الفقه هو مطلق الفهم بالشيء ومعرفة احكامه الدقيقة، فإذا كان لكل شيء فقهه الخاص فإنه من باب الأولويات ان يكون للدولة فقهها الشامل علي أساليب ادارتها وتسيير أمورها والمعرفة الدقيقة بكل شؤونها وطرق التصدي لمشاكلها وصولا لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. ولما كان مصطلح الفقه قد ارتبط بعلوم الشريعة ويختص بأحكام الحلال والحرام، فإن الفهم الصحيح هنا يستوجب التوضيح بأن الفقه ليس مقدسا لانه يعبر عن تفاصيل الفهم البشري للشريعة وفقا لتغير الزمان والمكان، اما الشريعة فهي مقدسة لأن مصدرها السماء. فإذا كان للفقة الشرعي وعلومه رجاله القائمون عليه فإن الدولة أيضا لها رجالها القائمون علي ادارة شئونها. فاذا كان الدين أساسا جاء من أجل إصلاح أمور الدنيا فإن الدولة هي ذروة الأهمية في هذه الدنيا لأنها السبيل الوحيد لتحقيق مقاصد الشريعة المتمثلة في حفظ الدين والمال والعرض والنفس والنسل والعقل. علي هذا النحو فإنه لا يجوز بأي حال الاستقواء علي الدولة بالدين وهي مصدر حمايته وحفظه او الاستعلاء عليها باستخدامه لان حدوث ذلك يعبر عن فهم خاطئ وتفكير غير منطقي يدفع المعتقدين بأنهم محتكرو الدين إلي الاستقواء علي مصدر حمايته فيؤدي ذلك إلي إضعاف الدولة فيضيع الدين معها. العلاقة هنا ليست علاقة ندية بل علاقة ارتباط وجودي فإذا ضاعت الدولة ضاع الدين. في كل أرجاء مصر المعمورة تنتشر المساجد والكنائس لاتنقطع بداخلها الصلوات والشعائر، ومن أعلي المنابر طوال الأسبوع وفِي خطبة الجمعة تنعقد الدروس الدينية تعليما وتذكيرا وتلقينا بأصول الدين من الكتاب والسنة، لكن السؤال هنا أين انعكاسات هذه الدروس والتعاليم علي السلوك العام والتعاملات اليومية في البيوت وفِي الشارع وفِي الدواوين العامة والخاصة ؟، الواقع يقول انها أثرا بعد عين. اذا كان من يعتقد أنه وصي علي الدولة باسم الدين فليخبرنا عن أدواته لتحويل النص الي اُسلوب حياة وإلا فليقل خيرا أو ليصمت. ثم دعونا نسأل هؤلاء الأوصياء الأدعياء أين كانوا عندما تمكنت عصابة الإرهاب الإخواني من الاستيلاء علي حكم البلاد في غفلة من تدينهم المزعوم ؟، كيف تمكنت هذه العصابة من السيطرة علي عقول ووجدان البعض في وقت ما باستخدام دينهم المزيف، بينما من يدعون أنهم قائمون علي أمر الدين الصحيح مازالوا عاجزين عن الوصول لجمهورهم المستهدف والتأثير في سلوكه.. أين كانوا ؟!. فاذا كانوا عاجزين عن الوصول إلي القلوب والعقول باستخدام ما يسمونه بصحيح الدين الذين يحتكرون مفاتيحه، فإننا نكون بصدد احتمالين لا ثالث لهما، أما انهم يحملون أسفار الدين الصحيح دون فهمها، أو أنهم يعمدون إلي تضليل جمهورهم، وفِي الحالتين فإن الدولة هي السبيل الوحيد للنجاة حفاظا علي هذا الدين وحفظا لعقل المخاطبين به. المفارقة انك تجد ان مدعي الوصاية الدينية لا يكفون عن الاستغاثة بالدولة إذا ما استشعروا حالة تغول أخواني أو سلفي علي مساحة حركتهم الدينية التي يعتقدون انهم محتكروها، فلما تتدخل الدولة بما لديها من أدوات قانونية ودستورية ومؤسسية لضبط هذه الحالة استجابة لاستغاثتهم، فإنهم يعودون الي سيرتهم الاولي لممارسة الوصاية علي هذه الدولة المنتهية للتو من مهمة حمايتهم وحماية صحيح الدين. تخيل أنهم عندما ينفردون بالحالة الدينية التي مكنتهم الدولة منها ظنا أنهم أولي بصحيح الدين من غيرهم، فإنهم يسارعون لاستهداف هذه الدولة ومكايدتها مرة اخري فيفسحون المجال مرة أخري لعودة جماعات التطرّف التي لم تلبث الدولة أن أنقذتهم منها، لندور باستمرار في دائرة مغلقة لا يدفع ثمنها إلا وعي المواطن الذي يتعرض لعملية تشويه وتشويش لصحيح الدين في عقله. نحن أمام حالة من الممارسة غير الرشيدة للندية مع الدولة في غير محلها، لا تتوقف عندحدود الندية فحسب بل تتجاوز إلي حد الاستعلاء عليها، فتضع الدولة دائما موضع الاتهام والشك والريبة بأنها في حالة عدم اتساق مع صحيح الدين، فتظل منشغلة طوال الوقت بتغيير هذه الصورة الذهنية التي تفرض عليها باستخدام الدين، وبالتالي تحدث عملية جفاء بين الدولة والمواطن لأنها ظهرت أمامه عاجزة عن حفظ صحيح دينه، فيبحث عن مصادر أخري لجرعاته الدينية المطلوبة فلا يجدها إلا لدي تجار السموم الدينية، وفِي الوقت الذي مارست فيه جماعات الوصاية باسم الدين الاستعلاء علي الدولة سرا وعلانية فإنها تعجز عن معالجة المواطن الذي وقع في براثن جماعات التطرّف والارهاب، كما لو كان الأوصياء علي الدين في حالة اتفاق مع جماعات التطرّف لشغل الدولة عنهم ولتضليل المواطن ليصبح فريسة لهذه التنظيمات. في مواجهة عملية التضليل الممنهج لا ينبغي للدولة أن تقف مكتوفة الأيدي وإلا فقدت أهم صفاتها كدولة وهي القدرة علي امتلاك مقوماتها وأدواتها والسيطرة عليها وإدارتها لصالح أمنها القومي وأهدافها الاستراتيجية. فإذا كانت جماعات الوصاية باسم الدين قد فقدت قبلتها وبوصلتها واتخذت من الدولة منافسا لها في تسويق بضاعة دينية ظنت انها احتكرتها، بدلا من أن توجه جهودها لتنظيمات الإرهاب والتطرف التي أغرقت أسواق الوعي ببضاعة فاسدة.. إذا كان ذلك كذلك، فإن السبيل الوحيد هو الدولة القوية التي يخضع الجميع لدستورها وقانونها ولو كره المحتكرون. اسالوا أهل الذكر إن كُنتُم لا تعلمون، أهل الذكر في الدولة هم رجال الدولة، الذين يمارسون أدوارهم وسلطاتهم وفقا لما حدده الدستور والقانون ويراقبهم البرلمان. فإذا كان هناك من يعتقد أن لديه دستورا موازيا فإن محل تطبيقه وممارسته ليس داخل الدولة المصرية المرتكزة علي قوة ثورة 30 يونيو.