أستكمل حديثي الذي بدأته الأسبوع الماضي حول الحد الفاصل بين الحرية والمسئولية، ومن الذي يحق له رسم هذا الخط الفاصل؟ وكيف واجه الغرب فجوة المصداقية التي أدت إلي ارتفاع الشكوك حول رسالة الصحفيين، وتزايد الإدراك السلبي للصحافة والتليفزيون من جانب المجتمع؟ وهل حرية الإعلام مطلقة في الدول الأكثر تقدما؟ وكيف استطاعت التجربة الأمريكية تحقيق توازن الحريات بين المصالح المتعارضة في ظل الحاجة إلي إعلام حر ومسئول؟! في بلد يؤمن بقيم السوق الحرة للأفكار، ويتأسس علي النظام الليبرالي، أدت الحرية التي منحها الدستور الأمريكي للإعلام إلي ممارسات إعلامية ضارة بالمجتمع، وتقديم أخبار تمس الأمن القومي، وقد أدي خوف الصحفيين المتزايد من تدخل الحكومة، خلال فترة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي إلي تنامي الإحساس بالمسئولية الاجتماعية من جانب وسائل الإعلام، مما دفع هنري لوك من مجلة »التايم» إلي تقديم تمويل لدراسة مستقبل حرية الصحافة في ظل الأوضاع التي تمر بها الدولة، وشكل لجنة برئاسة روبرت هتشنز رئيس جامعة شيكاغو. وأشارت لجنة »هتشنز» إلي أسباب الخطر الذي يهدد الصحافة الأمريكية آنذاك، وأكدت في تقرير بعنوان »صحافة حرة ومسئولة» علي أن حماية حرية الصحافة لا تعني خلق صناعة ذات امتيازات خاصة، واقترحت أن تقوم وسائل الإعلام من خلال التنظيم الذاتي بممارسة عملها بمسئولية ومهنية، والالتزام تجاه المجتمع لخدمة الصالح العام، وذلك لمنع العودة إلي السيطرة الحكومية، أي مثلما يقول المثل العربي القديم: بيدي لا بيد عمرو!! كما ظهر خلال فترة ثمانينيات القرن الماضي ما يسمي »بفجوة المصداقية»، حيث تعرضت وسائل الإعلام الأمريكية للعديد من الاتهامات بتشويه الحقائق وتعمد الإثارة، واقتحام الحياة الخاصة للمواطنين، وعدم المصداقية والتوازن والعدالة في تقديم الأخبار، وهو ما أدي إلي رفع العديد من الدعاوي القضائية في المحاكم، وكانت النتيجة أن خسرت الصحف خلال 4 سنوات من عام 1979 حتي 1983 ما يقرب من 83% من قضايا النشر التي رفعت ضدها. وتولدت قناعة لدي نسبة كبيرة من الصحفيين بأن وسائل الإعلام لا تستخدم سلطاتها بحكمة طبقا للتقاليد المهنية، كما تنامت المشاعر السلبية المتزايدة آنذاك تجاه الصحف والمحطات التليفزيونية من جانب القراء والمشاهدين، وزادت الشكوك حول رسالة الصحفيين وأساليب عملهم، وارتفعت الأصوات المطالبة بأهمية مراجعة دور وسائل الإعلام في المجتمع!! وقد لعبت التنظيمات الخاصة ومجالس الصحافة دورا مهما في تحسين الأداء الصحفي في وسائل الاتصال، وممارسة دورها الاجتماعي بقدر من المسئولية، والالتزام بالموضوعية والتوازن في عرض الحقائق والأفكار التي تدعم العملية الديمقراطية، ومن تلك التنظيمات »المجتمع الأمريكي لمحرري الصحف» و»مجتمع الصحفيين المحترفين» المعروف ب»سيجما دلتا كاي» و»الاتحاد القومي للإذاعيين» و»اتحاد مديري أخبار الراديو والتليفزيون»، وكلها لا تستهدف وضع قيود علي الممارسات الإعلامية، وإنما تقدم دستورا للمبادئ والأخلاقيات التي يجب أن يلتزم بها الإعلام، بعيدا عن الرقابة والتهديد الرسمي والقانوني. ورغم أن وسائل الإعلام الأمريكية تحظي بقدر من الحرية أكبر من المتاح في كل المجتمعات الغربية الأخري، فإن هذه الحرية ليست مطلقة سواء بسبب بعض العوامل الخارجية المتمثلة في اعتبارات الأمن القومي وقواعد المحاكم وضغوط المعلنين وجماعات الضغط ورغبات الجمهور، أو نتيجة العوامل الداخلية المتمثلة في مواثيق الشرف الأخلاقية للمهنة ومجالس الصحافة وغيرها، وإذا كانت الحكومة لا تستطيع استخدام القانون من أجل السيطرة علي وسائل الإعلام، إلا أنها تستخدم العلاقات العامة والإقناع في التأثير عليها! إن القضية ليست تقليل مساحة حرية الصحافة، بقدر ما هي توازن الحريات بين المصالح المتعارضة، فالمشكلة أن إتاحة قدر من الحرية في اتجاه معين يكون علي حساب حريات أخري، لذا فإن الأمر يكمن في تحديد الشكل التنظيمي الذي يتيح إحداث توازن الحريات بين المصالح المتعارضة.