كانت البداية مظاهرة في يوم 52 يناير بميدان التحرير، مظاهرة مثل كل المظاهرات التي كانت تنظمها الجماعات السياسية المختلفة المناهضة للنظام طوال السنوات العشر الأخيرة.. تبدأ في الصباح برفع اللافتات، وترديد الهتافات، ثم يحاصرها الأمن المركزي من الجهات الأربع، وقبل حلول المساء تنفض بسلام، ويذهب كل حي إلي سبيله، وتعود قوات الأمن المركزي إلي ثكناتها. ولكن مظاهرة الثلاثاء 52 يناير في ميدان التحرير لم تنفض في المساء ، وكانت الظاهرة المثيرة للانتباه ان المتظاهرين من الشباب، وان عددهم يتزايد في كل لحظة ، ويرددون شعارات تختلف عن تلك التي يرددها محترفو السياسة ، ويرفعون لافتات تؤكد انهم جاءوا إلي الميدان ليس لمناصرة حزب أو جماعة أو نقابة، وانما جاءوا إلي هنا من اجل مصر، ولن يرحلوا قبل ان يطمئنوا علي مستقبل مصر. قبيل منتصف الليل ادركت قيادات الأمن انها تواجه نوعا آخر من المتظاهرين، وانهم لن يرحلوا كما فعل غيرهم، فتم تفريق المظاهرة بالقوة، ونقلت المحطات الفضائية مشاهد المواجهة غير المتكافئة بين المتظاهرين وقوات الأمن المركزي التي استعانت بسلاح المياه لتفريق الشباب.. هذا المشهد أثار استياء مصر كلها، وكان بداية لتعاطف شعبي واسع مع مطالب الشباب بالتغيير. بعد صلاة جمعة يوم 82 يناير عاود الشباب زحفهم نحو الميدان وهم اكثر صلابة واصرارا علي تحقيق مطالبهم مهما كان الثمن.. وفي هذه المرة لم يكن الشباب وحدهم، فقد تحول ميدان التحرير إلي مؤتمر شعبي واسع يضم كل المصريين. أمهات يحملن اطفالاً رضع . آباء وأجداد . ريفيون بسطاء من قري مصر . عمال وموظفون . ورجال دين إسلامي ومسيحي.. مصر كلها زحفت إلي هناك لمؤازرة الشباب. حتي الذين لم تسمح ظروفهم بحضور هذا العرس الوطني شاركوا بالدعاء أو النصيحة ووضعوا ايديهم علي قلوبهم خوفا علي سكان الميدان الجدد من بطش الأمن.. طبيب العيون الدكتور ايمن صلاح الدين حكيم اتصل بي قائلا انه يخشي ان تعاود قوات الأمن المركزي استخدام المياه لتفريق المتظاهرين لأن قوة ارتطام المياه بالوجه قد تؤدي إلي العمي، وقال متوسلا: ارجوكم انشروا هذا التحذير لحماية عيون شبابنا، واكد انه مطلب وطني لنشطاء ميدان التحرير. وهكذا توجهت كل قلوب وعيون المصريين إلي شباب التغيير، تناصرهم وتحميهم وتشد علي ايديهم باعتبارهم الأمل في تغيير وجه مصر. وكان الشباب عند حسن الظن، عندما برهنوا علي انهم قادرون علي إبداع ثورة بيضاء تحقق آمال وتطلعات كل المصريين، وتأخذ بأيديهم إلي حياة جديدة عمادهما الحرية والكرامة. يوم الجمعة 11 فبراير الذي تخلي فيه الرئيس عن السلطة، اكتشفنا نحن الآباء والأجداد ان ما حدث يوم الثلاثاء 52 يناير لم يكن مجرد مظاهرة، بل كان الخطوة الأولي نحو ثورة تاريخية تحققت في أروع صورة. ثورة صنعها أبناؤنا الذين أسأنا فهمهم، وعجزنا عن التواصل معهم، فتركونا نندب حظنا.. ونبكي عجزنا، وفعلوا من أجلنا في 81 يوما فقط ما لم نستطع إن نفعله من اجلهم طوال 03 عاما.