((.. لقاء تحت الأرض.. إحساس واحد ينتاب الجميع في هذا اللقاء فيشعر كل منا بأنه صار وحيدا بعد أن تركه أعز الناس.. لا مال ولا بنون ولا سلطان ولا نفوذ.. ولا كذب ولا ادعاء.. لقد كنا في غفلة من هذا فكشف الله عنا الغطاء وبانت الحجب وقيدت الأسماء في عالم البرزخ.. إنه اليوم الذي وصفه المولي عز وجل قائلا للإنسان: «هذا ما كنت منه تحيد»..)) كان نجما في زمن الانفتاح لكننا في الوسط الصحفي كنا نسمع عنه كلاما غير مريح وتتردد حوله علامات استفهام عريضة فالرجل يحرص كل الحرص علي حصد الألقاب وجمع المال وامتلاك مقاعد النفوذ والجاه.. كان موهوبا في إحراز الأهداف الدنيوية من أقصر الطرق وأسرعها وأسهلها.. لم يتخل عنه الحظ مرة واحدة.. نبغ من بين أصدقائه رغم أنه كان في مؤخرة ترتيب التخرج.. لمع بين زملائه الأكثر منه علما وثقافة وعقلا.. قالوا عنه إنه ظاهرة فلا يمكن أن تؤدي مقدمات المنطق إلي ما وصل إليه هذا الإنسان من حظوظ.. وقالوا إنه «مرزق» وأسباب الرزق لا قانون لها ولا نصوص تحكمها.. لقد استقال من عمله الحكومي ورصيده في البنك ألف جنيه.. وبعد عشرين عاما في العمل الحر قفز بسرعة الصاروخ إلي صفوف المليونيرات.. وفي النهاية صار يبحث عن الألقاب الجديدة بعد المليونير والباشا.. تركه أبناء مهنته يفوز بلقب النقيب بعد أن سد كل الأفواه المعارضة من حر ماله.. وفي النادي الذي ينتمي إليه سعي بكل جهده لمنصب الوكيل ليهزم منافسه في انتخابات النادي باعتباره خصمه الأول في الأسواق.. وما كادت انتخابات البرلمان تبدأ مرحلة فتح باب الترشيح حتي اختلي بنفسه ليتحقق من احتياجه للقب النائب أم لا.. وبعد ساعات تقدم بأوراقه.. ثم نجح!!.. ومثلما ظهر فجأة اختفي فجأة.. وابتعد عن الإعلام.. وخاصم السهرات وكأنه تعمد أن ينساه الناس.. ومع الوقت نجحت خطته.! العام قبل الماضي دعاني صديقي لواء الشرطة السابق إلي مائدة السحور التي يقيمها لأصدقائه كل عام.. وعلي مائدة السحور كانت المفاجأة.. ضيف جديد يلقبونه بالحاج جلال.. رجل عجوز يلمع بريق الحزن في عينيه.. حركته بطيئة ونبرات صوته خفيضة.. وما أن جلس إلي جواري حتي سألني بهدوء: أتعرف بحضرتك؟!.. عرفته بنفسي ففوجئت به يرتفع صوته ملفتا انتباه الحاضرين: ياه.. صحفي.. ده أنا مدين للصحافة بعمري كله!! وسألته أنا: ممكن نتعرف؟ وتطوع صديقي لواء الشرطة السابق بتقديمه لي وللحاضرين.. وعرفت أنه نجم الانفتاح الذي اختفي قبل ثلاثين عاما!!.. ودون أن أدري غلبني الفضول الصحفي فسألته أين اختفي ولماذا اختفي والدنيا كانت ملك يديه؟!.. ودمعت عينا الرجل وانزعج الحاضرون وقال أحدهم: مش وقته يا جماعة نتسحر الأول وبعدين نتكلم.. ! ويبدو أن الحاج جلال كان متعطشا للكلام فنظر نحوي ووعدني بإجابة السؤال أثناء تناولنا السحور.. وبالفعل بدأ يحكي لي وكلما مضت لحظة انضم إلينا واحد من الأصدقاء.. قال الرجل: كنت في قمة تألقي وشهرتي حينما تعرضت للابتلاء الأكبر في حياتي.. كان قلبي ممتلئا بحب زوجتي وأولادي الثلاثة وليس به مكان لحب أي إنسان آخر.. كان الأربعة قرة عيني في الحياة.. وذات يوم ضاعوا مني جميعا.. ماتوا في حادث أليم.. ومرت بي أيام سوداء.. فكرت في تصفية أعمالي والهجرة.. كنت أحدث نفسي ليل نهار : ليتني خسرت ثروتي وشهرتي وبقيت أسرتي!!.. لم يخرجني من هذه الحالة سوي قراري بالذهاب للحج.. وكان أعظم قرار اتخذته في حياتي. وبدأ الرجل يروي قصته في مكةالمكرمة عندما وقعت عيناه علي الكعبة.. أمام بيت الله الحرام رفع يده لأعلي مثلما يفعل الناس.. صاح معهم «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك».. قالها مرات ومرات حتي انتبه علي الدموع تملأ وجهه.. شعر وكأن أشياء تتساقط من جسده المرتجف.. لعلها خطاياه.. وذنوبه.. اشرأب عنقه من جديد حتي طال بصره كسوة الكعبة.. ارتبكت الكلمات فوق لسانه.. واختصرها جميعا إلي كلمة واحدة صاح بها وكأنه يصرخ مستغيثا وقد وصل إلي الحجر الأسعد: «يارب عوضي عليك يا رب»!!.. وكأن فريقا كاملا من ملائكة السماء يجرون له جراحة دقيقة.. كأنه يولد من رحم امه مرة أخري.. شعر أنه ضعيف، وأنه لم يقدم شيئا لوجه الله يجعله ذا قيمة فوق أرض وتراب هذا المكان.. اعترف بينه وبين نفسه أنه لم يفعل في حياته عملا واحدا إلا كان بحثا عن متعة دنيوية من مال أو شهرة أو نفوذ... لحظات كأنها الدهر.. لمس الحجر بيده.. ارتعد جسده.. اهتز قلبه.. استسلم لحركة الأمواج المتلاطمة في زحام الحجاج.. كأنه يوم الحشر.. الناس في أكفان بيضاء كأنهم الموتي وقد بعثوا من مقابرهم سواسية في كل شيء!.. لم يكن فوق لسانه سوي نفس الدعاء « يارب عوضي عليك يارب «. يوما بعد يوم اكتملت الرحلة.. وعاد جلال إلي القاهرة لكنه صار إنسانا جديدا.. صار عشقه الوحيد مجالس العلم وأعمال الخير.. احتقر ماضيه.. فقد شهيته للمال والمناصب وسخر من كل الألقاب التي حصدها وتمتع وتباهي بها.. أصبح هدفه الوحيد في دنياه أن يحقق صفة المؤمن حتي تكون له قامة وقيمة حينما يزور البيت المعمور في السنوات التالية.. بحث في كل سبل التوبة النصوح.. أعاد الأموال للضحايا.. أكثر من صلوات النوافل مع الصلاة المكتوبة.. تصدق علي الفقراء وساعد المحتاجين.. ودرب لسانه علي الصدق وألا يقول إلا خيرا.. نجح في إرضاء ضميره في الذنوب التي تذكرها ويعرف أصحابها.. وذات يوم قرأ في إحدي الصحف قصة إنسانية عن يتيمين قتل أبوهما أمهما وصدر ضده حكم بالإعدام وطردهما صاحب المنزل من شقتهما ويعيشان في خيمة بأرض فضاء ومع ذلك يذهبان إلي مدرستهما كل يوم.. أسرع الحاج جلال إلي الجريدة وحصل علي عنوان الخيمة ووعد بمساعدتهما.. ثم انقطعت أخباره.! وأضاف الحاج جلال قائلا: المؤكد أن الله استجاب لدعوتي أمام الكعبة.. كبر اليتيمان داخل بيتي.. حصل حاتم علي ماجستير في إدارة الأعمال وهو الآن مدير الشركة.. وكبرت اخته وحصلت علي ليسانس الحقوق وتتولي الآن إدارة الشئون القانونية.. تزوج حاتم وانجب ولدا وبنتا.. وتزوجت أمينة وانجبت ولدين وامتلأت الفيلا بالحياة.. ألم أقل لكم أن الله استجاب لدعوتي وعوضني بدلا من أسرتي بأسرتين من ثمانية أشخاص هم الآن كل حياتي! صاح صاحب الدعوة علي السحور : يا جماعة مفيش وقت الفجر قرب !.. انشغلوا جميعا بتناول الطعام والشراب وكنت أنا اختلس نظرة بعد أخري إلي وجه الحاج جلال فأشاهد فوق وجهه نورا يسبق نور الفجر.! اللقاء المرتقب كلما جلست علي مائدة الإفطار في رمضان سألت نفسي دون أن يسمعني أحد: «هل ستعيش إلي رمضان القادم؟!».. وفي كل مرة تأتي الإجابة واحدة لا تتغير، فمن يضمن عمره لحظة.. أو حتي جزءا من اللحظة؟!.. وكم كان ربي كريما معي أن طال بي العمر حتي جاوزت الستين عاما.. وهذا الرقم هو ما دفعني في إفطار رمضان هذا العام إلي السرحان والشرود وبعض الارتباك!!.. فالرقم يعني أن الاقتراب من الموعد المحتوم يزداد قربا، وأن الاستعداد للقاء المرتقب يجب أن يكون شعار المرحلة القادمة.. فلا أنا ولا غيري يمكننا أن نتبشر خيرا بهذا اللقاء ما لم نذهب إليه بقلب سليم! لقاء تحت الأرض.. إحساس واحد ينتاب الجميع في هذا اللقاء فيشعر كل منا بأن بصره حديد وعليه أن يقرأ كتابه.. لا مال ولا بنون ولا سلطان ولا نفوذ.. ولا كذب ولا ادعاء.. لقد كنا في غفلة من هذا فكشف الله عنا الغطاء وبانت الحجب وقيدت الأسماء في عالم البرزخ.. إنه اليوم الذي وصفه المولي عز وجل قائلا للإنسان: «هذا ما كنت منه تحيد..» ويالها من لحظات.. وياله من لقاء محتوم.. فماذا أعددنا له؟!.. أليس شهر رمضان فرصة العمر التي تأتي كل عام لنيل الرضا والمغفرة والرحمة والعتق من النار كما أخبرنا المصطفي عليه الصلاة والسلام؟.. ألسنا الآن في دار عمل بلا حساب، وغدا نذهب إلي دار حساب بلا عمل.. فماذا نحن فاعلون طالما أنه لا مفر من اللقاء؟!.. عندي حل عاجل واقتراح بسيط، لكنه قد يكون طريق النجاة.. وهو بايجاز شديد أن تجعل من كل أيام العام أياما رمضانية.. نحافظ علي قلوبنا بيضاء.. لا نهجر بيوت الله.. ولا كتابه.. ونعمل بسنة نبيه المصطفي عليه الصلاة والسلام.. ونكون جميعا علي يقين من أن الإسلام ليس ثقافة وإنما منهج حياة.. فلا يمكن أن نصلي ونكذب أو نغش أو ننافق أو نقع في شباك الهوي والغرض!.. نعم هذه مشاهد مألوفة أرجو أن نخلص أنفسنا منها.. وكما كنا نحافظ علي صيامنا من أي خطأ علينا أن نتعامل مع كل الأيام بنفس المنهج والخوف والحذر لو ظل رمضان يجري في دمائنا مجري الدم في العروق!.. نحن لسنا أنبياء.. ولن نكون.. اخطأنا.. نعم.. ظلمنا ناسا.. وظلمونا ناس.. كذبنا وكذبوا علينا.. لكن الله يقبل التوبة في كل وقت بشرط أن تكون نابعة من القلب ومصحوبة بالندم والعزيمة علي ألا يتكرر الخطأ.. الدنيا حولي وحولك قاسية.. لكن صبرا جميلا!.. قد تري منافقا يعتلي منصبا أو مليونيرا مجهول المصدر والهوية.. أو شريفا يتعرض للتنكيل.. أو فقيرا يكمل عشاءه نوما بينما جاره يرفل في نعيم لا يعلم إلا الله مصدره.. مرة أخري صبر جميل فالجنة ليست فوق الأرض.. ولا النار.. وإنما الحساب مؤجل ليوم تشخص فيه الأبصار! الحياة قصيرة.. دعونا نستمتع بالقدر المتاح من السعادة ونغض البصر عما يقلقنا أو يضايقنا.. دعونا نتسامح وتصفو قلوبنا، ونقابل السيئة بالحسنة، وان نضع نصب أعيننا دائما قوله عليه الصلاة والسلام: عش ما شئت.. فإنك ميت واحبب من شئت.. فإنك مفارقه واعمل ما شئت.. كما تدين تدان وليسأل كل منا نفسه بين لحظة وأخري: «حظ قليل في الدنيا، ونعيم خالد في الآخرة.. أم حظ ونعيم في الدنيا.. وجحيم في الآخرة؟!».. لو وضعنا هذا السؤال أمام أعيننا قبل أي تصرف أو سلوك أو قرار.. فسوف ينصلح حالنا! يارب.. إن لم نكن أخلصنا في طاعتك فإننا نطمع جميعا في رحمتك!.. عموما أيام ويتأهب شهر رمضان الكريم للرحيل.. يحزم حقائب الخير وقوائم المغفرة والرحمة والرضا ويقف علي أبواب شهر شوال نودعه بدموعنا.. ويودعنا بثقة وأمل وتفاؤل مؤكدا أنه عائد.. عائد حتي ولو لم يكن لبعضنا نصيب في لقاء جديد!.. عموما.. نأمل جميعا أن يجمعنا لقاء الحب الكبير مرة أخري في عام قادم بإذن الله.. نأمل أن نكون ممن شملتهم قوائم المغفرة والرحمة.. نرجو أن يكون رمضان قد رشحنا ليتوب علينا الله مما قد نسينا أو أخطأنا أو فعل السفهاء والعصاة وبعض منتجي الدراما الذين يعيشون بيننا!.. نرجو ونأمل ونتوسل إلي الله سبحانه وتعالي أن يجعلنا صغارا في نظر أنفسنا وكبارا في نظر الناس.. وأن يكون رمضان هو هدية المولي عز وجل لكل من صامه إيمانا واحتسابا وعينه علي الجنة ولسان حاله يدعو الله أن يزحزحه عن النار.. آمين يا رب العالمين. المقعد الخالي أحيانا أنسي أنها رحلت عن دنيانا.. واتخيلها بطلة قصة انتهت رغما عني.. وأتساءل مع نفسي هل هي تسكن الشمس؟! ولم لا وهي التي كانت كلما ابتسمت أشرقت الشمس فوق وجهها!.. هل هي تسكن القمر؟! ولم لا وهي التي كان يضيء وجهها كالبدر في ظلمة الأيام؟!.. هل هي من سكان الجبل؟! ولم لا وهي التي كانت تمضي في حياتها شامخة، راسخة، رغم كل الأزمات التي مرت بها وبي؟.. هل تسكن قصور الملوك وبساتين الزهور؟! ولم لا وهي التي عاشت في رقة الياسمين ورائحة الفل! أخيرا.. ضربني الواقع علي رأسي وشد أذني كأنه يعاقبني وصرخ في وجهي: حبيبتك وأم أولادك هناك في مقابر أكتوبر.. إن كنت لا تصدق انظر إلي المقعد الخالي إلي جوارك علي مائدة الإفطار منذ بدأ رمضان..! تأملات أراد النبي صلي الله عليه وسلم أن يقرب إلينا عالم الموت فقال لأصحابه: .. «والله لتموتن كما تنامون.. وتبعثون كما تستيقظون». قال الله سبحانه وتعالي لموسي وأخيه هارون «اذهبا إلي فرعون إنه طغي فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشي».. قرأ احد الصحابة هذه الآيات فبكي من خشية الله، وقال يا ربي: «توصي موسي وهارون أن يقولا قولا لينا.. إذا كان هذا حلمك بفرعون الذي قال أنا ربكم الأعلي فكيف يكون حلمك بعبد قال سبحان ربي الأعلي؟! سألوا النبي صلي الله عليه وسلم عن الصديق الوفي.. فقال: هو من إذا ذكرت الله أعانك وإذا نسيت الله ذكرك. من الحياة.. لحظة اشتياق أصعب من لحظة فراق!!.. لا تأمن رجلا علي امرأة.. ولا تأمن امرأة علي سر !!