تجري كلمة العرف علي لسان الناس، العامة والخاصة، ومتداولة من قديم في المجتمعات، والمقصود به ما تعارف عليه الناس وساروا عليه، من قول أو فعل أو ترك، في عاداتهم ومعاملاتهم، علي أن العرف له معني اصطلاحي لدي رجال القانون بعامة، ولدي الشرعيين والأصوليين بخاصة. والعرف من الأدلة الشرعية عند الفقهاء ، وإليه يتم الاحتكام في كثير من أحكام الفقه الفرعية، وهو آية علي ثراء الشريعة الإسلامية وقدرتها علي مواكبة الحياة، واتساع نظرتها. ومن العرف ما هو عملي، ومنه ما هو قولي. فالعرف العملي مثل اعتياد الناس بيع المعاطاة من غير صيغة لفظية، وتعارفهم علي قسمة الصداق في الزواج إلي مقدم ومؤخر.والعرف القولي مثل تعارف الناس علي إطلاق لفظ »الولد» علي الذكر دون الأنثي، وتعارفهم علي ألاَّ يطلقوا لفظ »اللحم» علي الأسماك.. والعرف العام يتكون بتراكم ما تعارف عليه الناس علي اختلاف طبقاتهم ، عامتهم وخاصتهم ، وهو غير الإجماع الذي تحدثت عنه كمصدر للأحكام الشرعية يلي الكتاب والسنة ، ذلك أن الإجماع لا دخل للعامة في تكوينه، وإنما هو اتفاق المجتهدين خاصة.. فمصدر تكوين العرف ما اعتاده وتعارف عليه الناس، والأصل في الاعتداد به، لدي الأصوليين، في غير موضع النص، إن كان صحيحًا غير فاسد، مستمدٌّ من قول الرسول عليه الصلاة والسلام: » ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن »، ولأن مخالفة العرف الذي اعتاده الناس وسارت عليه أمورهم، فيه حرج ومشقة وإعنات، بينما يقول اللطيف الخبير : »وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» »الحج 78». علي أن العرف ليس كلّه صحيحًا، منه صحيح وفاسد، فالصحيح ما لا يخالف دليلاً شرعيًا، أو يحل محرمًا أو يبطل واجبًا، كتعارف الناس علي عقد الاستصناع الذي يجاز من باب المصالح المرسلة مع أن المبيع معدوم وقت العقد، لأن هذه الإجازة التي جري بها العرف لا تخالف دليلاً شرعيًا، ولا تحل حرامًا أو تبطل حلالاً. ومن العرف الصحيح التعارف علي أن ما يقدم للخطيبة من هدايا كالحلي والثياب وما شابه، هو هدية لا مهر . أما العرف الفاسد، فهو وإن كان الناس قد تعارفوا عليه، إلاَّ أنه يخالف الشرع أو يحل المحرم أو يبطل الواجب، ومن ذلك كثير من المنكرات التي تجري علي سبيل العادة في الموالد والمآتم، وتعارف البعض علي أكل الربا وعقود المقامرة.. والعرف الصحيح هو فقط الواجب مراعاته في التشريع والقضاء، وعلي المجتهد مراعاته في تشريعه، وعلي القاضي مراعاته في قضائه لأن ما تعارف عليه الناس وساروا عليه، صار من حاجاتهم ومتفقًا ومصالحهم، وما دام لا يخالف الشرع وجبت مراعاته. ولهذا قال العلماء: العادة شريعة مُحكمة. وقال علماء الأحناف والمالكية إن الثابت بالعرف الصحيح غير الفاسد ثابت بدليل شرعي، ويقول شارح الأشباه والنظائر: »الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي».. والعلماء الذين يقررون أن العرف أصل من أصول استنباط الأحكام، يقرون كونه دليلاً حين لا يوجد نص من الكتاب أو السنة.. فإذا خالف عرف الناس الكتاب أو السنة، فإن عرفهم مردود لا يجوز الاعتداد به في استنباط الأحكام ، فالاعتداد به إبطال للشرائع، واتباع للهوي.. ويري فقهاء الحنفية أن العرف إن كان عامًا متفقًا عليه في كل الأمصار، فإنه يُتْرك به القياس، ويسمي ذلك »استحسان العرف»، كما يخصص به العام إذا كان العام ظنيًا ولم يكن قطعيًا، ويضربون أمثلةً لترك العموم في نص ظني وإعمال العرف، ومن أهل العلم من يري أنه يجوز كل شرط جري العرف باعتباره.. والعرف العام الذي يخصص به العام الظني، ويترك به القياس ، هو العرف العام الصحيح الذي يسود في كل الأمصار ، ولا يخالف نصًا. أما العرف الخاص، القاصر علي بلد من البلدان، أو إقليم من الأقاليم، أو طائفة من الناس، فإنه لا يقف إلاَّ أمام القياس الذي لا تكون علته ثابتة بطريق قطعي من نص أو ما يشبه النص في وضوحه وجلائه.. فالأحكام التي تبني علي القياس الظني، تتغير بتغير الأزمان ، ولذا قالوا فيما أورد أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة إنه يجوز أن يخالف المتأخرون مذهب المتقدمين منهم إذا كان اجتهاد المتقدمين مبنيًا علي القياس، لأنهم يكونون في أقيستهم متأثرين بأعرافهم في زمانهم. ولهذا قالوا في شرط الاجتهاد إنه لا بد من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، بحيث لو بقي الحكم علي ما كان عليه أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية علي التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم علي أحسن نظام وأتم إحكام. فأين هذا العمق مما يجترئ به بعض الناس في أيامنا علي الدين وعلي الإفتاء فيه والجزم بما لا معرفة لهم به ؟!! الذرائع يعرف الأصوليون، من وسائل استنباط الأحكام الشرعية ، ما يسمي بالذرائع ، والذريعة معناها الوسيلة، والذرائع في لغة الشرعيين أن ما يكون طريقًا لمحرم أو محلل، فإنه يأخذ حكمه، فالطريق إلي المباح مباح، وما لا يؤدي الواجب إلا به فهو واجب وبيان ذلك أن موارد الأحكام قسمان: مقاصد، وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد. ووسائل، وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحليل أو تحريم، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها فالأصل في اعتبار الذرائع أصل من أصول الاستنباط، هو النظر إلي »مآلات الأفعال»، فيأخذ الفعل حكمًا يتفق مع ما يئول أو يفضي إليه والنظر إلي المآلات لا يلتفت فيه إلي نية الفاعل، وإنما يلتفت إلي نتيجة العمل وثمرته، وبحسبها يُحمد الفعل أو يُذم ، ويضرب العلماء أمثلة عديدة من القرآن والسنة لذلك ويقسم العلماء الذرائع إلي أربعة أقسام : الأول، ما يكون أداؤه للفساد قطعيًا كحفر بئر في طريق مظلم، أو في مكان غير مأذون به كالطريق العام . والثاني، ما يكون أداؤه للمفسدة نادرًا، كزراعة العنب الذي قد يفضي إلي صناعة النبيذ. والثالث، هو ما يكون ترتب المفسدة علي الفعل من باب غلبة الظن، لا من باب العلم القطعي، ولا يعد نادرًا، وفي هذه الحال يلحق الغالب »ظنًا» بالعلم القطعي، لأن سد الذرائع يوجب الاحتياط من الفساد ما أمكن ، ومثال ذلك بيع السلاح وقت الفتن. والرابع، ما يكون أداؤه إلي الفساد كثيرًا، ولكن كثرته لم تبلغ مبلغ الظن الغالب للمفسدة، ولا العلم القطعي ، كالبيوع التي تتخذ ذريعة للربا وفي ذلك الضرب خلاف بين العلماء لا يتسع لبسطه المقام. والذرائع أصل في الفقه الإسلامي أخذ به جميع الفقهاء ، وإن اختلفوا في بعض أنواعه أو في مقداره، ولكنهم لم يختلفوا في أنه أصل مقرر ثابت علي أنه وإن كان الأخذ بالذرائع مقررًا في كل المذاهب الإسلامية، وإن لم يصرح به لفظًا، إلاّ أنه لا تصح المبالغة فيه، فإن المغرق في الأخذ بالذرائع قد يمنعه ذلك عن أمر مباح أو مندوب أو واجب خشية الوقوع في ظلم ، كامتناع بعض الصالحين عن تولي أموال اليتامي أو أموال الأوقاف خشية التهمة من الناس، أو خشية علي أنفسهم من الظلم أو التجاوز. فالمغالاة في ذلك قد تؤدي إلي ترك المباح أو المندوب أو الواجب، مما يؤدي إلي أضرار تخالف مقاصد الشريعة. فإذا كان كل صاحب أمانة موكولاً إليه أن يرعي أمانته، فإن الله تعالي يعلم ظاهر وباطن النفوس، وهو سبحانه وتعالي يقول : »وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» (البقرة 220) يبقي أن للتعامل مع الذرائع أصولاً ، فهي مقررة لمصلحة لا لمفسدة، يؤخذ بها إذا كانت تمنع فسادًا، ولا يؤخذ بها إن كانت تفضي إلي فساد، ففتح باب الذرائع أو تغليقه، إنما لتحقيق المصالح ودرء المفاسد وعلي الإنسان أن يتحري المضار والمنافع في الأخذ بالذرائع، وبوصلة الإنسان هي ضميره وقلبه ، وفي الحديث: »الخير ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، وإن أفتاك الناس وأفتوك». الاستصحاب ومعناه لغة اعتبار أو استمرار المصاحبة، أما معناه في اصطلاح الأصوليين فهو الحكم علي الشيء بالحال التي كان عليها من قبل ، حتي يقوم دليل علي تغيير تلك الحال،أو جعل الحكم الذي كان ثابتًا في الماضي باقيًا في الحال التي عليها حتي يقوم دليل علي تغيره. ويقول أستاذنا فضيلة الشيخ عبد الوهاب خلاف إن مؤدي ذلك أنه إذا سئل المجتهد عن حكم عقد أو تصرف ، ولم يجد نصًا في القرآن أو السنة، ولا دليلاً شرعيًا يطلق علي حكمه، حكم بإباحة هذا العقد أو التصرف بناء علي أن الأصل في الأشياء الإباحة، وهي الحال التي خلق الله عليها ما في الأرض جميعه، فما لم يقم دليل علي تغيرها فالشيء علي إباحته الأصلية. وقيل في استمرار الإباحة ما لم يقم دليل شرعي يغيرها، إن ذلك مبني علي غلبة الظن باستمرار الحال الموجبة لاستمرار حكمها.. وعلي ذلك إذا كان الأصل في شيء الإباحة كالأطعمة، فالأصل أن تبقي الإباحة حتي يقوم إن قام دليل تحريم . علي أن الاستصحاب هو آخر دليل شرعي يلجأ إليه المجتهد لمعرفة حكم ما عرض له أو يبحث عن حكمه، وقد قام الدليل علي الأخذ بالاستصحاب فضلاً عما ذكرناه من الشرع، ومن العقل. أما الشرع فمصدره ما ورد من آيات الكتاب المجيد، وما ثبت من السنة قطعية الورود ، فتبقي علي ما قام الدليل عليه، حتي يقوم دليل علي التغيير. . وأما من جهة العقل ، فإن البداهة تؤيد ذلك ، فالعقل يوجب ألاّ تنقض مباحًا إلاّ بدليل يلغيها أو يغيرها، أو تبيح محرمًا إلاّ بدليل يحله ، والأصل في الدماء حرمتها، فلا يجوز المساس بها إلاّ بدليل شرعي قطعي ينتقض هذه الحرمة، والعدل أصل ما لم يقم دليل علي الفسق، والحيّ حيّ ما لم يقم دليل علي موته.. وهكذا!. والواضح أن الاستصحاب ليس دليلاً علي الحكم، وإنما الدليل هو الذي يثبت به الحكم السابق، إثباتًا أو نفيًا، ومن ثم فجوهر الاستصحاب استبقاء دلالة هذا الدليل علي حكمه، وهكذا نري كم في أصول الفقه من أبواب ومنافذ، وأصول وضوابط، توري بأن القيام بهذه المهام لا يجوز أن ينهض به إلاّ العالمون العارفون الذين يمتلكون أدوات البحث والاجتهاد.