في استانبول يستطيع حتي الاعمي ان يتعرف علي خيرات الديمقراطية، وامكانية زرعها بنجاح، وانتظار ثمارها المباركة في البلاد العربية والاسلامية، وما بين المساحة القصيرة الممتدة من جامع السلطان احمد إلي كنيسة »آياصوفيا« لا يمكنك مهما كنت من القساة أو المراوغين إلا ان تعترف وتفكر طويلا في فضيلة التسامح، واهمية تعايش الاديان والافكار والبشر مهما تطاحنوا واختلفوا، فهناك يربض ذلك المبني الفخم الذي عاش ككنيسة قرابة تسعة قرون ثم كمسجد قرابة القرون الخمسة، وها هو الآن قد تحول بصمت ووقار إلي متحف للفنون. وهناك ايضا المسجد الازرق مسجد السلطان احمد الذي انشأه المهندس سنان لسلطان لم يستمع لغوغائيي الفكر والعقيدة حين طالبوه بهدم كنيسة بيزنطة وتحفتها المعمارية »ايا صوفيا« بل قال لمهندسه لنبقها علي حالها ونقيم بالقرب منها مسجدنا وهكذا كان، وما ذاك في ساحة التسامح داخل الاسلام بجديد فقد اعاد عمر بن عبدالعزيز لنصاري الشام كنائسهم في موقف سجله التاريخ بأحرف من محبة. وقد بدأنا الاستهلال بالاعمي لان استانبول بالاصل كانت تسمي »مدينة العميان« ويقال في اساطير نشوئها - وخلف كل مدينة اسطورة - ان الكورنثيين ذهبوا إلي عراف »دلفي« ليسألوه النصيحة ورأي النجوم في المكان الذي يجب ان يقيموا فيه مدينة توفر لهم السعادة والهناء، فاستفتي العراف عفاريته ونجومه وبخوره، وقال: اذهبوا إلي المكان الذي امام مدينة العميان، واقيموا بنيانكم علي بركة النجوم. ولما لم يكن احد يعرف اين تلك المدينة استسلم القوم لقدرهم، ووثقوا بنبوءة عرافهم، فأبحروا ليلا نحو المجهول إلي أن ألقو المراسي علي شاطيء بحر مرمرة وناموا، فلما افاقوا صباحا ووجدوا انفسهم بين المناظر البديعة الموزعة بين البوسفور الفضي ومضيق القرن الذهبي ايقنوا انهم وصلوا مبتغاهم، وقال قائلهم: من يقف هنا ويري هذا الجمال البهيج ولا يحس بالسعادة لابد ان يكون من العميان. وقد وجد الكورنثيون ضالتهم جماليا لكنهم لاحقا سيدركون تحت وطأة الاستبداد والطغيان والتعسف والمصادرة ان جمال المناظر وحده لا يحقق السعادة، فالانسان لا يمكن ان يسعد ويبني حضارة وثقافة دون حرية، وشيء من العدالة والمساواة لذا غرقوا في الحروب الداخلية، ولم يستطيعوا لقرون ان يتوافقوا حول مستقبلهم لانعدام لغة الحوار الايجابي بينهم ففي تلك المدينة ايضا ولد مصطلح »حوار بيزنطي« لان اسم المدينة الاصلي باللاتينية هو »بيزانجا« التي حورها العرب إلي بيزنطة لتصبح عنوانا لحضارة ورمز الحوارات فارغة لا تنتهي إلي نتيجة كما هو الحال في حوارات المثقفين »القعدة« الذين يتفرجون علي اوطان تذبح وينشغلون عن الدفاع عنها وعن حريتها وكرامتها بفرضيات لا تستر عريهم، ولا جبنهم الذي لا يليق بكرامة الثقافة ولا ينسجم مع بديهيات الفكر الحر. ويقال في معرض التشهير بمصطلح »حوار بيزنطي« ان فلاسفة المدينة ومثقفيها ولاهوتييها كانوا مشغولين حين حاصرت جحافل محمد الفاتح القسطنطينية أو »بيزانجا« بالحوار حول قضية عويصة اثارها سؤال عجيب من احد الفارغين، وهو: كم من الملائكة يمكن ان يقفوا علي رأس ابرة دون ان يتزحلقوا..؟ ألا يذكركم هذا السؤال بالذين يتحاورون في المقاهي اليوم حول كل شيء باستثناء القضية الاساسية التي يفترض ان تشغل بال كل انسان في منطقتنا وهي كيفية القضاء علي الاستبداد، والتفرغ لبناء اوطان حرة تحقق العدالة والمساواة لمواطنيها بعد حقب مديدة - ان لم نقل قرونا - من إلغاء الشعوب لصالح فئة معدودة من المستبدين. في استانبول واثناء الاعلان عن تشكيل »المجلس الوطني السوري« قبل ايام تكاثر »البيزنطيون« الذين طرحوا مختلف انواع الاسئلة، وساقوا كل اشكال الاتهامات ضد مجلس لم يروا شيئا عن خيره أو شره دون ان يلاحظوا ان الشعب السوري لا وقت لديه الآن لترف الحوارات البيزنطية حتي في بيزنطة، فهناك جرائم يومية ترتكب ودم بريء يراق، واعراض تنتهك، وجيش يوجه سلاحه إلي صدور شعبه، ووطن يستحق اي شكل من اشكال الحماية والدعم بدلا من هذه الفذلكات المعيبة التي تعود عليها مثقفو السلطة وفقهاء السلطان عن الخوف من الفتنة ان زال السلطان الجائر، وكأن الفتنة ليست قائمة؟ وكأن الذين يدافعون عنهم ليسوا هم من ايقظها. هؤلاء وتبريرا لمواقفهم المتخاذلة سارعوا إلي القول بعد دقائق من تشكيل المجلس السوري انه انشيء ليمهد للتدخل العسكري، وليكون بمثابة غطاء له، وكأن برهان غليون الذي لم يقتل ذبابة ولا رفع ملعقة في وجه سائق باص هو المجرم وبشار الاسد الذي يبيد شعبه بالألوف حمل بريء يهدده بضعة مدنيين اجتمعوا علي عجل بعد شهور من حوار الطرشان لبحث مصائر شعبهم في مدينة العميان. بعض هؤلاء وفي الحالة السورية تحديدا يعتقدون ان النظام السوري الذي يدافعون عنه ضمنا - واحيانا صراحة - باق مادامت اسرائيل تريد له ان يبقي، ويهمل هؤلاء أو لعلهم لم يلاحظوا ان الاسرائيليين يطلبون امد السقوط، وهذا يختلف عن دعم البقاء، فالمقصود استراتيجيا بالنسبة للصهاينة ألا يرحل - اسدهم - إلا بعد ان يدمر ما استطاع من قوة الجيش السوري نيابة عنهم، وان ينهي علاقة هذا الجيش بشعبه، وهذا تحقق جزئيا بفضل غباء سياسي منقطع النظير. وقبل الدخول في تخمينات عن الوقت الذي يحتاجه نظام مهلهل ليسقط هناك حكاية طريفة عن الحكام الضعفاء المرتهنين لقوي تحركهم لها علاقة بالاتراك ايضا، ويرويها ابن الاثير في تاريخه اثناء الحديث عن خلفاء بني العباس، فيقول: حين تولي المعتز الخلافة سأل خواصه من المنجمين كم يعيش وكم يحكم؟ فقال احد ظرفاء مجلسه: انا اعرف، فقالوا له: اخبرنا قال: ان مولانا سيحكم مادام اراده الاتراك ان يحكم. ولعل الذين اطالوا امد سقوط الاسد، والاترك منهم في المرحلة الاولي قد ادركوا الآن ان اللعب بدماء السوريين لا يمكن ان يستمر دون نتائج كارثية للمنطقة، وان حوار الطرشان عن ان استقرار المنطقة لا يتم ويكتمل إلا بالحفاظ علي الانظمة المستبدة بعد ترقيع اسمالها هو في الواقع كالسعادة الافتراضية في مدينة العميان مسألة غير ممكنة، وغير قابلة للتحقق، فالتضحيات التي تطلب من الشعب السوري ليتحمل الذبح المبرمج بصمت دون طلب حماية دولية للمدنيين ما هي في التحليل الاخير إلا نوع من انواع الحوارات البيزنطية التي تنبع من فكرة عبثية ليس فيها جنس المنطق، وبالتالي فهي ومع كامل الاحترام لمطلقيها والمدافعين عنها ليست مقبولة، وغير قابلة للنجاح. نحن نعرف ان الذين يتحدثون عن استقرار المنطقة يعنون اسرائيل ولا يعنيهم غيرها لكننا سنغمض اعيننا ونتظاهر بعدم المعرفة ونقول: ان كانت التضحية بشعوب كاملة ممكنة فليتقدموا ليضحوا، وان كان هذا النوع من التضحيات غير موجود فليكفوا عن دعوة السوريين إلي تحمل مالا يطاق.