«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.رفعت سيد أحمد يكتب: فى الذكرى ال96 لميلاد الزعيم «عبد الناصر الحىُّ»
نشر في الدستور الأصلي يوم 17 - 01 - 2014

مصر لا تحتاج إلى زعيم فرْد وإنما إلى مَن ينشر قيم الثورة ويحرك الشعب ليكون هو القائد
قائد ثورة يوليو 1952 لا يزال مُلهِمًا لقِيم العدل والحرية والاستقلال الوطنى
تعلَّم عبد الناصر فى «بنى مر» معالمَ الصبر والجهاد والثورة.. وآمن بأن مصر قادرة على إنجاب الأحرار رغم عنف المستعمر وفساد الأحزاب
فى الذكرى السادسة والتسعين لميلاد عبد الناصر، تشتعل المنطقة العربية ومصر فى قلبها بثورات حقيقية بعد أن ركبت أمريكا ومن حالفها من تيار الإسلام السياسى على الثورات السابقة منذ يناير 2011 وحتى تم التصحيح أولا فى سوريا حين انتصرت الدولة، على جماعات الإرهاب وعصابات العنف ومشيخيات الخليج المحتل (9 قواعد عسكرية أمريكية) وتركيا أردوغان الفاسدة والتابعة للغرب (26 قاعدة عسكرية أمريكية)، ثم ثانيا فى مصر فى 30 يونيو 2013 التى أعادت «الدولة» و«الثورة» إلى أصحابها، فى هذه الأجواء ومع إقرار الشعب المصرى للدستور الجديد تأتى ذكرى الميلاد ال96 (ولد يوم 15/1/1918)، وهى تأتى لتقدم دلالات مهمة أبرزها أن الرجل لا يزال حيًّا فى عقل وذاكرة الثوار الجدد، و«حياته» تلك تعود إلى كونه قدم عبر تجربته نموذجا للاستقامة الشخصية، وللحكم العادل المستقل، وللإرادة الوطنية الحرة وإذا ما ركزنا على حياته الشخصية، فسوف نكتشف حقائق مهمة دعونا فى ذكرى ميلاده نستحضرها.
- طويلة هى قصة «عبد الناصر الإنسان والسياسى» ولأن الحياة لا تنفصل عن محيطها الإنسانى، فالإنسان لا ينفصل بأى حال عن المحيط السياسى العام لوطنه، بل ربما كان للتنشئة الأسرية، والمؤثرات الاجتماعية الأولى، تأثيرها الأول على سلوك ذلك الإنسان السياسى وعلى قراراته وتعاملاته الكبرى.
- وذلك تحديدًا، هو الشكل، بشأن جمال عبد الناصر، الإنسان، والسياسى، فما حدث فى تنشئته الأسرية والاجتماعية الأولى كان له تأثيره المباشر على تكوين شخصية (الزعيم) والقائد الذى سيؤصل من خلال تلك التنشئة الأولى، طريقا جديدا لقيادة أمته فى انتصاراتها وانكساراتها، فى أحلامها وآلامها.
- ومن هنا تأتى أهمية تناول تلك البدايات الأولى، التنشئة الأسرية والاجتماعية والسياسية لعبد الناصر، وتأتى الصعوبة والحذر الشديد أيضًا، فنحن إزاء شخصية تعددت فيها الآراء واختلفت، بل وتناقضت، ولم يتوقف تناقض تلك الآراء عند حدود بذاتها، أو سقف بذاته، بل تجاوزت، هى، كل الحدود والسقوف المسموح بها فى التحليل السياسى والبحث العلمى. والمهم هنا أن هذا التجاوز وصل إلى حد أسلوب التناول للنشأة الأسرية والسياسية الأولى لجمال عبد الناصر، وحملها البعض- خصوصا من المعارضين لناصر- أكثر مما تحتمل، وقال بشأنها الكثير مما يقدح فى أسرة عبد الناصر، وفى تكويناته الاجتماعية الأولى وعلاقاته العامة.. الأمر الذى لا يستقيم والرؤيةَ الأمينةَ التى ينبغى أن يتسلح بها العلماء والمؤرخون.
- من هنا تأتى الصعوبة، بعد الأهمية، بشأن شخصية عبد الناصر فى تكويناتها الأولى، ومن هنا نبدأ محاولين تجاوز ذلك بقدر المستطاع وبتجرد علمى، لا يخفى انحيازه لعبد الناصر وزمانه وتجربته الرائدة، ولكنه انحياز للحقيقة، ولمصالح هذه الأمة التى تبنى وتبقى فى نظرنا من خلال أخذ العبرة من التاريخ من أجل فهم المستقبل، وبخاصة تاريخ زعمائنا (نشأةً وسياسةً وسلوكًا وأحلامًا) وإلى عبد الناصر كنموذج.
البداية:
وُلِدَ عبد الناصر فى بنى مر من أعمال أسيوط فى 15 يناير سنة 1918، ولد فى تلك اللحظات الحاسمة من تاريخ مصر.. بل وتاريخ العالم كله..
فى هذا العام انتهت الحرب العالمية الأولى، وأعلن «ولسون» أمام قبر واشنطن مبادئه التى خدع بها المصريين، فقال ولسون: «إن عهد الفتوحات والتوسعات قد مضى وانقضى، وأصبح من الممكن لكل أمة تتفق آمالها مع العدل وسلام العالم أن تصرح الآن، أو فى أى وقت من الأوقات بالأغراض التى تصبو إليها.. وأن دعائم العدل الدولى يجب أن تركز على مبدأ تقرير العدل بالنسبة إلى الشعوب قاطبة ولكل الجنسيات لا فرق بين قويِّها وضعيفها».
وفى ذاك العام عُقدت الهدنة «11 نوفمبر 1918»، وكان فؤاد قد ولى سلطانا على مصر بتبليغ بريطانى.. وكان أبطال الوطنية المصرية فى منفاهم خارج مصر وفى مقدمتهم الزعيم الوطنى محمد فريد، وكان لكفاحه مع زميله مصطفى كامل الأثر القومى الأول، وبرز فى روح الثورة المصرية التى اندلعت. وفى نفس العام وقعت مقابلة 13 نوفمبر 1918 بين سعد زغلول وعبد العزيز فهمى وعلى شعراوى مع ممثل دار الحماية البريطانية فى مصر السيد «رجلند ونجت» المندوب السامى البريطانى، وهى المقابلة المخزية التى ظلت الأحزاب تحتفل بها مدى ثلاثين عاما كيوم من الأيام الخالدة المشرفة فى تاريخ الوطنية المصرية حتى جاء جمال عبد الناصر فألغى هذا «العيد» المؤسف.
وتألف فى هذا العام الوفد المصرى، وبدأ يجمع توكيلات من الأمة لها صيغة هزيلة هذا نصها: «نحن الموقعين على هذا، قد أنَبْنا عنا... فى أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجد للسعى سبيلا استقلال مصر تطبيقا لمبادئ الحرية والعدل التى تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى وحلفاؤها».
وهكذا يمكن القول بأن جمال عبد الناصر ولد فى أتون الحوادث، وفى اللحظات الحاسمة فى تاريخ مصر، وفى فجر ثورة 1919 التى وضع الزعماء المتكالبون على الحكم الماء على نارها، وقتلوا روحها التى كانت خليقة بأن تدفع مصر إلى الأمام بقوة.. لو قام على حراستها رجال فى مثل أمانة رجال ثورة 23 يوليو.
وُلدَ جمال عبد الناصر فى بلدة بنى مر.. وهى قرية مصرية صميمة كانت قريبة من أتون ثورة سنة 1919، وقد أدى أهلها دورهم كغيرهم من أبناء هذه المنطقة فى هذه الثورة التى اشتركت فيها جميع طبقات الشعب، واندلعت فى وقت واحد فى جميع أنحاء البلاد وفق أسلوب منظم مرتب، تجلت فيه معنوية الشعب، واعتمدت على روحه وقوة إيمانه.
وشب جمال عبد الناصر فى هذه القرية، وسمع من أهله أنباء هذه الثورة، فقد ظلت حديث الشيوخ مدة طويلة، ولا بد أنه سمع من شيوخ بنى مر كثيرًا عن الدور الذى قامت به أسيوط والبلاد المجاورة لها.
بنى مر: حين امتزج النضال «المسيحى - الإسلامى» فأثر فى عبد الناصر
- تميزت قرية بنى مر، من جهة أخرى بكون ثلث سكانها من الأقباط، الأمر الذى جعل منها فضاء مصريا عربيا يسِمُه التعاون والتعايش، وشكل فيها وجود كل من العنصر المسيحى والعنصر الإسلامى عوامل إخصاب وإثراء للثقافة العامة التى كانت تتوزع داخل القرية، خصوصا أن هذه الأخيرة لم تكن تتوفر على منشآت تعليمية أو ثقافية إلى حدود 1890، إذ قرر جد جمال إنشاء «كُتاب» قصد تعليم أبناء القرية القراءة والكتابة والحساب، وفى 1922 بُنيت أول مدرسة ابتدائية للبنين وفى سنة 1944 أنشئت مدرسة أخرى للبنات.
داخل هذا الفضاء الريفى فتح جمال عينيه، وبين أشيائه وناسه وترعرع ومع عناصره الثقافية العفوية تفاعل.
وعبد الناصر كان يؤمن بانتمائه الاجتماعى ولم يتنكر له فى يوم من الأيام، كان يقول: «أنا أفخر بأننى واحد من أهالى بنى مر وأفخر أكثر من هذا يأتى واحد من عائلة فقيرة. وأنا أقول هذا لأسجل وأعاهدكم أن جمال عبد الناصر سيستمر حتى يموت فقيرًا فى هذا الوطن».
ثم انتقل إلى مدينة أسيوط لمواصلة تعليمه، ومع ذلك بقى على اتصال يومى مع قريته، ولم تُنسِه حركة المدينة ارتباطه العضوى مع العائلة والأرض والناس، وبعد ذلك ذهب إلى الإسكندرية مع والده الذى عُين فى ما بعد بالقاهرة مأمورًا للبريد فى حى «الخرنفش» الموجود بين الأزبكية والعباسية. وفى هذا الحى يستأجر أبوه بيتا بسيطا. حيث سينخرط جمال عبد الناصر، شيئا فشيئا، فى الحركة السياسية التى أخذت تتشكل ضد المستعمر البريطانى الذى كان يهيمن بشكل مطلق على مقدرات الشعب المصرى ويحاصر كل إرادة، تسعى إلى الانعتاق والتحرر. لكن موت أمه كانت صدمة عنيفة أثرت على كيان الطفل واستدعته للتفكير فى وضعه الجديد المتميز باليتم.
وفى سن الثامنة، الذى يوافق عام 1926م، غادر فيه جمال عبد الناصر الريف إلى القاهرة. كانت السياسة الفاسدة لزعماء الأحزاب قد قضت على الوطنية، ونقلتها من روح الجهاد ومقاومة المستعمر إلى ذلك الأسلوب من المناورات السياسية والصراع الحزبى، وتحول الكفاح من الخارج إلى الداخل، فبعد أن كانت مصر تتجمع كلها لتحارب المستعمر، انقسمت إلى صراع داخلى قوامه الشتم والسباب بين الأحزاب المصرية.
- وأمضى جمال عشر سنوات، حتى كان عام 1937م، فى التحصيل العلمى والنشاط السياسى، ثم نال شهادة «البكالوريا» من مدرسة النهضة المصرية بالقاهرة، وكانت درجاته ممتازة، وكان قد اشترك فى ثورة 1936م بعد تصريح (هور)، هذه الثورة التى فقد فيها صديقه وزميله فى الكفاح الأول عبد الحميد مرسى الذى خر صريعا بسبب الظلم والاحتلال، فأنساه ما أصيب به فى نفس اليوم، ورسم فى نفسه يومئذ أن عليه واجبا عليه أن يفنى فى سبيله، فقد حدث فى هذا اليوم أن صحا جمال مبكرًا، وذهب إلى المدرسة وقال للطلبة زملائه: «إن الإنجليز يفعلون كل يوم عملًا منكرًا فيجب أن نظهر شعورنا باحتقارهم، ثم وقف فى فناء المدرسة، بقوامه الطويل، وعينيه اللامعتين، وصوته الجهورى، ولهجته الآمرة التى تحس فيها روح السيطرة والزعامة، وقال بأعلى صوت: «يسقط الإنجليز.. يسقط الإنجليز». وفى نفس هذه اللحظات اجتمع حوله الطلبة وساروا فى مظاهرة حتى وصلوا إلى الجامعة، وهناك قامت الجامعة بأخطر مظاهرة حدثت فى ذلك الوقت. وقاد جمال هذه المظاهرة، ثم فجأة وبلا مقدمات أطلق البوليس الرصاص على الطلبة، ورأى أحد الجنود جمال فجرى وراءه حتى لحق به وأصابه فى وجهه ظل أثرها باقيا حتى وفاته عام 1970، وما كاد يدخل المدرسة فى اليوم التالى حتى قابله الناظر وقال له: «أنت مفصول». هل كانت هذه الحادثة بداية القصة ومقدمة الكفاح؟
إن جمال عبد الناصر نفسه لا يوافق على هذا ويقول: إن بذور الثورة فى نفسى كانت أبعد من الغور الذى عشت فيه طالبا أمشى مع المظاهرات الهاتفة بعودة دستور 1923م، وقد عاد الدستور سنة 1935م، وأيام أن كنت أسعى مع وفود الطلبة إلى بيوت الزعماء نطلب منهم أن يتحدوا من أجل مصر، وتألفت الجبهة الوطنية سنة 1936 بالفعل على أثر هذه الجهود».
وفى خلال هذه الفترة كان جمال يقرأ بنهم عجيب، كان يتطلع إلى تثقيف نفسه بكل ما تصل إليه يده، وكان محبًّا لتاريخ الأبطال والزعماء من محررى البلاد وكان كلفًا بأبطال الإسلام وشخصيات التاريخ، وقد قرأ فى هذه الفترة كتب «الحركة القومية» للرافعى، وقرأ «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، (وهى الرواية التى سنعيد قراءتها سياسيا بعيون ثورتى 25 يناير و30 يونيو، قريبا على صفحات هذه الجريدة الغراء)، كان جمال يتوق إلى دراسة الحقوق بعد الانتهاء من البكالوريا، ولكنه عاد فى اللحظة الأخيرة فقرر دخول الكلية الحربية.
وفى التفرقة بين كلية الحقوق والكلية الحربية.. كان الفارق بين شخصية الشاب الذى كان قد فهم أن تحرير مصر ليس عن طريق (القضية) كما كان يطلق عليها المحامون الذين أتيح لهم أن يصبحوا زعماء مصر من تلاميذ المدارس الحزبية، ولكن عن طريق البندقية كما يفهمها أبناء المدرسة الوطنية العسكرية المصرية.
مثقف وثائر نادر المثال
- ويحكى «جان لاكوتير» أن عبد الناصر تأثر كثيرًا بمصطفى كامل وبشخصية سعد زغلول، كما غذّته قصائد أحمد شوقى القومية.
ولم تقتصر قراءاته على الكُتّاب المصريين، إذ تعدتها إلى الاطلاع على المفكرين الفرنسيين وحياة كثير من الشخصيات السياسية التى أثرت على مجرى التاريخ، وفى هذا الصدد يقول لاكوتير أيضا إنه كان«يقبل على مطالعة مؤلفات مشاهير المفكرين والكتاب الأجانب، حتى إننا نجد له فى هذه المجلة التى كانت تصدرها مدرسة «النهضة» مقالا بعنوان «رجل الحرية» وفيه يبرز الكاتب دور فولتير وروسو كمفكرين حرين فى التمهيد للثورة الفرنسية وينوه بجهاد أولهما فى سبيل حرية الفكر والتعبير «بل إنه تبين أن عبد الناصر فى أثناء التحاقه بالمدرسة الحربية، قرأ كتاب: «بونابرت حاكم مصر» «لشارل رو» وكتبا أخرى عن الرجال الذين أثروا، إنْ قليلًا أو كثيرًا، فى حركة الأحداث.
- لم يكن عبد الناصر رجل قرار وسلطة وحسب، بل كانت له علاقة خاصة مع الكتاب، ولم يتعب يوما من القراءة، على الرغم من التعب الجسدى الذى أصابه فى آخر أيامه وأودى به وهو ابن ال52 عاما. وفى هذا السياق، يحكى أحمد بن بله (الزعيم الجزائرى الكبير الراحل) أنه من بين القواسم المشتركة التى كان يلتقى فيها مع جمال عبد الناصر تأتى القراءة، إذ إنهما كانا يتبادلان الكتب والرسائل ويتناقشان فيها حول موضوعات استفادا منها عن طريق القراءة.
- كل ذلك، أنتج لديه شغفا عارما بالحياة وبمفاهيم الشرف والعزة والكرامة والحرية، الأمر الذى أدى به إلى الاقتناع بضرورة الحركة من أجل بلورة هذا الشغف إلى ممارسة استمدت من ثورة الشعب المصرى مقومات مصداقيتها وجعلت من ملابسات المرحلة قاعدة استقطاب داخل صفوف الضباط والجنود التى انضم إليها بعد تخرجه فى الكلية الحربية، وهكذا لم ينته عام 1951م، كما يقول لاكوتير «حتى كانت النواة (أى نواة الضباط الأحرار) تضم نحو 300 عضو يشكلون خلايا سرية، على رأس كل واحدة منها ضابط، وقد سارع عبد الناصر بعد حوادث القناة وحريق القاهرة إلى وضع منهج عمل يتركز على ست نقاط هى:
1- تصفية الاستعمار والخونة الذين يؤيدونه فى صفوف المصريين.
2- تصفية الإقطاع الذى يملك أراضى واسعة جدا، ووضع حد لتحكم الإقطاعيين فى فلاحيهم.
3- وضع حد لسيطرة رأس المال على الحكم.
4- تحقيق العدالة الاجتماعية.
5- إنشاء جيش وطنى قوى.
6- إنشاء نظام ديمقراطى سليم.
هذه هى المبادئ الأساسية العامة التى على هديها تحرك تنظيم الضباط الأحرار».
ومن بعدها انطلقت ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة اليوزباشى جمال عبد الناصر، ذلك الفتى الصعيدى الذى وُلد ذات صباح فى يناير 1918 فى قرية صعيدية صغيرة وصابرة وثائرة اسمها بنى مر، سيسجل التاريخ فى ما بعد اسمها بأحرف من نور، وسيسجل أيضا أن المبادئ الستة السابقة هى ذاتها المبادئ التى ما زالت مصر فى العام 2014 وبعد 96 عاما على ميلاد عبد الناصر تحتاج إليها وبقوة.
- اليوم ونحن فى أجواء دخول مصر مرحلة ما بعد دستور ثورة (30/6/2013)، والذى تصادف الاستفتاء عليه مع يوم مولد الزعيم (15/1/1918) نؤكد أن مصر تحتاج ليس إلى زعيم استثنائى مثل جمال عبد الناصر فهذا صعب إن لم يكن مستحيلا، لاختلاف الظروف الدولية والإقليمية، وتعقد مشكلات البلاد والعباد، ولكنها تحتاج بالتأكيد إلى تلك الروح الصلبة والمستقلة التى كانت تميز عبد الناصر، وإلى مشروعه القومى التحررى، وإلى رسالة العدل والكرامة التى كان يرفعها، وهذه مهمة قوى ونخبة وشعب وليست مهمة (فرد) أو قيادة كاريزمية لن تتكرر بذات المواصفات الناصرية.
- إن مصر ما بعد الاستفتاء على الدستور، وفى ذكرى ميلاد عبد الناصر، تحتاج إلى (عقيدة) عبد الناصر وليس إلى (شخص) عبد الناصر، تحتاج إلى (ثورة) عبد الناصر، وليس إلى فرديته أو زعامته فحسب، فهل البلاد قادرة على ذلك؟ نحسب أن مصر التى أنجبت (الكبار) وغيّرت التاريخ، قادرة، وبإمكانها أن تقدم لنا الجديد، وأن تعيد إلى الأمة مرة أخرى قيم الحق والعدل والاستقلال الوطنى، تلك القيم التى دعا إليها عبد الناصر ومات من أجلها.. أن تعيد إليها دورها وبريقها، فقط لنبدأ العمل، ولا نرتعش أو نتردد فى الفعل الثورى، كما كان يقول عبد الناصر وعن حق: «إن الأيادى المرتعشة غير قادرة على البناء». رحم الله الزعيم فى يوم مولده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.