ماذا لو أن مجموعة من الأبناء أرادوا البر بأبيهم في مرضه - فأرادوا تدفئته في ليلة من ليالي زمهرير الشتاء القارس، خوفاً عليه من البرد وقسوته فزادوه من الغطاء وأحكموه حوله حتي كتموا أنفاسه بالثقيل من الغطاء وهو طريح الفراش يعاني اختناقاً وألماً وقلة حيلة، حتي مات أو كاد!!. إن مثل هذه المجموعة من الأبناء كمثل مجموعة من المتحمسين للدين المتحفزين للدفاع عنه دون أن يعلموا أنهم أول من يشوهه ويسيء إلي سماحته ويقف كحجر عثرة في طريق ديمومته وبقائه قوياً متألقاً متمدناً يرتقي إلي أعلي سلم الحضارة تماماً كما أراد الله له أن يكون. إن التيار التقليدي المتكلس، رغم حالة التردي والتراجع التي يمر بها، لا يزال قادراً علي إحياء تلك الأعشاب السامة الراقدة في الخرائب المهجورة التي أفناها الدهر. ولابد لنا بين الحين والآخر من العودة إلي تلك الخرائب لاجتثاث أعشابها السامة وإعاقة نموها حتي لا تكون مصدراً لترويج السموم في المجتمع والحؤول دون تقدمه. فعلي الرغم من أن اجتيازنا لمراحل عدة في قطاع التقدم والتطور إلا أن المتطرفين يصرون علي العودة بنا إلي المربع الأول، بل إنهم عادوا بنا إلي مربعات لم تعد تري بالعين المجردة، وبصراحة لم أكن أتصور أن يأتي اليوم الذي نتباحث فيه حكم »السلام علي غير المسلم« وأن يتم تناول المسألة وكأنها قضية حيوية تمس العقيدة.. لكن لا شيء خارج المعقول في زمن التطرف الديني. المصيبة أنه حتي المعتدلين ممن يرون بجواز السلام علي غير المسلم خاضوا في المسألة مع هؤلاء وأضاعوا الكثير من الوقت والجهد في الدفاع عن رأيهم، وهو وقت وجهد الأمة في أمس الحاجة إليه في أمور أكثر حيوية وأهمية. والحقيقة أن مجرد طرح هذه القضية فضيحة إنسانية كبري، أكبر من مجرد تناول جواز السلام مع غير المسلمين من عدمه. وفي تقديري أن مسألة تحريم السلام علي غير المسلم هو عرقلة للتواصل الطبيعي مع الآخر في مجتمع تتجانس فيه مختلف الأعراق وتتجاور فيه الأديان. والامتناع عن تحية غير المسلم معناه أن يتبني المسلم أردأ الأخلاق وأرذلها وأشدها وقاحة مع الآخرين، وهو يري أن ما يقوم به أمر طبيعي لا وقاحة فيه ولا عدوان. أتساءل هل نحن بذلك نُحيي تعاليم الإسلام ونرفع رايته؟ هل نشجع علي انتشاره وازدهاره أم نجعله غريباً معزولاً وفاقداً للتواصل مع الآخرين؟ أم أن الأمر لا يتعدي أن يكون أحد القضايا اللامعقولة التي تشغل أذهان الناس دون أن تعود عليهم بفائدة، كما حدث من قبل في قضية إرضاع الكبير!! لا أدري لكن تصور فقط أن جارك غير المسلم الذي تجاوره لعشرات السنين أو زميلك في العمل الذي تقضي معه من الوقت أكثر مما تقضيه مع عائلتك، تمر به أو يمر بك، أو تلتقيه بعد طول غياب فلا تري أنه يستحق منك حتي إلقاء التحية فقط لمجرد أنه علي غير ديانتك. إننا نعيب علي بعض المجتمعات الغربية النظرة العنصرية التي يرمقون بها المسلمين ونأخذ عليهم الوقوف حجر عثرة أمام انصهار المسلمين المغتربين داخل مجتمعاتهم فما بالك ونحن الآن ننادي بعزل غير المسلمين من أهل البلد وحرمانهم حتي من التحية والسلام، علي الرغم من أن »السلام« هو أصل اسم ديننا »الإسلام«. لما لا ننظر للأمر من زاوية مجردة ونضع أنفسنا مكانهم.. هل يرضيك أن تحرم إحدي الديانات علي جارك أن يلقي عليك السلام أو يحييك فقط لأنك لا تنتمي إلي دينه أو وطنه أو عرقه؟!! ألن يصيبك هذا بالاندهاش ويملأ نفسك بالضغينة ويجعلك تلقي باللوم علي هذا الدين الذي يحث علي التجافي بدلاً من أن يحض علي التآخي؟ لماذا يفعل البعض ذلك بالإسلام؟ إن نشر وتكريس ثقافة الكراهية هو النتيجة المؤكدة لطرح مثل هذه المسائل للحوار واستحضارها في أوقات تتسم بالحساسية، إن الأمر ليس بريئاً والنوايا ليست صافية بل هي محاولة لتأسيس ثقافة الكراهية التي تصنع التطرف. إن التقدم هو عدو المتطرفين التقليديين، إنه صك إلغاء لوجودهم لأنهم يمثلون الموقف المضاد له.. وهو التخلف. والتقدم يهزم نواياهم في التفرقة بين المصريين بعضهم البعض.