صدرت العديد من كتب السير التي رصدت حياة أصحابها، غير أن سيرة العقاد تختلف تماما عن كل ما كتِب؛ فهي تعد نبراسا لكل من يريد أن يطَّلع علي سيرة أديب كبير، فقلما تجمل فيها، وأطلعنا علي الكثير من أسراره؛ لأنه لم يكتب عن العقاد الذي يعرفه الناس، بل كتب عن نفسه كما يعرفها العقاد؛ لذا اختلفت صورته كثيرا عن الصورة التي رسمها له معاصروه، فنراه ضاحكا، ومتواضعا، ورقيقًا، وعاشقا، وشاعرا، ومحبا للعزلة. ولكنه قريب من أصدقائه، وحاد كالسيف لا يعرف اللين إذا خاصم وإذا صادق. في ذكراه الرابعة والخمسين أصدرت دار العالم العربي كتابا جديدا تحت عنوان » سيرة ذاتية » عباس محمود العقاد، يقول أحمد مدكور » قد يتبادر إلي الذهن أن هذا الكتاب مدسوس علي العقاد، لأن العقاد نفسه لم يؤلف كتابا قائما بذاته يحمل هذا العنوان، لكن الحقيقة أن هذا الكتاب بأكمله من إبداع قلم العقاد فقد ضم هذا السفر الكبير نصوص ما كتبه العقاد من كتب خلال حياته، أو حمعه محبوه ومريدوه من مقالاته بعد مماته في فن السيرة، لقد جمع الكتاب بين دفتيه مؤلفات العقاد » أنا - حياة قلم- في بيتي - عالم السدود والقيود - رجال عرفتهم » وهي مؤلفات ترسم حياة العقاد الإنسانية والفكرية والإبداعية بدقة دون حاجة إلي كتابات الآخرين .. فكان الكِتاب صورةً صادقةً لحياةٍ حافلةٍ بالكثير من الخِبرات الحياتيَّة التي اكتسبها فيما يزيد علي سبعين عامًا، أحبَّ فيها الحياةَ، ولكنَّه أحبَّ القراءةَ أكثر من أيِّ شيء آخر؛ فعاش حيواتٍ أكثر من حياته . في مقدمة الكتاب يشير طاهر الطناحي -الكاتب الصحفي - حينذاك -الذي قد اتفق مع العقاد علي جمع مقالاته التي تحدث فيها عن نفسه ووضعها في كتاب ووافقه العقاد وتأتي مقدمة الكتاب بقلمه مشيرا إلي انه حينما اقترح عليه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد أن يكتب كتابًا عن حياته أجاب أنه سيكتب هذا الكتاب تحت عنوان »عني» والذي يتناوله من شقين: الأول الحياة الشخصية بما فيها من صفات وخصائص ونشأة وتربية ومبادئ وعقيدة وإيمان، والشق الآخر يتناول حياته الأدبية والسياسية والاجتماعية المتصلة بمن حوله وبالأحداث التي مرت به وعاش فيها، وقد وافته المنية قبل استكماله هذا العمل، فكان الجزء الأول منه وهو»أنا» الذي شمل العقاد الإنسان، فحياته النفسية والشخصية أضخم من أن يجمعها كتاب فهو يستعرض الأب والأم والبلدة وذكريات الطفولة والأساتذة وانطلاقه في المجال الفكري والأدبي والثقافي وإيمانه وفلسفته منتقلاً لفترة النضج بعد الأربعين والخمسين والستين والسبعين وبين كتبه وفي مكتبه ينهي هذا العمل القيم. من سطور كتابه تلك الكلمات التي يحفظها عشاق العقاد عن ظهر قلب كلما تحدثنا عن أهمية القراءة في حياتنا حينما قال :»أهوي القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني» بهذه العبارة فتح عالمه الجميل المملوء بالقراءة والكتب وتحدث عن مقالاته ومنهجه في التأليف. تحدث عن أصدقائه وأعدائه وأبواب السجون. كان له فلسفته الخاصة في الإيمان: »أؤمن بالله وراثة وأؤمن بالله شعورا وأؤمن بالله بعد تفكير طويل»، والحياة والحب: »إنه مصيبة حين تحمل به نفسا ثانية مع نفسك وأنت تريدها ولا تريدك، وإنه أمنية حين تتعاون النفسان ولا تتخاذلان». سنون عمره الممتدة من الأربعين إلي السبعين أدرج لها فصلا بأكمله، يقارن بينها في الحماسة والاستقرار. وعن الحياة كتب يقول : »لم يتغير حبي للحياة.. ولم تنقص رغبتي في طيباتها..ولكنني اكتسبت صبرًا علي ترك ما لا بد من تركهن وعلمًا بما يفيد من السعي في تحصيل المطالب وما لا يفيد، وزادت حماستي الآن لما أعتقد من الآراء، ونقصت حدتي في المخاصمة عليها، لقلة المبالاة باقناع من لا يذعن للرأي والدليل.. وارتفع عندي مقياس الجمال، فما كان يعجبني قبل عشر سنين لا يعجبني الآن، فلست أشتهي منه أكثر مما أطيق.. كنت أحب الحياة كعشيقة تخدعني بزينتها الكاذبة وزينتها الصادقة فأصبحت أحبها كزوجة أعرف عيوبها وتعرف عيوبي. لا أجهل ما تبديه من زينة، وما تخفيه من قباحة، إنه حب مبني علي تعرف وتفهم». كان يعرّف الحب بأنه اندفاع روح إلي روح، واندفاع جسد إلي جسد، وخلاصة فلسفته عبر عنها في كتابه »أنا»: »أنه قضاء وقدر، فهو يري أننا لا نحب حين نختار، ولا نختار حين نحب، وإننا مع القضاء والقدر حين نولد وحين نحب وحين نموت، لأن الحياة وفقد الحياة هي أطوار العمر التي تملك الإنسان ولا يملكها الإنسان». وفي القراءة كانت له رؤيته النافذة التي تقول:»: أن كتابًا تقرأه ثلاث مرات أنفع من ثلاثة كتب تقرأها مرة واحدة. وعندما سئل لماذا يهوي القراءة؟ أجاب: أهوي القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدي عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب، فكرتك أنت فكرة واحدة، شعورك أنت شعور واحد، خيالك انت خيال فرد إذا قصرته عليك. ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخري، أو لاقيت بشعورك شعورًا آخر، أولاقيت بخيالك خيال غيرك، فليس قصاري الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين، أوأن الشعور يصبح شعورين، أوأن الخيال يصبح خيالين.. كلا وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات من الفكر في القوة والعمق والامتداد...... ومهما يأكل الإنسان فإنه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة، ومهما يلبس فإنه لن يلبس علي غير جسد واحد، ومهما يتنقل في البلاد فإنه لن يستطيع أن يحل في مكانين، ولكنه بزاد الفكر والشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمر واحد، ويستطيع أن يضاعف فكره وشعوره وخياله كما يتضاعف الشعور بالحب المتبادل، وتتضاعف الصورة بين مرآتين. وصدق العقاد عندما قال: لقد علمتني تجارب الحياة أن الناس تغيظهم المزايا التي ننفرد بها ولا تغيظهم النقائص التي تعيبنا، وأغنهم يكرهون منك ما يصغرهم لا ما يصغرك، وقد يرضيهم النقص الذي فيك، لأنه يكبرهم في رأي أنفسهم، ولكنهم يسخطون علي مزاياك لأنها تصغرهم أوتغطي علي مزاياهم، فبعض الذم علي هذا خير من بعض الثناء لا بل الذم من هذا القبيل أخلص من كل ثناء لأن الثناء قد يخالطه الرياء، أما هذا الذم فهوثناء يقتحم الرياء