في مناسبة مرور مائة عام علي مولد جمال عبد الناصر يتراءي لي ناصر وكأنه البطل في رواية الأديب الكولومبي الأشهر جابرييل جارسيا ماركيز » مئة عام من العزلة »، كأنه هو البطل خوسيه أركاديو بوينديا الذي أسس قرية ماكوندو والذي تناسلت منه ستة أجيال علي مدار قرن من الزمان، أجيال اغتربت عن القرية ثم عادت لها، خاضت حروبا وهمية وأخري حقيقية ودام صراعها علي الأرض مئة عام. مثل بوينديا بطل الرواية التي حازت علي نوبل وطبعت منها طبعات بلا عدد واعتبرت من أهم الأعمال الروائية في القرن العشرين، مثله ارتبط اسم جمال عبد الناصر ببعض أبرز التحولات السياسية في الألفية الثانية: انتصار حركات التحرر الوطني، تأسيس حركة عدم الانحياز، إنجاز أول وحدة عربية وإعطاء زخم كبير للمشروع القومي العربي، انتصار الإرادة الوطنية في المواجهة مع القوي الكبري (تأميم قناة السويس وبناء السد العالي)، فضلا عن العديد من الإنجازات الاجتماعية -الاقتصادية علي المستوي القُطري أعادت التوازن للعلاقة المختلة بشدة بين الطبقات. من ناصر كانت البداية كما كانت البداية من بوينديا، وفي كل منعطف تمر به الأمة يتم استحضار ذكري ناصر كما يتم استحضار ذكري بوينديا عند مفترقات الطرق التي تمر بها القرية، ناصر مذكور وحاضر ومُستدعي من الأنصار الذين يَرَوْن أن بوصلته كانت الأسلم والأصوب والأدق، ولكنه أيضا مذكور وحاضر ومُستدعي من خصومه الذين كلما تعثرت أقدامهم أشاروا بأصابع الاتهام إلي ميراث ناصر وكأن كل من توالوا من بعده كانوا أشباحا أو كانوا كالأشباح. في علاقتنا بدائرتنا الأفريقية نعيش علي ما حققه ناصر، وفي احتدام الصراع مع إسرائيل نستعيد بعض لاءات ناصر، في مواجهة تمزيق الدولة العربية نتمسك بتاريخ الأكراد مع ناصر، وفي أزمة العلاقة مع الإسلام السياسي نستفيد من خبرة ناصر. نحتفظ في اللاوعي ببعض من عناصر مشروعه ونعيد صياغتها لمواجهة تحدياتنا لكن بطموح أقل وتحت سقف أكثر انخفاضا، تماما كما يكرر التاريخ نفسه في مائة عام من العزلة، وأملنا ألا ينتهي بِنَا الحال إلي ما انتهي إليه أمر قرية ماكوندو فسهل أن تضع حدا لعمر قرية وناسها علي الورق أما في الواقع فإن الدول والشعوب لا تندثر بسهولة. بالتأكيد كانت لناصر أخطاؤه فلم يكن ناصر نبيا ولا صحابيا أو وليا إلا في شعر نزار قباني » قتلناك يا آخر الأنبياء.. ليس جديدا علينا اغتيال الصحابة والأولياء»، وبعض أخطائه كانت قاتلة.. قَتَلَته هو نفسه في 5 يونيو 1967. لكن من المؤكد أيضا أن بعض ما حققه ناصر باق بل هو صالح لأن يُبني عليه، فرغم كل التغير في الظروف منذ 28 سبتمبر 1970 وحتي يومنا هذا فإن البعض من ثوابت المنطقة مازال باقيا، الاستهداف باق، والاختراق باق، والاستنزاف باق، والعقوبات باقية، ومحاولات التجزئة باقية، كما أن روح المقاومة باقية والمشتركات بين الشعوب باقية. لكن المشكلة أنه في التعامل مع تاريخ عبد الناصر تنعدم الموضوعية إلا قليلا. علي المستوي الشخصي لا أعتبر نفسي من جيل عبد الناصر فلقد ولدت قبل شهور قليلة من العدوان الثلاثي علي مصر الذي توّج ناصر بطلا شعبيا بامتياز، وهكذا فعندما رأيت نور الدنيا كان ناصر في ذروة جماهيريته مصريا وعربيا وفي دول العالم الثالث، وإن احتجت بضع سنوات أخري لأكون جزءا صغيرا جدا من هذه الجماهير . كانت البيئة المحيطة بي في المجمل بيئة معادية لعبد الناصر ، فلم تغفر أمي قط لعبد الناصر أنه رفع أبناء الطبقة الفقيرة إلي مصاف الطبقة الوسطي، ألغي الألقاب ومعها المسافات بين الثروات، وبالنسبة لها كان العهد الملكي هو مستودع ذكرياتها الجميلة ورمز الأناقة في الملبس والسلوك معا، وكان تعاطفها عظيما مع آخر سلالة محمد علي. ومع أن أبي لم يكن له الموقف نفسه في البداية إلا أن النكسة أولا ثم ما عُرِف بمذبحة القضاة عام 1969 ثانيا كانا فارقين في تحول موقفه من الحياد إلي الخصومة. لم يفهم أبي قط كيف يمكن لأحد أن يتعدي علي سلطة القاضي فلقد كان ميزان العدالة بالنسبة له أكثر بكثير من مجرد رمز تمسك به امرأة معصوبة العينين. شئ ما حصنني ضد الخطاب المعادي لعبد الناصر في بيئتي الصغيرة وجعلني أنحاز لخطه بإرادتي المطلقة، بدا لي هذا القائد الشامخ -الذي ينحني لفلاح بسيط أو يرد بنفسه علي تليفون مكتبه وهو الذي يهدد كبريات الدول العظمي والإقليمية أو يمشي منتصبا جوار نهرو وتيتو وشواين لاي وخروشوف- جامعا لمزيج فريد من التواضع والعزة. كان اقتناعه بالعروبة حقيقيا وإيمانه بفلسطين صادقا واستطاع بقناعته وإيمانه أن يمد جسرا حميما بين الشعب المصري وبين الشعوب العربية وأن يؤسس بعمق للدور العربي لمصر. كانت جامعات مصر والسينما والمسرح والصحافة في مصر تمتلئ بأسماء عربية صار أصحابها من بعد قامات رفيعة يشار لها بالبنان، وشكّل هذا جزءا من نهضة ثقافية عامة تَشَارَك المصريون والعرب في بنائها. لم يكن عبد الناصر ديمقراطيا هذه حقيقة لكنه نشّأ قيادات سياسية محترفة داخل منظمة الشباب شاركَت في عملية الانتقال الديمقراطي، وتشكلت وفق مبادئه تنظيمات بطول الوطن العربي وعرضه نافست في الانتخابات وساهمت في الحراك السياسي. بعد ثمانية وأربعين عاما من رحيل عبد الناصر لازال الرجل يفرض نفسه، وهاهم أهالي مدينة بعلبك في سهل البقاع اللبناني يطالبون بعودة تمثال عبد الناصر إلي مدينتهم، وما أكثر تماثيل عبد الناصر في لبنان وما أكثر ما تعرضت لانتقام كارهيه بأشكال مختلفة. قالوا إن ناصر هو من أخرج جماهير 8 و9 يونيو 1967 لتطالبه بالعدول عن التنحي فمن طالب أهل بعلبك باستعادة تمثاله ؟ بل من أخرج مشهد جنازته الرهيب وخصومه أنفسهم يعتّدون بحجم المشيعين في التدليل علي الشعبية والشرعية معا بقولهم »بيننا وبينكم الجنائز ؟».