بقلم: إبراهيم سعده [email protected] سجل قطاع الطيران المدني، ومطاراته، خاصة في القارة الأوروبية خسائر هائلة خلال الشهور الأخيرة الماضية. الخسائر لم تنتج عن عزوف الركاب عن النقل الجوي وتفضيل وسائل النقل البري، أو البحري. ولا نتيجة لكساد صناعة السياحة كأحد تداعيات الأزمة المالية العالمية. ولا أيضاً بسبب هوس العاملين في القطاع الجوي بتكرار إضرابهم عن العمل في المطارات وداخل الطائرات. السبب الحقيقي للخسائر المادية الفادحة التي لحقت بهذا القطاع لا علاقة للبشر به من بعيد أو قريب، وإنما يتحمل مسئوليتها أمران. الأول: تساقط الجليد بغزارة غير مسبوقة طوال أسابيع امتدت شهوراً، إلي جانب الغبار الثقيل والكثيف الذي تصاعد من بركان »آيسلندا« وأجبر كل شركات الطيران الأوروبية علي إلغاء رحلاتها، وتجمع مئات الألوف من الركاب داخل المطارات ينامون علي مقاعدها، أو يفترشون أرضية ساحاتها إنتظاراً لانقشاع السحب الغبارية البركانية، أملاً في استئناف الطائرات لرحلاتها، ونقلهم إلي بلادهم وأسرهم! وجاءت بريطانيا واسكتلندا علي رأس الدول الأوروبية الأكثر تضرراً من السحب البركانية وغزازة سقوط الثلوج. فإلي جانب الخسائر المادية الفادحة لقي العشرات حتفهم إما قتلاً في حوادث الطرق، وإما موتاً من شدة البرد وتداعياته علي صحة كبار، وصغار السن. كما أضير كثيرون نتيجة تأخير سفرياتهم، وتعطيل مصالحهم. الغالبية استسلمت لتقلبات الأحوال المناخية، ووقفت عاجزة، يائسة، لا حول لها ولا قوة أمام فوران، و غليان، وطهقان، بركان آيسلندا بعد طول همود، وخمود، لعقود أو قرون. شاب من المتضررين من إغلاق مطار المدينة البريطانية التي يقيم فيها لاستمرار سقوط الثلوج، لم يجد طريقة ينفس بها الغضب في صدره سوي أن يكتب في شهر يناير الماضي رسالة إلكترونية طيرها عبر »النت« إلي أصحابه ومعارفه. كتب الشاب الإنجليزي:» بول شامبرز« 26 عاماً في رسالته أنه لم يعد يتحمل أكثر مما تحمل، وقرر أن يقوم بتفجير مطار:»روبين هود« بمدينة »دونكاستر« في شمال شرق إنجلترا بعد أن فقد صلاحيته ، والفائدة من وجوده.. لكثرة إغلاق أبوابه! كاتب الرسالة قصد بها إضحاك أصحابه. وهذا ما حدث بالفعل بالنسبة لنحو 600ممن تلقوها وقام بعضهم بإعادة إرسالها إلي معارف آخرين. حكاية عادية.. كان من المتوقع أن ينتهي تأثيرها عند ظهور بسمة صامتة علي وجوه من قرأوها، أو طبعوها، ووزعوها.. لكن المفاجأة الغريبة أن أحد من تلقي تلك الرسالة تصادف أنه يعمل موظفاً في مطار»دونكاستر« المهدد بالنسف! أصيب موظف المطار بالذعر الشديد مما جاء في الرسالة الإلكترونية ، خاصة أنه لا يعرف كاتبها ولم يسبق أن تعرف عليه.. فتصوّر متأثراً برعبه من الإرهاب والإرهابيين أن الرجل يخطط بالفعل لتفجير المطار! سارع موظف المطار إلي الإبلاغ عن »العملية الإرهابية« المنتظر تنفيذها بين لحظة وأخري. ووجد البلاغ إهتماماً ورعباً مماثلين لدي رئيس الموظف في العمل، والذي سارع بدوره في إبلاغ الرئيس الأعلي، ليتولي الاتصال برجال الأمن الذين فرضوا »حالة الطواريء« حول المطار، وداخله، والتدقيق الشديد في هوية وتصرفات كل من يمر من أمامه أو يتقدم من بوابة دخوله! نفس التدقيق: بحثاً، وتنقيباً، تعرض له سراً صاحب الرسالة: »بول شامبرز«، حيث نشط خبراء الأمن ضد الإرهاب والإرهابيين لجمع أكبر كم ممكن من المعلومات عن »بول«، وأسرته، وأصحابه، والمدارس التي تعلم فيها، والوظائف التي شغلها، وعلاقاته مع الجيران، وخلافاته مع زملاء العمل، وكل ما يمكن مساعدتهم في رسم صورة حقيقية، كاملة، و دقيقة، تكشف عن خصائص شخصيته، مع التركيز علي الشائعات التي تتردد عنه، وتنسب إليه، للتحقق من صدقها الواحدة بعد الأخري! استدعوا العشرات من الذين تلقوا رسالة »بول« علي أجهزتهم، وسألوهم مئات الأسئلة عن كل ما يظنون أن له علاقة من قريب أو بعيد بالإرهاب والإرهابيين. الذين استمعت الشرطة إلي أقوالهم، أجمعوا علي أنهم تعاملوا مع رسالة »بول شامبرز« علي أنها »فكاهة« أضحكتهم بالفعل، ولم يحدث أن خطر علي بال واحد من كل هؤلاء المستجوبين أن »بول« كان ينوي بالفعل تفجير المطار! حصيلة البحث، والفحص، والتنقيب.. لم تأت بما كان ينتظره خبراء القسم المخصوص لمكافحة الإرهاب في الشرطة البريطانية. لم يعثروا علي أي معلومة يمكن الاستناد إليها في اتهامه بتخطيط جريمة إرهابية، ورغم ذلك كان قرار خبراء الأمن أن »الاحتمال سيظل قائماً« إلي أن يثبت العكس! أي أن »بول« سيعامل ك »إرهابي« إلي أن يثبت العكس! وأشر رئيس »القسم المخصوص المضاد للإرهابيين« علي الأوراق ب: (سرعة إلقاء القبض علي المدعو:»بول شامبرز«، والتحقيق معه، والحصول علي اعترافاته)! كاد »بول« أن يصعق هلعاً، و رعباً عندما اقتحم رجال الشرطة باب شقته ليلاً، وانتزعوه من فراش نومه، واقتادوه إلي مصيره الذي لم يخطر علي باله، ولا في كوابيسه، أنه يمكن أن يواجهه ذات يوم! سألوه عن »العملية« التي اعترف بعزمه علي تنفيذها في رسالته الإلكترونية إلي أصحابه، فأقسم برءوس كل أجداده وجداته علي أن الحكاية من أولها لآخرها لا تزيد ولا تقل عن »نكتة« أراد بها إضحاك أصحابه علي غضبه من استمرار هبوط الثلوج مما أدي إلي إغلاق مطار»روبين هود« بعد منع الطائرات من الإقلاع أو الهبوط! لم يصدق المحققون أن الرسالة كانت مجرد »نكتة«، واعتبروا أن هذا الوصف هو »النكتة« التي يريد »بول« أن يسخر بها من عقولهم! استمر التحقيق مع الشاب لأسابيع، أصبحت شهوراً.. تخللتها قرارات متلاحقة بالإفراج عنه، ثم بإعادة القبض عليه للتحقيق معه بعد تكشف معلومة كانت مجهولة، أو تم العثور علي تسجيل بالصوت والصورة يمكن أن يصبح دليلاً دامغاً علي تورطه في تخطيط، وتنفيذ »الهجمة الإرهابية« علي مطار »روبين هود« ، والمطلوب الآن الحصول من المتهم علي اعتراف باسم الجهة، أو المنظمة، التي تموّل العملية. مرت 5 شهور علي بدء إطلاق »النكتة« السوداء التي قلبت حياة قائلها أو علي الأصح: كاتبها رأساً علي عقب. فهو رهن التحقيق في أي يوم، وعرضة لانتزاعه من فراشه بعد منتصف ليل، لسماع نفس أقواله وتفسيراته ودفاعه عن نفسه، ثم إطلاق سراحه بعد دفع كفالة مادية كبيرة، ليعود إلي بيته.. انتظاراً لسحبه وإعادته إلي غرفة التحقيق المظلمة، ما عدا الضوء الشديد، والوحيد، المسلط علي وجهه! سأل »بول« محاميه، كما لجأ إلي محامين آخرين، لسماع تعليقهم علي ما ارتكبه واستحق عليه كل ما جري ويجري له منذ يناير الماضي وحتي منتصف مايو الحالي. أجمعوا علي أنهم يصدقون دفاعه عن نفسه، وأن رسالته الإلكترونية هي »نكتة« أراد بها إضحاك نفسه وإضحاك من نقلها إليهم عبر الشبكة العنكبوتية.. لكنهم في الوقت نفسه يجدون العذر، والمبرر، لما قامت به الشرطة المعنية بمحاربة خطر الإرهاب، وملاحقة الإرهابيين في أي وقت وفي كل مكان. فالجرائم الوحشية التي ارتكبها، ويرتكبها، الإرهابيون بدءاً بتنظيم القاعدة، مروراً علي كل الجماعات التي تسير علي نهجها، ووصولاً إلي أنظمة تابعة لدول مسجلة كدول راعية للإرهاب و لإيواء وتدريب الإرهابيين أفزعت الشعوب، وروّعت الحكومات، وأقنعت البرلمانات بداية بكبريات الدول العريقة في ديمقراطيتها، الداعمة والمساندة لحقوق الإنسان وحرياته الشخصية.. علي رأسها: الولاياتالمتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، واليابان إلي مواجهة هذا الخطر الداهم علي استقرار الدول وسلامة الشعوب، بوضع تشريعات جديدة استثنائية في قوانينها الهدف الأوحد منها التصدي للإرهاب ووقاية الأرواح والممتلكات من هجمات الإرهابيين الذين لا دين يحكمهم، ولا إنسانية تحجّم وحشيتهم. لا أحد يؤيد القوانين الاستثنائية، لكن لا أحد أيضاً ينتظر من أجهزة الأمن في بلاده أن تفشل في حماية الشعب من الإرهاب، ولا تستطيع وأد هجماته قبل تنفيذها بحجة أن القانون العام لا يسمح لها بإجراءات، وتحريات، و ملاحقات، استثنائية لكنها ضرورية ولا مفر منها. ولا ضرر منها مادامت مقصورة ومحصورة فقط علي الإرهاب والإرهابيين. قال المحامون للشاب البريطاني »النكتاتي« أن ماحدث له حتي الآن لم يكن خروجاً علي القانون، ولا تجاوزاً من الشرطة. فالقانون الاستثنائي الذي صدر في بريطانيا عام 2003 أعطي الحق لجهاز الأمن المخصص لمحاربة، ومطاردة، الإرهاب والإرهابيين، لمراقبة الاتصالات، والمكالمات، بكل وسائلها. والرسالة الإلكترونية التي بثها »بول شامبرز« إلي العشرات والمئات عبر »النت« كانت تحمل »عزم كاتبها علي تفجير مطار بريطاني«. وكان من المستحيل علي جهاز الأمن تجاهل هذا »التهديد المحتمل« حتي ولو أقسم كاتب الرسالة علي أن هدفه كان »التنكيت والتبكيت« تنفيساً لغضبه من عدم استطاعته القيام برحلته الجوية! وسألوا الشاب المتهم حتي تثبت براءته »ماذا لو كنت إرهابياً فعلاِ، وعازماً علي نسف المطار بمن فيه، كما جاء في سطور رسالتك.. ولم تبادر الشرطة باتخاذ إجراءاتها وتحرياتها؟! وبماذا ستدافع الشرطة عن إهمالها للبلاغ، وتبرر تقاعسهاعن القيام بواجبها في الوقاية التي هي خير من العلاج؟!«. يوم الإثنين الماضي .. وقف »بول شامبرز« أمام القاضي الذي لم يضحك للنكتة التي قصدها المتهم من رسالته، وأصدر حكمه بإدانته وتغريمه 1000 -ألف -جنيه إسترليني. ذكرتني هذه الحكاية بالدبلوماسي القطري الذي كان يعمل في سفارة بلاده بواشنطون، وأراد أن يدخن سيجارة أثناء ركوبه إحدي الطائرات الأمريكية في رحلة داخلية، وقام بتدخينها داخل دورة مياه الطائرة، فتسللت رائحة دخانها إلي أنف رجال أمن الطائرة، فأخرجوا الراكب وسألوه: »ماذا يفعل؟!«.. فأراد أن »يُنكت« ورد علي السؤال الاستنكاري مازحاً: »كنت أشعل متفجرات أخفيتها في حذائي.. ها ها ها«! النكتة سمجة. فلا نكت، ولا هزار، مع الإرهاب والإرهابيين. خاصة أن لون وملامح الدبلوماسي القطري لا تختلف عن لون وملامح الغالبية العظمي من الإرهابيين الذين قبض عليهم أو نجحوا في الهروب. وإذا كان »النكتاتي الإنجليزي« قد غُرّم 1000 جنيه استرليني، فإن الحصانة الدبلوماسية التي حظي بها الدبلوماسي القطري قد منعت محاكمته، ومعاقبته إما بالسجن أو الغرامة.. ولم تجد الحكومة الأمريكية أمامها غير طرد »النكتاتي القطري« كشخص غير مرغوب في إقامته بأمريكا.