أ . د. محمد محسوب لا توجد ثورة مكتملة دونما إصلاح.. بل أمل الإصلاح الجذري هو ما يدفع الآلاف والملايين في الطرقات والميادين واضعين أرواحهم علي أكفهم، ولا يعودون لدورهم ومعاشهم إلا وقد تحققت لهم الخطوة الأولي وهي إسقاط النظام القديم، والذي يمثل العقبة الكؤود أمام تحقيق الإصلاح. فعل الشعب المصري ذلك، وفعل أكثر من ذلك، وتحمل ثمانية عشر شهرا من التقلب علي جمر مرحلة انتقالية مرتبكة ومكتئبة، زاد فيها سقوط الضحايا والتبست فيها الأمور أكثر، والأمر الوحيد الذي كان واضحا فيها هو أن كل الإجراءات التي تبنتها السلطة في مواجهة النظام السابق كانت شكلية وضعيفة ولا تجدي نفعا في إنهاء حقبة فساده ولا تغلق الباب تماما أمام عودته. وجاء انتخاب أول رئيس مدني للدولة المصرية الحديثة أشبه بحالة مخاض شديدة الاضطراب، فاختار البعض أن يقف في مواجهته والعمل علي إسقاطه لمجرد أنه ينتمي للتيار الإسلامي وليس من فصيلهم، ولم ينتبه هؤلاء أن البديل الحاضر الجاهز كان دائما هو النظام الذي تخفي لكنه لم يزل وسكنت حركته لكنه لم يمت. ودخلت مصر فترة من المماحكات السياسية والخلاف حول ما لا يجوز الخلاف بشأنه، الرئيس المنتخب بإرادة شعبية والدستور الذي تضعه أول جمعية تأسيسية منتخبة في تاريخنا الحديث والقديم. وخرج جميع أبناء الثورة من تلك المماحكات والمكايدات بجروح وإصابات بالغة، أيا كان الصفّ الذي يقف فيه والرأي الذي يتبناه. الوحيد الذي خرج أصلب عودا وأشد صلابة هو النظام السابق الذي لازال يعشش في كثير من مؤسسات الدولة وفي تنظيماته التي انتقلت من الظلام إلي العلن، فاستغل هؤلاء اشتباك الأخوة ليصبوا الزيت علي النار، فدفعوا بمليشياتهم العسكرية والإلكترونية والمؤسساتية في كل حادثة ليزيدوا عدد الإصابات وليجعلوا خلافات رفقاء الثورة مغموسة بدمائهم، حتي يضمنوا أن لا يجتمع الثوار مرة أخري، بعد أن عرفوا أن اجتماعهم في فناء النظام القديم وانتهاء أسطورته وتلاشي أمل عودته. وها نحن في الشوط الأخير، وقد أصبح أهل الثورة فريقين أو أكثر، بينما تجمع أهل الباطل من أبناء النظام القديم في صعيد واحد، مستندين لرصيدهم في مؤسسات الدولة التي لازالت قلقة من التغيير وتميل إلي قبول عودة النظام القديم الفاسد أكثر من الانتقال للمستقبل والمشاركة في بناء بلدٍ أفضل. فتلك المؤسسات تري التغيير مغامرة كبري ربما يهدد ما ورثته من استقرار لمراكزها وتراكم لميزاتها وتعال علي بقية فئات شعبها. فاكتملت حلقات العودة للوراء، واعتبر بعض أبناء تلك المؤسسات أن اللحظة مناسبة لتحركهم لضرب معني الشرعية الشعبية الذي أرسته الثورة وإقامة شرعية أخري من صنع خيالهم تتجاوز في صناعتها الدستور الذي لا يرونه، واختيار الشعب الذي رفضوه من اليوم الأول، وآمال الثوار التي أقلقتهم منذ الصيحة الأولي. بينما أهل اليمين وأهل اليسار من ابناء الثورة يرددون أغنيات تطلقها مدفعيات النظام السابق، حول سوء أداء الرئاسة التي لم يسعوا يوما لمساندة أدائها أو لتقديم النصح لها، وحول عدم جواز أن تتغول السلطة علي القضاء وكأن الجائز هو أن يتغول القضاء علي باقي سلطات الدولة بينما ما يحرم فقط هو العكس. ولكوني قانونيا فإنني اربأ بالقضاء المصري الذي رسم تاريخا يشرف به كل قانوني في مصر والعالم العربي، أن يخوض بأقدامه أو بأحكامه في هذا المعترك، وأناشده أن يكون للثورة عونا ومشاركا في بناء مستقبل مصر كما حلم بها كل منا، ونحن في الجامعة أو في السجون أو في عواصم الغرب أو علي منصات القضاء أو علي ارصفة المترو أو في طرقات بلا أرصفة، ونحن نري المتفوقين من أبنائنا لا يجدون مكانهم اللائق في وظائف محترمة، ونري أهلنا في القري والنجوع بلا خدمات أو صرف صحي، وأحياءنا العشوائية وقد اختلط فيها أهلونا بالملايين في مساحات ضيقة فاقدة للحد الأدني من مقومات الحياة الكريمة، وكهولا لا يجدون ثمن دوائهم، بل وشبابا لا يجدون ما يسدون به رمقهم.. ومصر هذه لن يبنيها رئيس منتخب، بل نظام مكتمل يقر قيم الديموقراطية ويحترم مبادئ حقوق الإنسان ويعمل لتحقيق العدالة الاجتماعية، وهو ما يحتاج من الشعب الاستمرار في إكمال بناء نظامه الذي مازالت مؤسسات جوهرية فيه تنتظر أن يشكلها الشعب وعلي رأسها البرلمان. ولم يكن متوقعا أن يتدخل القضاء لهدم أي مؤسسة جديدة منتخبة مستفيدا من رغبة بعض من لم ينجح في انتخابات أن تُعاد كل انتخابات. بل المنتظر من القضاء الوطني أن يتبني طموحات شعبه ويتحمل مسئولياته فيتابع قضايا قتل وإصابة الثوّار حتي يكشف عن مرتكبيها ويعاقبهم، وأن يلاحق الفساد أينما كان، فهو الأقدر علي كشف مكامنه وتخليص البلاد من شره، وأن يكرّس مفاهيم الديموقراطية بإعلاء إرادة الشعب لا إهدارها، وأن يسارع ليكون مثلا في التوافق مع حلمنا الكبير في إخلاء بلادنا من الفساد، فيغلق الخروق التي يتسرب منها الفساد وإليها داخل منظومة القضاء، فهو الأجدر بأن يكون مثالا يُحتذي من بقية شعبه. ولا يجوز ولا يُعقل أن تنكر أي مؤسسة أن فسادا طالها أثناء حكم النظام الفاسد الذي جعل مصرنا ضمن أكثر عشر دول فسادا علي مستوي العالم، وعلي ذلك قامت الثورة لتنفض عنّا هذا الفساد المستشري. لكن المأمول أن تبدأ المؤسسات بنفسها فتنقي ما شابها من فساد بآلياتها، دون أن تستمع لتلك الرموز التي استفادت من النظام السابق حتي امتلأت ودافعت عنه حتي انكشفت، والتي تدفع مؤسساتها إلي معارك وهمية، وتشدها بعيدا عن المساهمة في المعركة الحقيقية والشريفة وهي معركة بناء الوطن لا هدمه وتهدئته لا تفجيره وتنويره لا حرقه. لكن الأمر لم يقتصر علي تفرق الرفقاء وتقلب المؤسسات واستئساد بقايا النظام القديم وإنما أيضا شمل أداءً ضعيفا للسلطة لا يجد عذرا في المشكلات المحيطة بها، فتلك المشكلات كان من الممكن تجاوزها بأداء فارق وإنجازات مدهشة يمكن للشعب أن يلمس بها تغييرا حقيقيا ورؤية ناضجة وفلسفة واضحة، مهما كانت إنجازاتٍ قليلة بالمقارنة مع الأحلام الكبيرة، فمثل تلك الإنجازات القليلة هي ما يمكن أن تكون بمثابة مصابيح الأمل التي يسير في ضوئها الشعب نحو تحقيق كل الأمل. فشعبنا من أكثر شعوب الأرض حكمة وأقدرهم علي بناء الحضارات وإنجاز الطفرات ولا يحتاج لكي يدرك أنه علي الطريق الصحيح إلي سحر ساحر ليغير المشهد بكل مآسيه ليصبح مشهدا ورديا. وإنما يحتاج ليري كرامات حكامه وعلامات نبوغهم بما ينبئ بأنهم علي قدر عزمه وعلي مستوي طموحاته، وأنهم قادرون علي قيادته لتحقيق ما يدرك أنه يستطيع أن ينجزه. أخيرا.. نقف علي مفترق طرق.. ثورة تعبر جسرا.. ونظام سابق يحاول تفجيره.. بينما من هم فوق الجسر مختلفون حول من يعبر بهم ومن يتصدر المشهد، فلما اختاروا واحدا، أقسم آخرون أن لا يعبروا معه، بل وأن يعوقوا عبور شعبهم.. والجميع يري بقايا نظام مبارك وقد وضع مفخخات بكل خطوة ومفجرات بحوامل الجسر.. بل وخرج عليهم كبيرهم في أبهي صورة يلوح معلنا أنه مغادر فيما لو عبروا.. ويرث الجميع فيما لو سقط بهم الجسر..