»بناتي العزيزات علمت الآن أن الزعيم جمال عبد الناصر سيمرّ من أمام مدرستنا في الخامسة مساء عائداً من رحلته إلي الأُمَم المتحدة وسوف نكون جميعاً في انتظاره لنحييه وهو ذاهب إلي منزله وسوف أقف معكم ونحن نحمل راية مدرستنا». هكذا بدأت أبلة زينب حسني تحية الصباح لفتيات مدرسة غمرة الإعدادية للبنات فتصايحت الفتيات وهن يهتفن: عاش الزعيم وساد جوٌّ من الحماس الذي جعل حضرة الناظرة تهتف: الهدوء....الهدوء عايزين بابا جمال يفرح بيكم ويشوف احترامكم للانضباط!!. ومن الرابعة كنا قد جئنا بالزي المدرسي وتزاحمنا في صفوف وبأيدي المدرسات أعلام مصر. وبعد طول إنتظار ظهر موكب الزعيم من بعيد يلوح لنا تسبقه ابتسامته الساحرة ولاحظنا أنه متاح بقامته المديدة والناس تتدافع لتصافحه وهو يمد يده اليهم ويأمر السائق بألا يسرع حتي لايخذل عُشّاقه ومحبيه من البسطاء، وفجأة إندفعت إحدي زميلاتي إلي سيارة الزعيم لتصافحه مثل الآخرين دون أن تنتبه إلي الدراجة البخارية التي تسبق سيارة الزعيم، ورغم محاولة السائق تفادي الفتاة إلا أنها سقطت بعد أن صدمتها الدراجة صدمة خفيفة وهنا ترك الزعيم كل شيء. ليهتف: »الحقوا البنت!» وكنا قد حملنا نجاح إلي مبني المدرسة لتلقَي الإسعاف اللازم ووجد الطبيب أن العزيزة »نجاح» قد أصيبت بشرخ طفيف في الساق ونُقِلت إلي المنزل في اجازة لمدة أسبوعين. وفي صباح اليوم التالي ظهرت أبلة الناظرة أمام الميكروفون وبيدها ورقة زرقاء وقالت: هذا خطاب من الرئيس جمال عبد الناصر موجَّه إلي بنات مدرسة غمرة، فصحنا في صوت واحد: معقول!! وغمرتنا خلطة من مشاعر الدهشة والبهجة وهي تقرأ المقدمة: زهراتي العزيزات. كنت سعيداً وأنا أراكن بثياب المدرسة تقفن في نظام للقائي، ولكنني صُدِمت بشِدة وأنا أري زميلتكن تندفع إلي السيارة لتُصاب بقدمها ووجدت أنه من الضروري أن أعاتبكن علي هذا الإندفاع لأنني تألمت كثيراً، وأنا الذي يحلم بأن تصبح كل واحدة منكن رائدة عظيمة تخدم مجتمعها وتحقق آماله في التنمية والتقدم.....». وهنا تبدّلت حالتنا من السعادة والفخر إلي الحزن الذي ترجمناه إلي دموع غزيرة لأننا أغضبنا بابا جمال بدلاً من أن نُسعده. وبعد خمسين سنة علي تلك الحادثة جلست علي شاطئ الساحل الشمالي مع العزيزة نجاح صديقة طفولتي ورفيقة دربي بعد أن مضي بنا العمر وصار ماضينا أطول من مستقبلنا وقررنا التسلي بالذكريات وحولنا الأقارب والأصدقاء من أجيال مختلفة ومعظمهم من الشباب فقالت وهي تسترجع الحادثة: »أعمل إيه يعني؟ أصلي كنت عايزة أسلم عليه زي الناس الكبار!!» وأجبتها أنا ضاحكة: »يعني كان لازم تجيبِلنا الكلام أهو الرئيس زعل منك وعاتبنا إحنا علي غلطتك!!» وإذا بها تسأل: »عاتبكم إزاي؟». ورددت »هو إنتي مش عارفة إنه بعث لنا جواب بسببك؟» قالت : »لأ طبعاً مش كنت في أجازة مَرَضية، وما جيتش المدرسة لمدة أسبوعين؟!». وهنا، تساءَل المحيطون بنا، »بتتكلموا عن مين من الأقارب أو الأصدقاء؟» رددنا ببساطة: »كنا بنتكلم عن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر أقرب من كل الأقارب وأحب من كل الحبايب!» هكذا كانت علاقته بكل فرد في شعبه.