رسالة الدولة الخارجية هي الطريقة أو الأسلوب الذي تدرك به النخبة الحاكمة العالم ودور الدولة فيه, فكل دول لديها رسالة واضحة أو قيمة عليا تسعي لنشرها في المجال الخارجي. فالولايات المتحدةالأمريكية علي سبيل المثال تدعي بأن رسالتها في المجال الخارجي ترتبط بنشر قيم الحرية والديمقراطية بصرف النظر عن مدي مصداقية الشعار, وتري إيران أن رسالتها الخارجية هي نصرة مستضعفي العالم. ومع اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير بدا أن مصر تقدم نموذجا رياديا لثورة سلمية حضارية ترفض الإستبداد بكل صوره وتنشد الحرية. الأمرالذي دفع قادة العالم للإشادة بها واعتبارها نموذجا ملهما, وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي لخص رسالة مصر الخارجية في مقولته الشهيرة إذا تغيرت مصر فإن العالم سيتغير. وفي ضوء هذا التصور نستطيع أن نرصد مجموعة من التوجهات الرئيسية في سياسة مصر الخارجية تشكل ركائز متنوعة ومتكاملة لرسالتها الخارجية وهي: أولا: رسالة دولية, ترتبط بالتزام مصر بتعهداتها الدولية والحفاظ عليها إعمالا لمبدأ التوارث الدولي للمعاهدات, فإذا كانت الثورة قد أسقطت النظام فإن الدولة لم تسقط ولا يمكن أن تسقط,لأنها دولة راسخة وربما هي أقدم دولة مركزية في العالم, وبالتالي فإن الاتفاقيات التي أبرمت في العهود السابقة قد أبرمت باسم الدولة ولا يصح أن تنسب للنظم أو الحكومات السابقة. وفي إطار هذه الرسالة الدولية أيضا تتبني مصر قضية تفعيل دور الجمعية العامة للأمم المتحدة بإعتبارها المحفل الديمقراطي الذي يعبر عن جميع الدول الأعضاء, وإصلاح مجلس الأمن, الذي مازال يمثل صيغة تم التوصل إليها في سياق تاريخي مختلف لواقع عالمنا المعاصر.غير أن البعد الأهم في رسالة مصر الدولية يرتبط بمدي قدرتها ونجاحها في تصفير المشكلات مع العالم الخارجي, حيث لم يسجل التاريخ لمصر حادثة إعتداء واحدة علي أي دولة من الدول علي مر العصور. ومن هذا المنطلق لا يمكن المساس بعلاقات مصر الخارجية في اتجاه إيجاد توتر مع أي جهة خارجية, لا سيما ونحن في مرحلة ترتيب البيت من الداخل, لكن ذلك لا يعني عدم التغيير في السياسة الخارجية, إنما يعني التغيير في اتجاه تحسين العلاقات مع جميع الأطراف الخارجية, في ظل دعم استقلالية القرار الوطني وتخليصه من كل مظاهر التبعية الخارجية. ثانيا: رسالة عربية, ترتبط ببعدين أساسيين البعد الأول هو قضية عدم تصدير الثورة, فإذا كانت الثورة المصرية قد استطاعت أن تسقط نظاما مستبدا, فإن مصرلا تسعي إلي تصدير هذه الثورة التي مثلت نقطة تحول فارقة بين عهدين. وربما يرتبط هذا التوجه برغبة مصر الرسمية في تخفيف حدة المخاوف لدي دول مجلس التعاون الخليجي من وصول الثورة إلي المجتمع الخليجي,غير أن ثمة تحديا يواجه هذه الدول يرتبط بضرورة الإستجابة لرياح التغيير التي بدأت تهب علي المنطقة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي.ومن ثم فإن التغيير سيصل إلي كل النظم سواء كانت ملكية أو جمهورية, ولكن درجة هذا التغيير ستختلف من دولة إلي أخري بسبب اختلاف طبيعة البني الإقتصادية والاجتماعية ومدي تقبل الداخل.فضلا عن اختلاف طبيعة الدعم الخارجي لحدود هذا التغيير. وإذا كانت مصر الرسمية قد عبرت في أكثر من مرة من خلال تصريحات رئيسها الدكتور محمد مرسي بأن مصر لا تسعي لتصدير ثورتها وأنها تحترم سيادة الدول, فإن هذا يعني رفض مصر فكرة النموذج الإيراني لتصدير الثورة. من هذا المنطلق فإن تباطؤ المساعدات الاقتصادية الخليجية إلي مصر يمكن فهمه في هذا السياق بما يعني أن دول الخليج تفضل التأني في الدفع بدعمها لحين استقرار الأوضاع في مصر.الأمرالذي يعني ضرورة اعتماد مصر علي ذاتها من الناحية الاقتصادية. وكل التجارب الناجحة هي التي استطاعت فيها الدول أن تعتمد علي مواردها الذاتية; لأن المساعدات لا تبني دولا وإن ساعدت في تجاوز ظروف مرحلية. لذلك يبقي الاعتماد علي الذات هو الوسيلة الفاعلة لتحقيق التنمية والاستقرار. ومشكلات مصر ليست عصية علي الحل وإنما تحتاج لحلول ابتكارية تنجح في استنفار الطاقات الكامنة داخل الاقتصاد المصري. أما البعد الثاني لرسالة مصر العربية فيرتبط بتدعيم التحول الديمقراطي عربيا واعتباره أحد مكونات سياستها الخارجيه وخاصة في دول الربيع العربي. الأمر الذي سيرتبط بضرورة تعزيز التحول الديمقراطي داخليا بما يضمن التداول السلمي للسلطة علي كل المستويات, ويعزز الحياة الحزبية. وبالتالي فإن رسوخ تجربة التحول الديمقراطي ستمثل نموذجا يمكن أن تقتدي به الدول العربية. ثالثا: رسالة إنسانية, ترتبط بالتركيز علي الجانب القيمي للسياسة الخارجية إذ يقدم نموذج الثورة المصرية علي المستوي الخارجي مشروعا نهضويا احضاريا, بالمعني الشامل لمفهوم الحضارة. مشروع يتصل بروح الشعوب العربية والإسلامية, فهو يمتد إلي الدائرة العربية والإسلامية, ثم إلي الدائرة الدولية, وعلي نحو عالمي إنساني, يتجسد في دعوة مصر إلي ضرورة إيجاد نظام عالمي أكثر عدلا وإنسانية, إنطلاقا من أن مصر الثورة تقف في طليعة أعضاء المجتمع الدولي المدافعين عن العدل, والحق, والحرية, والكرامة, لكل الشعوب وخاصة المستضعفة منها.لذلك تسعي من هذا المنطلق الحضاري والأخلاقي, إلي إعلاء تلك القيم الإنسانية والروحية السامية, من خلال العمل المستمر, والجهد المخلص, سعيا إلي تسوية المشكلات المتفجرة ومعالجة جذورها علي أسس عادلة وغير مجحفة لحق الشعوب في تقرير مصيرها بما يضمن تحقيق أهداف النضال الإنساني ومكتسباته في الحرية والعدالة. وإدراكا لطبيعة التحديات التي تواجه نشر رسالة مصر الخارجية في دوائر سياستها الخارجية, فإن ذلك يتطلب تكاتف كل القوي الرسمية وغير الرسمية لإعادة بعث ريادة مصر الفكرية والثقافية والتي تجسد قوتها الناعمة المرتكزة علي حرية مبدعيها, ومفكريها, وفنونها, وآدابها, وجامعاتها, ومراكزها البحثية, وكنيستها الوطنية, وأزهرها الشريف الذي كان علي امتداد تاريخه منارة للفكر الوسطي المستنير, يضاف إلي ذلك ضرورة تحول الدور المصري من الدور الغائب إلي الدور الفاعل بما يعني ضرورة التفاعل مع القضايا الإقليمية والدولية التي ترتبط بأمننا القومي, ولن يتأتي ذلك إلا من خلال تطوير الجهاز الدبلوماسي وتدعيمه بالكفاءات والخبرات الأكاديمية, وفتح باب الحوار حول ملامح وأولويات سياستنا الخارجية بل وحول مكانتنا المأمولة في المستقبل القريب. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة