د. عمرو درّاج أستأذن القارئ الكريم أن يكون هذا المقال هو الأخير لي في سلسلة المقالات التي استعرضت فيها الرؤية الجديدة لحزب الحرية والعدالة للسياسة الخارجية المصرية في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير . وقد وصلت الي بعض التعليقات من القراء الأعزاء حول المقالات الثلاث السابقة ، منها ما يتفق مع هذه الرؤية ، ومنها ما يتناولها بالنقد ، وكلاهما بدون شك يصب في طريق إنضاج الرؤية واستكمال صياغتها علي أفضل وضع ممكن، حيث حزبيا ينفرد به حزب واحد مهما كان له من أغلبية أو دعم، حيث إن هذا شأن عام من الممكن أن يكون له تأثير كبير علي مستقبل الوطن بأكمله ، وكل من يعيش علي أرضه . إلا أنه مما استلفت نظري من تعليقات، كان يتعلق بالاهتمام بالشأن الخارجي بشكل عام وينتقد الخوض فيه الآن، بالرغم مما تمر به البلاد من عثرات ومصاعب في الشأن الداخلي، مما يستوجب عدم الحديث في أي شأن غيره، وللأمانة فإن هذه التعليقات جاءتني من مؤيدي حزب الحرية والعدالة ومعارضيه علي حد سواء . إلا أني أرجو منهم أن يسمحوا لي بالاختلاف معهم قليلا، فقد أوضحت في أكثر من موضع أن الملفين الخارجي والداخلي لا ينفصلان، فكثير مما يحدث في الداخل مرتبط بمتغيرات خارجية، والعكس صحيح. كما أني أوضحت أن أحد أهم أهداف حركة السياسة الخارجية هو تمكين المواطن المصري ، والعمل علي حل المشكلات الاقتصادية التي تواجهها مصر ، وهو ما يرتبط كثيرا بملفات الاستثمار او التعاون الدولي، فضلا عن صورة مصر كما يراها العالم ولذلك فأنا أدعو بهذه المناسبة المواطن المصري أن يكون أكثر إلماما واهتماما وتفاعلا مع ملفات السياسة الخارجية ودور مصر الإقليمي والدولي. وعلي جانب آخر ، فأنا أري أن ملفات السياسة الخارجية هي من أهم الملفات المرشحة للتحاور حولها بين شتي القوي السياسة الخارجية هي من اهم الملفات المرشحة لتحاور حولها بين شتي القوي الوطنية في مصر ، مما قد يساهم في ايجاد الكثير من المساحات المشتركة ، ويسهم في التقليل من حجم الاستقطاب الذي نعاني منه الآن علي الساحةالسياسية وعودة إلي سياقنا الأصلي ، فقد أوضحت أن صياغة الرؤية الكلية للسياسة الخارجية الجديدة لمصر تتطلب رصد أهم عناصر القوة التي تمتلكها مصر والتي تتضمن الفرص المتاحة مستقبليا وكذلك الوقوف علي عناصر الضعف التي تعوقها وتتضمن أيضا التهديدات التي قد تتعرض لها في المستقبل ودراستها بطريقة منظومية متكاملة ، وذلك لتحديد المساحة الحقيقية التي تستطيع السياسة الخارجية المصرية التحرك فيها وتفعيل عناصر القوة الساكنة. أولا: عناصر القوة الذاتية أو الفرص الخارجية يأتي علي رأسها العنصر البشري الوفير ، وهو المورد الأساسي الذي يجب أن نهتم بصقله وإعداده ليصبح الاعتماد عليه في مختلف المراحل ممكناً، ومن هنا لا بد من أن يكون الاهتمام بالتعليم والرعاية الصحية والتنمية البشرية بشكل عام علي قمة أولويات إدارة العنصر البشري . ويضاف إلي ذلك الموقع الجغرافي المتميز ، فمصر تتوسط العالم القديم بقاراته الثلاث (افريقيا وأسيا واوروبا) وموقعها يرشحها لتكون بوابة كل منهم للآخر بشرط إدراك أهمية ذلك الموقع الجيواستراتيجية وحمايتها من المطامح والتدخلات التي يجذبها أيضا تميز الموقع. ويأتي علي نفس القدر من الأهمية البعد الحضاري والتاريخي فمصر دولة عريقةوتاريخها مرتبط بتاريخ الحضارات البشرية ككل . كما أنها كانت منذ الفتح الإسلامي قلب العالم العربي والإسلامي السلمي ستصبح مصر نموذج الثورة المستند لإدارة شعبية واسعة ، وباكتمال عملية التغيير السياسي السلمي ستصبح مصر نموذجا فريدا استطاع التغلب علي المخاطر الداخلية ومحاولات الاحتواء الخارجية ونجح في ذلك ومنها أيضاً مصادر القوة الناعمة حيث الإسلام الوسطي تاريخياً ووجود الأزهر ، و النفوذ الكبير للكنيسة المصرية ، مع تعدد دوائر الانتماء ، وتجانس النسيج الوطني المصري تفرد الشخصية القومية المقبولة عربيا وإقليميا ، مكانة الدين المحترمة في حياة المصريين . وهي مصادر قوة أغفلت طويلا ومن الممكن الاستفادة منها هذا بالإضافة إلي الموارد الطبيعية ، وهي كثيرة في مصر وتحتاج لحسن إدارتها لتصبح مصادر قوة حقيقية وأخيرا قبول ريادة مصر تاريخيا في المنطقة العربية والاسلامية والإفريقية ، وبحسن إدارة العلاقات الثنائية في المرحلة القادمة نستطيع توسيع نطاق ذلك القبول لأوسع مدي أو علي الأقل تحييد الممانعين له. ثانيا: عناصر الضعف الداخلي أو التهديد الخارجي المحتمل يأتي علي رأسها المنطقة الساخنة والإقليم الذي يعاني من سيولة ثورية لم تحسم مألاتها بعد في دول الجوار مما يستدعي الاستعداد علي قدر المستطاع للسيناريوهات الممكنة وكيفية تعاملنا معها وكذلك المشروع الصهيوني الاستعماري وتطور سياساته تجاه فلسطين والاجراءات الاستفزازية المتصاعدة من الجانب الإسرائيلي وكذلك الدعم الأمريكي المطلق وغير المقيد لإسرائيل وضمان تفوقها الاقتصادي والعسكري في المنطقة. ويضاف إلي ذلك مقاومة المشروع الحضاري الإسلامي الوسطي من دول ومراكز قوي النظام العالمي القائم خاصة الغربية منها وبعض القوي العربية والإسلامية ، خاصة في مرحلة سيغلب عليها محاولات الاحتواء والتحجيم وتكريس استمرار التبعية الاقتصادية والعسكرية قد يعقبها مرحلة صدام في حال نجاح ذلك المشروع في الصمود والتقدم خطوات للأمام . هذا بالاضافة الي سوء استغلال التنوع في المجتمع ودفع البعض بمكوناته نحو التصادم وليس التكامل »عرقي، ديني، سياسي« ومخاطر تهديد الجماعة الوطنية المصرية المتماسكة تاريخيا من خلال ازمات حقيقية او مفتعلة سواء كان ذلك من اطراف داخلية مازالت متربصة بالثورة او خارجية لها مصلحة في عدم استقرار وتقدم البلاد. وهذا يوجب الانتباه للقضايا المجتمعية التي من الممكن ان تكون فتيلا للازمات المتكررة. ويضاعف من تأثير ذلك دور الفواعل من غير الدول سواء الشركات الكبري عالميا او المؤسسات غير القومية او حتي الافراد شديدي النفوذ مثل كبار رجال الاعمال والصناعة الدوليين لتدخلاتهم غير المباشرة خاصة الاقتصادية في الشأن الداخلي للدول. كما تعد التبعية الاقتصادية والعسكرية للغرب وخاصة الولاياتالمتحدةالامريكية تهديدا كبيرا وما يحتاجه ذك من حلول غير تصادمية للتخلص تدريجيا من قيود تلك التبعية لتقليل تأثيرها علي القرار الوطني. والفجوة التكنولوجية والمعرفية الضخمة جدا في معظم ان لم يكن كل العلوم الحديثة، ويرتبط بذلك ايضا بعض القيم الغائبة عن الثقافة المصرية عامة مثل تقدير قيمة الوقت واحترام العمل وثقافة العمل الجماعي وتقديم المصلحة العامة وغيرها. ويزيد من خطورة الامر المشكلات الاقتصادية المزمنة مثل العجز الهيكلي في الموازنة وتراجع الغطاء النقدي وحجم الدين الداخلي والخارجي وعبء خدمة كل منهما، وما يستتبع ذلك من قروض ومنح ومساعدات خارجية لها مشاكلها وشروطها وقيودها، بالاضافة الفساد المالي والاداري الذي استشري في كل مؤسسات الدولة وعلي جميع المستويات. واخيرا تأتي الصحة المتردية لاغلب شرائح الشباب التي سيعتمد عليها في المستقبل القريب مثل الفشل الكلوي والالتهاب الكبدي وغيرها، وكذلك تردي حال المستشفيات في مصر وعدم ملاءمة الاحوال المعيشية والمادية للاطباء والممرضين والمهن المرتبطة بالمنظومة الصحية ككل. كل ذلك بالاضافة الي انخفاض مستوي التعليم بشكل عام، سواء في مستوي تحصيل العلوم الحديثة او القدرة علي الابتكار والتعليم المستمر. ويوضح هذا التحليل الترابط الوثيق بين الداخل والخارج، وتأثير كل منهما في الآخر ووجوب الاستفادة الجيدة من عوامل القوة والفرص المتاحة، والعمل الجاد الحثيث للتغلب علي عوامل الضعف ومواجهة التحديات حتي تستعيد مصر مكانتها اللائقة بين دول العالم، وينعكس ذلك علي المواطن المصري ليعيش حياة حرة كريمة في ظل ارادة وطنية مستقلة.