وصلت الجهالة، كما سلف أن أشرنا، إلي قتل أخوين شقيقين، بزعم كفيف بان الموسيقي والعزف علي آلاتها كبيرة من الكبائر الغليظة في الإسلام، وصلت لدي القتلة إلي حد التكفير، واستحلال قتل الروح التي خلقها الله، وأعزها وكرمها، وحرم قتلها. ومن المؤسف الموجع، أن يرتكب هذا القتل ومصادرة الحياة، والمصادرة علي الموسيقي والغناء باسم الإسلام، وفي القرن الواحد والعشرين، والدنيا من حولنا تعيش الحياة بكل قيم العطاء والتجدد، وبعد قرون سبقت فيها كتابات من كبار الفقهاء عن السماع، أوضحت أن الموسيقي والغناء ظاهرة إنسانية تشترك فيها جميع الأمم، ولم يحرمها الإسلام، فهما من خصائص الطباع البشرية. كتب عن ذلك ابن القيسراني عالم الحديث الكبير المتوفي سنة 507 ه، في كتابه الضافي: »السماع» والذي حققه الأستاذ القدير أبو الوفا المراغي، ونشره المجلس الأعلي للشئون الإسلامية في عام1970 وأعاد نشره لقيمته في عام 2010، بتقديم للأستاذ الفقيه محمد أبوالفضل إبراهيم رئيس لجنة إحياء التراث الإسلامي بالمجلس، والذي كان من فضله أن حقق دررًا نفيسة من تراثنا الرفيع.. ومن المؤسف أن تكون الدنيا والحياة في جانب، وأن نبتعد نحن باسم الإسلام عن الحياة، ونفترض أن الأصل في كل شيء هو التحريم، مع أن المبدأ في أصول الفقه، أن الأصل في الأشياء الإباحة، ما لم يقم دليل معدود يحرمها. الراهبة السابقة المقوّل إنها اعتنقت الإسلام كنت أقرأ كتابًا ضافيًا للراهبة السابقة كارن آرمسترونج، ويقال إنها اعتنقت الإسلام، وهي علي أية حال كانت راهبة لسنوات، وانتصفت للنبي محمد عليه الصلاة والسلام من كراهية وتجنّي الغرب، في كتابها النفيس: »محمد»، الذي ترجمه الدكتور محمد عناني والدكتورة فاطمة نصر، وكل كتاباتها تتسم بالحكمة والاتزان والموضوعية والوقار.. قرأت لها في كتابها عن مسعي البشرية الأزلي في السعي إلي الله، أن إحدي خاصيات العقل البشري هي قدرته علي امتلاك أفكار وخبرات تفوق إدراكنا المفاهيمي، وأن من أمارات اتجاه عقولنا للمتسامي والإحساس به، أن الموسيقي ظلت مرتبطة بالتعبير الديني بأسلوب لا تنفصم عراه، وذلك لأن الموسيقي، مثل التجربة الدينية في أفضل أحوالها، تعين »حدود العقل»، ولأن كل مجال معرفي يُعرَّف بحدوده القصوي، فمن المنطقي أن تكون الموسيقي »تعريفيًّا» عقلانية. وهي من أكثر الفنون ارتباطًا بالجسد ذاته، يصدرها التنفس، وأصوات القواقع والأحشاء، وتجد لها ترددات في أجسادنا تصل إلي مستوي أكثر عمقًا من الإرادة أو الوعي، ولكنها أيضًا نشاط عقلي عالي الدرجة ويتطلب توازن طاقات متشابكة معقدة، لكن له بعده المتسامي. فالموسيقي تصل فيما تقول إلي خارج متناول الألفاظ، فمثلًا لا تمثل رباعيات الموسيقار بيتهوفن المتأخرة لا تمثل الحزن، لكنها تستثيره في المستمع والعازف معًا، بيد أنه من المؤكد أنها ليست تجربة حزينة في الاستماع إليها، والموسيقي تواجهنا كل يوم بأسلوب للمعرفة يتحدي التحليل المنطقي.. إنها زاخرة بالمعاني التي لا تقبل الترجمة إلي تعبيرات شفاهية، ومن ثم تطمح الفنون جميعها إلي الوصول إلي حال الموسيقي، وهكذا تفعل التجربة الدينية ذاتها. عودة إلي كتاب السماع في تقديم لكتاب السماع الذي حققه الأستاذ القدير أبو الوفا المراغي، وكتبه ابن القيسراني من نحو تسعة قرون، يقول المحقق إن الغناء ظاهرة إنسانية تشترك فيها جميع الأمم فلا توجد أمة إلا لها غناء، ذلك لأنه من خصائص الطبائع البشرية، فلكل حاسة من حواس الإنسان ما تستلذه أو يطيب لها، فالعين تطيب لها المناظر الجميلة والمشاهد المونقة، والأنف يستلذ الروائح العبقة اللطيفة ويأنف الروائح الكريهة، والأذن تستلذ الأصوات العذبة الحلوة وتضيق بالأصوات المزعجة أو المنفرة. ومحاولة تحديد نشأة الغناء مجهود ضائع، وهدف لا يمكن الوصول إليه، فهو قديم قدم الإنسانية. والحناجر مختلفة الأصوات، منها ما هو عذب جميل كأصوات البلابل والعنادل (جمع عندليب)، ومنها ما هو مستكره كخوار الأبقار ونهيق الحمير. وتاريخ الغناء في ماضيه وحاضره يشهد لهذه الظاهرة، وارتبط من قديم بالشعر الذي فتح له بابًا من أوسع أبواب الأدب في جميع الأمم، بل لعله أوسعها وأحفلها بالمعاني والأخيلة. يضيف الأستاذ المحقق أن التاريخ لم يحفظ من فنون الشعر أكثر مما حفظ من الفن الغنائي، ولا شك أن الغناء في بادئ أمره كان غفلاً من الآلات، ثم انضمت إليه الآلات الموسيقية علي اختلاف أنواعها وترتيبها التاريخي، وأنه باقتران الآلات بالأصوات، صار الغناء صناعة وفنًّا، وهو بهذا المعني موضوع بحث المؤرخين القدامي والمحدثين. كتب عنه ابن عبد ربه فصلاً ضافيًا في كتابه »العقد الفريد»، وكتب عنه الإمام أبو حامد الغزالي في »إحياء علوم الدين»، وابن خلدون في مقدمة تاريخه، والنويري في نهاية الأرب، بيد أنه يبقي أن كتاب ابن القيسراني، أحد أئمة الحديث في القرنين الخامس وأول السادس الهجري، من أحفل الكتب القديمة في هذا الباب، استهدف به بيان حكم السماع بأنواعه، سواء كان سماع الأغاني أم سماع الآلات الموسيقية، وسواء كان الغناء بأصوات الرجال أم النساء، ويقول ابن القيسراني في مقدمته للكتاب، إنه ليس لأحد أن يحرم ما أحله الله عز وجل ورسوله، إلاّ بدليل ناطق، من آية محكمة أو سنة صحيحة، أو إجماع من الأمة. الأصل في الأشياء الإباحة هذه المقدمة، تطبيق لمبدأ أصولي متفق عليه بإجماع، أن الأصل في الأشياء الإباحة، ولم يعرض الإسلام لهذا الأصل في شأن الموسيقي والغناء، بما ينقلهما من دائرة الإباحة التي هي الأصل إلي دائرة التحريم. وهذا هو ما سعي إمام الحديث، ابن القيسراني، إلي الإجابة عليه معتمدًا علي الأحاديث الصحيحة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، وآراء أئمة الفقهاء كالإمام مالك، والإمام الشافعي وغيرهما.. من نحو تسعة قرون، انتصر الإمام ابن القيسراني عالم الحديث، للموسيقي والغناء، وساق أدلته من واقع السنة الصحيحة، والأحاديث المروية في صحيحي البخاري ومسلم، وغيرهما، وما روي في الأثر، مما يؤيد أن الإسلام لم يخرج بالموسيقي والغناء من دائرة الإباحة وهي الأصل إلي التحريم، وأن آراء المانعين أو المضيقين أو المحرمين مرجوحة.. علي أن معظم هؤلاء المضيقين علي غلوهم لم يستطيعوا المنع بإطلاق، وإنما شرطوا للمنع أن يفضي الغناء إلي محظور، وهو ما لا يختلف عليه أحد، ذلك أن الخير أو الشر ليسا صفةً كامنةً في ذاتية الشيء أو الآلة أو الكلمة أو ما أشبه، وإنما في استخدامها! فالموسيقي والغناء، فن راق، ويبقي في هذه الدائرة ما بقي ملتزمًا بأصوله ومراميه، ولا يخرج عنها إلاَّ إذا أسلس إلي المجون. فالمحظور هو المجون، لا ذات الموسيقي أو الغناء. وربما يدهشنا ونحن نراجع ما قاله الأقدمون في بحثهم عن موضع الموسيقي والغناء بين الإباحة والتحريم، أنهم أفردوا الحديث كما فعل النويري في نهاية الأرب عن كل آلة من الآلات الموسيقية التي كانت معروفة في زمانهم، كالعود والطنبور وغيرهما من الآلات ذوات الأوتار والدفوف والمعازف وغيرها من الآلات الموسيقية. وقد صَحَّ فيما استعرضه ابن القيسراني أحاديث ومرويات أباحت الاستماع إلي الموسيقي والغناء، وصَحَّ أن بعض الصحابة والتابعين سمعوا الغناء وحضروا مجالسه، بل صَحَّ أن رسول الله عليه الصلاة والسلام دخل بيت عائشة وعندها جاريتان تغنيان فلم ينههما، ثم دخل أبو بكر فانتهرهما فقال له الرسول: »دعهما يا أبا بكر»، وروي أنه عليه السلام أجاز مشاهدة لعب الأحباش بالحراب، وقال: لكي يعلم الآخرون أن في الإسلام فسحة، وأخرج الخطيب في تاريخه وأشار له السيوطي، أنه عليه السلام قال: »بعثت بالحنيفية السمحة، ومن خالف سنتي فليس مني». ومما ورد في الإحياء، للإمام الغزالي، قوله في بيان الدليل علي إباحة السماع: »أعلم أن قول القائل: السماع حرام معناه أن الله تعالي يعاقب عليه، وهذا أمر لا يُعرف بمجرد العقل بل بالسمع ومعرفة الشرعيات محصورة في النص أو القياس علي النصوص، وأعني بالنص ما أظهره عليه الصلاة والسلام بقوله أو بفعله وبالقياس المعني المفهوم من ألفاظه وأقواله، وإن لم يكن فيه نص ولم يستقم فيه قياس علي منصوص بطل القول بتحريمه، وبقي فعلاً لا حرج فيه كسائر المباحات، ولا يدل علي تحريم السماع نص ولا قياس، وقد دل النص والقياس جميعًا علي إباحته».