أظهرت دراسات وأبحاث أجريت علي مدار الأربعة عقود المنصرمة، أن قضية التحرش الجنسي والعنف ضد المرأة، باتت ظاهرة تجتاح العالم، ولا تقتصر علي مجتمعات دون غيرها، ويمكن القول إن غالبية نساء العالم يتعرضن للتحرش الجسدي واللفظي من قبل الرجال في مجتمعاتهم، وفي المقابل تتزايد في الآونة الأخيرة وتيرة الحملات والمواجهات المناهضة لتلك الظاهرة المشينة، وهو ما يعكس التحول الثقافي والفكري في التعاطي مع تلك القضايا المسكوت عنها، والتي كانت تعد في السابق من المحرمات، وأضحي هناك إصرار من المنظمات والهيئات الدولية علي إنهاء تلك الجريمة التي تنتهك كرامة المرأة وإنسانيتها وحريتها. الأمر المفزع يا سادة أن تلك الدراسات أشارت إلي أن مصر تأتي في المركز الثاني بعد أفغانستان، بقائمة الدول الأكثر تعرضا لتلك الظاهرة التي صارت واقعا يوميا، لا يرتبط بمرحلة عمرية أو مظهر أو وضع اجتماعي، حيث إن 99,9% من المصريات يعانين من التحرش، من بينهن 59,9% يتعرضن للملامسة الجسدية، و54% يواجهن التحرش اللفظي، وأن 82,6% من المصريات لا يشعرن بالأمان في الشارع، وبعضهن لم يدركن أنهن كن عرضة للتحرش، لعدم استيعابهن لأنواع التحرش ال13 التي أقرتها الأمم المتحدة!! لذلك لم يكن غريبا أن تخرج نساء مصريات عن صمتهن، ويشاركن نساء العالم، في حملة "أنا أيضا" بروايات واعترافات جريئة، ويروين تجاربهن "المريرة" عن التحرش الجنسي، في بلد يدعي آناء الليل وأطراف النهار أن شعبه متدين بطبيعته!! وفي مجتمع يحرض فيه محام علي هذه الممارسات، بل ويعتبرها "واجبا وطنيا" إذا كان ما ترتديه المرأة من ملابس يشجع علي ذلك، وحتي هذه اللحظة لم نسمع عن عقوبة قانونية صدرت ضد هذا المحامي!! لقد حرصت علي تلبية دعوة منظمة المرأة العربية لحضور ملتقي دور الجامعات العربية في مكافحة العنف ضد المرأة"، والذي نظمته بالتعاون مع جامعة القاهرة، تلك الجامعة العريقة والرائدة في إنشاء "وحدة مناهضة التحرش والعنف ضد المرأة"، وهي الوحدة التي تقوم بدور عظيم في تشكيل ثقافة الشباب الجامعي ووعيهم المجتمعي، وتشجيع الفتيات علي كسر حاجز الخوف والصمت، وامتلاك الشجاعة ليس علي "الفضفضة" وسرد تجاربهن الأليمة فحسب، وإنما علي عدم الاستسلام للإحباط والأذي النفسي والبدني، ومواجهة هذا السلوك الشائن الذي يتعرضن له في حياتهن اليومية بصلابة ، ومجابهة مجتمع يلوم المرأة ويتسامح مع المتحرش!! وترجع فكرة إنشاء وحدة مناهضة التحرش للدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة الأسبق، وترأسها الدكتورة مها السعيد، وتهدف الوحدة لوضع سياسات واضحة لمناهضة ظاهرة التحرش التي تتنافي مع القيم والأخلاقيات الأكاديمية، وصياغة آليات للوقاية والتوعية، وتحديد إجراءات للتعامل مع مرتكب تلك الجريمة التي تعوق توفير بيئة تعليمية يحظي فيها الطلاب والطالبات بالاحترام. وقد أتاح لي الملتقي فرصة الاستماع لتجارب عدد من الجامعات في الأردن وتونس والعراق واليمن وفلسطين، وما تقوم به لمواجهة ظاهرة العنف ضد المرأة، وأتوقف هنا أمام ما قاله د. كمال الدين حسين بن هاني رئيس الجامعة الهاشمية، ونجاحه في رفع مشاركة المرأة بالمناصب القيادية، لتقارب مشاركة الرجل في الجامعة، حيث تشغل المرأة منصب نائب رئيس الجامعة، وتمثل 47,6% من أعضاء مجلس العمداء، إلي جانب مديرات الوحدات والدوائر والأقسام، وتحديد "كوتة" للطالبات، واستبدال الأبواب الخشبية بأخري زجاجية شفافة. وأشار د. كمال الدين حسين للضغوط الاجتماعية والعشائرية التي تعرض لها، بهدف التستر علي 6 حالات تحرش من بينها 3 قام بها أعضاء هيئة تدريس، لكنه رفض كل الضغوط، واستطاع أن يصمد وينتصر للمرأة، ونجح في عزل خمسة من المتحرشين وتوجيه إنذار بالفصل للسادس، واعتبر ذلك بمثابة اعتذار للمرأة باسم المجتمع. وإذا كانت الدراسات التي قام بها المجلس القومي للمرأة، ركزت علي الخسائر المادية التي تتحملها الدولة، جراء انتشار العنف ضد المرأة، فإن د. محمود عارف نائب رئيس جامعة القاهرة، قد أشار أيضا للتكلفة الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والسياسية، باعتبارها ظاهرة تؤثر علي سلامة النسيج الاجتماعي والأخلاقي ودرجة استقراره الأمني والسياسي، وطالب باعتبار مناهضة ظاهرة العنف ضد المرأة وتجريمها، قضية من الأولويات القومية. إن لدي إيمان راسخ بأن تشكيل الثقافة والوعي المجتمعي يجب أن يبدأ من داخل أسوار الجامعات، لذا أطالب وزير التعليم العالي بإنشاء وحدة لمواجهة التحرش في كل الجامعات المصرية، فالشباب الجامعي هم صناع التغيير في كل المجتمعات.