الامن ليست كافية لحمايتنا فخرجت انا وصديقي قبل انتهاء المباراة بعشر دقائق واثناء استقلالنا سيارة اجرة في طريق عودتنا الي القاهرة سمعنا بالاحداث في راديو السيارة وسجدنا بعدها شكرا انا وزميلي خالد علي نجاتنا من هذه المذبحة. ومن ناحية اخري اكد لنا احد شباب التراس اهلاوي رفض ذكر اسمه انه كان يتابع الحادث أولا بأول مع زملائه الذين كانوا في بورسعيد عبر الهاتف وكان يطمئن عليهم دقيقة بدقيقة حيث اكد لنا انه اتصل بصديقه احمد سامح 17 سنة وهو طالب ثانوي والذي اخبره بان جماهير المصري تندفع بقوة نحوهم وانها اصابت عددا كبيرا من جماهير الاهلي كما اخبره بانه يحاول الهرب ثم انقطع الاتصال فجأة وبعد ساعة اتصل به مرة اخري ورد عليه هذه المرة واخبره بان احد جماهير المصري اصابه بمطواة في جانبه الايمن وانه وقف بجانب غرفة خلع الملابس للنادي الاهلي ودماؤه تنزف بشدة حتي شاهده الكابتن حسام حسن مدرب النادي المصري الذي حمله بسرعة الي سيارة الاسعاف وتم عمل الاسعافات الاولية له ثم بعد ذلك فوجئت بالكابتن حسام يحملني الي داخل سيارته الخاصة وانطلق بي حتي عبرنا بوابة تحصيل النقود ثم اتصل باسرتي من هاتفه المحمول وطمأنهم عليّ ثم تركني لاستقل سيارة اجرة فتوجهت الي القاهرة واضاف الشاب الذي رفض ذكر اسمه انه اتصل ايضا بصديقه انس وهو اصغر مشجع اهلاوي وعمره 15 عاما بعد احراز لاعبي الاهلي الهدف الاول وقام بتهنئته علي الهدف وسط فرحة غامرة من صديقه انس واخبره في نهاية المكالمة انه سيعاود الاتصال به مرة اخري وبعد نهاية المباراة اتصل به عدة مرات ولكنه لم يرد عليه فشعر ان صديقه قد حدث له مكروه حتي علم بوفاته وجاء ليلقي نظرة الوداع الاخير عليه داخل المشرحة. خوف وحصار التقينا بثلاثة شبان رفضوا ذكر اسمائهم وقالوا عقب انتهاء المباراة شاهدنا جماهير المصري تندفع نحو لاعبي الاهلي وتقوم بمحاصرتهم وضربهم استشعرنا وقتها انهم سوف يحضرون الينا لينهالوا علينا بالضرب ومن شدة الخوف فكرنا بسرعة كبيرة في عمل حيلة ماكرة حتي ننجو من هذه المذبحة فقمنا بالقفز من المدرجات الي ارض الملعب في الوقت الذي وصل فيه مشجعي المصري وانضممنا اليهم وقمنا بايهامهم باننا نلقي الطوب والحجارة علي جماهير الاهلي ثم خرجنا بعد ذلك من الاستاد مسرعين والخوف كان يسيطر علينا خوفا من ان يكتشف امرنا وتقوم جماهير النادي المصري بالاعتداء علينا واول ما خرجنا من باب الاستاد شعرنا ان ربنا كتب لنا عمرا جديدا.