في قطار نتوهم أننا نختار محطاته تمر بِنَا الحياة، والحقيقة الأكيدة أننا لم نع حتي لحظة استقلاله، متي بدأت الرحلة وأين ستنتهي مسافات تبدو شاسعة في بدايتها، وعندما ندرك الحقيقة غالبا يكون الأوان قد فات، فما بين العربات قد نتنقل بين درجاتها المتباينة يوما في الأولي وأياما في الثانية، ولا تخلو رحلة من ذكريات الثالثة وربما السبنسة، وحتي هذه التنقلات لا نملك من أمرها شيئا، فمهما عملت تبقي إرادة الله سبحانه وتعالي هي العليا، وفي أي عربة نكون وعلي أي مقعد سنجلس ستبقي مساحات الفرجة واضحة فقط عند محطات التوقف، ومهما بلغت درجة انتباهنا للطريق والقطار بسرعته الطبيعية لن تعلق بأذهاننا سوي مشاهد عابرة، لا تملك مداركنا المحدودة استيعابها بشكل كامل حتي وإن كانت في وضح النهار. يجلس في عرباتنا ركاب كثر غالبا لا نعرف منهم سوي من أتاحت الصدف أن يعبروا من حيزنا الضيق وكثير منهم، نلمحهم فقط من بعيد وهذا النوع غالبا لا نشعر به سوي بعد أن ننظر في مقعده فنجد راكبا آخر احتله بعد أن جاءت محطة سلفه الأخيرة، والغريب أننا لا نبدأ في مراجعة هذا الوجه سوي بعد أن ندرك تماما أننا غالبا لن نشاهده للأبد، في حالة ربما تكون الأغرب ولكنها ليست الأصعب فالصعب دائما يبقي رحيل من لم يبقوا غرباء، فمع طول الرحلة وتبادل العربات والمقاعد لا تبقي صحبة المحطة الأولي وحدها في الدائرة، فللجلوس رفاق وللوقوف رفاق وللطعام رفاق وللشراب رفاق وللحديث رفاق وحتي للصمت رفاق، نأنس صحبتهم لعمر أو حتي لفترة طالت أو قصرت فالعبرة هنا لم تكن أبدا بالزمن ولكن بالذكريات والتفاصيل والملامح الطيبة التي نستريح إليها في وجوههم، البهجة التي تشع علينا من بسمتهم، القوة التي يمنحها لنا بأسهم، الأمل الذي تمدنا به عزيمتهم، الصبر الذي يلهمه لنا إيمانهم، وبالتأكيد الحب الذي تغمرنا به قلوبهم. وفي قطاري كان جالسا أحد هؤلاء المختلفين في ملامحهم، الموجعين في رحيلهم، فالفراق جاء بلا مقدمات، دون ميعاد، والمحطة التي اعتقدها كل من حوله مازالت بعيدة.. جاءت! قطاره كان يبدو مازال صاخبا بركابه فالمحطات الباقية بدت كثيرة ومزدحمة ومقعده دائما كان شاغرا بالحاجين إلي قلبه الطاهر وبسمته النقية وروحه التي لم تعرف للكراهية موضعا، تقاسمنا الفرحة والصحبة كما تقاسمنا العيش والملح. رحل عصام التوني الرجل.. الخلوق.. الإنسان.. والمبدع الذي بقي جنديا مجهولا قدم السعادة للملايين في الدراما والسينما والإعلام المرئي، ولكن أمثاله يرحلون فقط بأجسادهم، وسيبقي عصام وأمثاله أحياء أبد الدهر في ذاكرة الإبداع بما قدمه كواحد من أهم وأعظم مديري الإنتاج في تاريخ مصر، سيبقي عصام حيّاً في وجوه أبنائه كريم ومروان وأنجي وزوجته الفاضلة سحر، سيبقي التوني خالدا في أرواح المئات من تلامذته الذين أثق أنهم سيكملون مسيرته المهنية الجميلة، سيبقي التوني طيفا جميلا في قلوب الآلاف ممن عرفوه عن قرب أو حتي من لمحوا طلته الصافية من بعيد. سلام يا عصام.. سلام يا صاحبي. دعاء اللهم ارحم عبدك عصام التوني واعف عنه وارحمنا إذا ما صرنا إلي ما صار إليه اللهم ابدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وادخله الجنة من غير حساب وسابقة عذاب.. اللهم عامله بما أنت أهله ولا تعامله بما هو أهله.. اللهم آنسه في وحدته ووحشته وغربته.. اللهم انزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين.. اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة.. اللهم إنا نتوسل بك إليك ونقسم بك عليك أن ترحمه ولا تعذبه.. اللهم آته رحمتك ورضاك.. آمين آمين أمين.