د. عمرو درّاج استعرضت في مقالين منفصلين أهم عناصر الرؤية الجديدة لحزب الحرية والعدالة للسياسة الخارجية المصرية، وما يترتب علي ذلك من استراتيجية مرحلية لحركة السياسة الخارجية المصرية خلال العامين المقبلين، وكان ذلك باختصار شديد لكي يلم القارئ بالصورة الكلية التي نحاول رسم ملامحها. وابدأ في مقال اليوم بعرض أكثر تفصيلا لرؤيتنا لعمل السياسة الخارجية المصرية علي المدي الطويل. من الواضح لكل متابع ان السياسة الخارجية المصرية قد أصابها الضعف وغابت عنها المؤسسية والفاعلية في العهد السابق كغيرها من مكونات الدولة المصرية، ولذلك فإن هدف العودة بها إلي مكانتها وريادتها الاقليمية يحتاج إلي عملية إعادة تشكيل وبناء شبه كاملة. وهو ما يوجب وجود رؤية كلية واضحة تحدد الهدف العام والتوجه الرئيسي للسياسة الخارجية لا تغيب عن صانعي ومتخذي القرار في مختلف الظروف والمتغيرات، بما يضمن ان تكون الأهداف المرحلية والخطط التشغيلية لتنفيذها منسجمة مع التوجه العام بشكل مستمر. كما يتطلب دراسة المتغيرات علي الساحة الدولية التي يمثل كل منها أحد ملفات اهتمام السياسة الخارجية وصولا إلي رسم خريطة حقيقية لإعادة ترتيب الأولويات وتفعيل مسارات الحركة المطلوبة لتحقيق تلك الرؤية. ويتمثل التوجه العام الذي نري أن تتحرك في إطاره السياسة الخارجية ما بعد الثورة في المساهمة في تحقيق الأمن والاستقرار والنمو الداخلي، والمشاركة الايجابية في بناء واقع جديد للمنطقة والنظام الدولي، يؤدي إلي عالم أكثر سلاما وحرية وعدالة، مستندا إلي منظومة القيم والمبادئ المصرية الأصيلة. ويتطلب تعريف الرؤية الكلية الجديدة للسياسة الخارجية المصرية تحديد الصورة التي تطمح في تحقيقها خلال العشرين عاما القادمة والتي تتضح في هذا الطرح من خلال مستهدفات ثلاثة أساسية لوضع مصر علي الساحة الدولية، وهي أن تكون مصر: أولاً: دولة صاحبة ريادة إقليمية ومكانة عالمية. وذلك من خلال استعادة مصر لدورها الفاعل ومكانتها المتميزة في جوارها العربي والإفريقي والإسلامي بعد ان انحسر هذا الدور وخسر الكثير من مكتسباته التاريخية لتعود مصر مركز الثقل الأساسي في منطقة الشرق الاوسط والبوابة الحقيقية لافريقيا واحدي الدول الأكثر قوة ومصداقية في العالم الاسلامي، وهو ما يجعل مصر مرشحة للقيام بدور أكثر تأثيرا علي الساحة الدولية في اتجاه التغيير العالمي الذي تنشده. هذا بالإضافة إلي تحول مصر لدولة متقدمة صناعيا واقتصاديا بحيث يصبح الاقتصاد المصري ضمن أقوي عشرة اقتصاديات دولية بعد عشرين عاما، وهو ما يتطلب وضع الخطط المفصلة للنهوض بجميع روافد الاقتصاد الوطني الزراعية والصناعية والتجارية والخدمية. وعلي الصعيد السياسي، تشمل الرؤية أن يتم تفعيل أطر التعاون التي تعد مصر جزءا منها مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الافريقي ومنظمة المؤتمر الاسلامي، بحيث تصبح أطرا حقيقية تخدم مصالح جميع الأعضاء وتقوي بعضها البعض، بالاضافة إلي تكوين أطر وتكتلات جديدة إذا دعت الحاجة إليها. وفي الإطار فاننا سنسعي ان تحصل مصر علي مقعد دائم في مجلس الأمن، وذلك ضمن رؤية شاملة لضرورة تغيير النظام العالمي الحالي وإصلاح مؤسساته وعلي رأسها الأممالمتحدة و مجلس الأمن الدولي، تصبح فيه الدول التي عانت طويلا من التهميش واستغلال الثروات وإضاعة الحقوق صاحبة صوت وحق مماثل للدول الأقوي. ثانيا: دولة صاحبة نموذج حضاري متميز وهو ما يعني ان تبرز مصر المشروع الحضاري الاسلامي الوسطي كمرجعية إنسانية مهمة، وتمتد به في الدائرة العربية والاسلامية ككل ثم تنطلق به إلي دائرة العالمية استنادا إلي قيم ومبادئ ذلك المشروع الذي يحمل الخير والعدل للجميع. ويتضمن ذلك التواصل مع الروافد المتنوعة لهذا المشروع الحضاري في الدول المختلفة، والتعارف والتعاون مع مشروعات حضارية ومنطلقات قيمية أخري لتحقيق مكانة حضارية متميزة. ويشير ذلك إلي إضافة بعد جديد إلي السياسة الخارجية المصرية لا يقتصر علي انتهاج سياسات معينة تستجيب لتفاصيل الواقع الدولي القائم وإنما تتصل بمضمون عميق لطبيعة الدور الحضاري الذي يجب أن تلعبه مصر خلال دوائر انتمائها المختلفة وتستدعي تاريخا طويلا من التميز الحضاري، وتمهد لواقع جديد تتفاعل فيه الحضارات المختلفة علي أسس من التوازن والتبادل والتكامل. كما يعني ان تعلي مصر أهداف ومنطلقات الثورة والمنظومة القيمية المرتبطة بها والتي شهد العالم كله لها، لتعطي النموذج الثوري السلمي الشعبي للتغيير الكلي الذي تميزت به دون التدخل في الشئون الداخلية للدول، وأن تحافظ مصر علي المبادئ والقيم التي تأصلت من خلال الثورة وترسخ لها في سياستها الخارجية ومواقفها من القضايا الدولية بما يؤسس لنموذج متكامل لدولة حديثة عادلة. ثالثاً: دولة تعلي قيمة مواطنها علي أرضه وخارجها. بما يعني ذلك من بناء جميع سياسات العمل الخارجي بما يخدم أهداف المواطن وتطلعاته ويوفر له المحيط الملازم والمحفز لقيامه بدور فاعل في بناء ذاته ومجتمعه ودولته، ويؤدي إلي زيادة البدائل والفرص المتاحة أمامه ويحفظه من جميع المخاطر الحياتية التي تهدد قدرته علي القيام بدوره الطبيعي في دولته بما في ذلك من حقوق وواجبات. ويحتاج هذا البعد إلي ربط السياسة الخارجية بمفهوم الأمن القومي الإنساني وهي مهمة تنظيرية وتنفيذية في ذات الوقت تحتاج لجهود كثيرة تعيد تعريف الأمن الوطني وتتخطي به الحدود الجغرافية إلي الإنسان ذاته الذي يمثل محور وجوهر المشروع الحضاري في الأساس ويصبح أمن الإنسان قيمة عليا تخدمها أبعاد الأمن الأخري. ويتضمن ذلك احتضان المصريين في الخارج وتفعيل طاقاتهم بحيث يرتبطون بالوطن الأم وهمومه وقضاياه دوما وتكون هناك قنوات اتصال مفتوحة لتحافظ علي هويتهم وانتمائهم وحقوقهم وخدمتهم لوطنهم مثلهم مثل المواطنين المقيمين علي أرضه. ويرتبط ذلك كله بأن تكون السياسة الخارجية المصرية منطلقة ومدعومة من إرادة شعبية جامعة حقيقية علي اعتبار ان الشعب هو المصدر الحقيقي للسلطة وهو الذي يستطيع إنجاح أو إفشال أي مشروع سياسي علي المدي الطويل. هذه هي أهم عناصر الرؤية الكلية للسياسة الخارجية الجديدة لمصر كما نراها، والتي تتطلب صياغتها رصد أهم عناصر القوة التي تمتلكها مصر، والتي تتضمن الفرص المتاحة مستقبليا، وكذلك الوقوف علي عناصر الضعف التي تعيقها، وتتضمن أيضا التهديدات التي قد تتعرض لها في المستقبل ودراستها بطريقة منظومية متكاملة، وذلك لتحديد المساحة الحقيقية التي تستطيع السياسة الخارجية المصرية التحرك فيها وتفعيل عناصر القوة الكامنة بها. وآمل أن يتسع المقام للحديث حول هذا الموضوع في مقالي القادم بإذن الله.