«جمال عبدالناصر» لم يكن رئيساً تقليدياً ل«مصر» ولكنه كان زعيماً استثنائياً ل«العرب» ويجب ألا يأتي تقديرنا له علي حساب رجل دولة بحجم «أنور السادات» خرجت المظاهرات من «جامعة الإسكندرية» يوم إعلان الوحدة بين «مصر» و»سوريا» في «فبراير» عام 1958 هاتفة: «السودان» أولًا «السودان» أولًا، ولا نستطيع أن نحدد حتي الآن حجم مسئولية ثورة عام 1952 في ابتعاد «السودان» عن «مصر» وتأثير الصراع بين «نجيب» و»عبد الناصر» علي تحول الاتحاديين بقيادة «إسماعيل الأزهري» إلي النزعة الاستقلالية التي انتهت بإعلان استقلال «السودان» في أول يناير 1956 أي منذ ستين عاماً بالتمام والكمال، والواقع أننا تعودنا أن نحمل الأوضاع في «القاهرة» - بعد سقوط تاج ملك «مصر» و»السودان» - العبء الأكبر من اللوم علي ما جري في «مصر» وأدي إلي هزة عنيفة لدي قطاع من السودانيين تجاه مستقبل التعامل مع شعبهم في «الشمال» بعدما تأكد لهم أن «مصر» مقبلة علي سنوات من التغيير الجذري والتحول الكبير الذي يفضل السودانيون النأي ببلدهم عنه، وأنا أميل إلي الرأي القائل بأن ما جري في «مصر» منذ 1952 حتي 1956 لا يتحمل وحده المسئولية فيما جري، فالسودانيون كانوا مهيئين للمطالبة بالاستقلال والتصويت من أجله رغم بعض الجهود المصرية التي حاولت استمالة الأشقاء نحو خيار «وحدة وادي النيل»، ومنها علي سبيل المثال الزيارة الشهيرة ل»صلاح سالم» العضو البارز في مجلس قيادة الثورة إلي «جنوب السودان» وما نشرته بعض الصحف الأجنبية تحت عنوان «الصاغ الراقص» لأنه شارك في «رقصة فولكلورية» مع أشقائنا في «الجنوب» أثناء زيارته، واعتمد في وجهة نظري هذه إلي روح زرعها «الاستعمار البريطاني» لدي السودانيين مؤداها أن أصبحت الوطنية السودانية مرتبطة بخيار الاستقلال ومقترنة بأزمة ثقة تجاه «مصر» وحذر في التعامل معها، وأحسب أن رواسب من تلك النظرة المتأصلة - البريطانية الصنع - مازالت مستقرة لدي كثير من السودانيين بل ومترسبة في أعماق القيادات منذ الاستقلال حتي الآن، فالسودانيون مستعدون للاحتشاد بمنطق الوطنية السودانية ضد السياسة المصرية إذا لزم الأمر باعتبار أن ذلك هو الخيار المستقل والنزعة الوطنية، وتلك قضية مفتاحية في السياسة السودانية شعر بها «عبد الله خليل» و»إبراهيم عبود» وغيرهما من القيادات السودانية حتي الآن، ولقد آن الأوان لهذه النظرة التي زرعها أعداء «وحدة وادي النيل» أن تزول، فالدنيا قد تغيرت والعالم تحول بنا ومن حولنا ولم يعد لبقايا مثل تلك الأفكار أن تؤثر في علاقات «التوأمة» بين الشعبين المصري والسوداني بغض النظر عن الأنظمة في «القاهرة» أو «الخرطوم»، أقول ذلك في مناسبة الاحتفال بعيد «السودان» الوطني وبتأثير لقاء صريح بين عدد من المسئولين والمثقفين المصريين بوزير خارجية «السودان» د.»إبراهيم غندور» في دار السفير السوداني ب»المعادي» وهو لقاء ترك لدينا أثراً إيجابياً للغاية وجعلنا نشعر أن روح «وحدة وادي النيل» مازالت تطل علينا من «الخرطوم» - عاصمة «السودان» - ذلك البلد الشقيق الذي رفض قطع العلاقات مع «مصر» وفقاً لقرار القمة العربية في «بغداد» بسبب توقيع معاهدة السلام «المصرية الإسرائيلية»، وهو ذاته البلد الذي لم تجد «مصر» أكثر منه حنواً علي طلبة كلياتها العسكرية بعد هزيمة 1967 عندما استضاف السودانيون طلاب «الكلية الحربية» المصرية في منطقة «جبل الأولياء» خلال تلك الأيام السوداء بظلام الهزيمة بعد 5 يونيو من ذلك العام، وهي أيضاً «الخرطوم» التي استقبلت الزعيم «جمال عبد الناصر» في «أغسطس» 1967 بعد شهرين فقط من زلزال الهزيمة استقبالاً شعبياً رفع عن كاهله أوزار الهزيمة وأعاد إليه وإلي غيره - من الحكام العرب الذين حضروا قمة «الخرطوم» - روح الأمل، وهو المؤتمر الذي تقرر فيه دعم «مصر» مادياً لمواجهة نفقات إزالة آثار العدوان، وهو مؤتمر لعب فيه الملك السعودي «فيصل بن عبد العزيز» دوراً تاريخياً لا ينساه العرب، ف»السودان» بلد أصيل بطبعه يضم حشداً ضخماً من المثقفين والمفكرين والأدباء والشعراء وكما أن «مصر» ماؤها سوداني فإن «السودان» هواه مصري ويكفي أن «شمال الوادي» يضم - في «مصر» - أربعة ملايين من الأشقاء السودانيين الذين يصعب تفرقتهم عن أبناء «الشمال» من المصريين، ولأنني أدرك حجم المشكلات التاريخية والحساسيات المترسبة والأزمات الطارئة فإنني أقول إن تفكيراً جديداً يجب أن يسيطر علي صانع القرار في العاصمتين المصرية والسودانية وفقاً لخيارات جديدة تقوم علي الندية الكاملة والمحبة المتأصلة وتتجاوز المشكلات العابرة فقد آن الأوان لدفعة حقيقية في العلاقات بين البلدين، وإذا كان البعض - وأنا منهم - يعتب علي «الخرطوم» مؤخراً تناولها الأحادي والذاتي لأزمة «سد النهضة» رغم أن المخاطر مشتركة علي «السودان» و»مصر» - وإن اختلفت الأسباب - إلا أننا نلمح الآن تحولاً إيجابياً في الدور السوداني، ف»السودان» كما قال وزير خارجيته بحق ليس وسيطاً ولكنه طرف يدرك الاحتمالات المخيفة لو أصاب جسم «السد» مستقبلاً تشقق أو انهيار - لا قدر الله - بعد التخزين عندئذ قد تزول الحياة في بعض بقاع «السودان» و»مصر» أيضاً، لذلك فإننا نطالب أشقاءنا في «الخرطوم» بالارتفاع فوق الملف التاريخي للعلاقات مع «مصر» - بما له وما عليه - والتركيز علي أسوأ الاحتمالات القائمة من ذلك «السد» الذي يشيده أشقاؤنا في «إثيوبيا» ويتبعون فيه تكتيكاً تفاوضياً يذكرنا بالمفاوضات المزعجة والمتعنتة مع «الدولة العبرية» عبر العقود الأخيرة، ورغم أن «إثيوبيا» ليست «إسرائيل» إلا أن طريقة استهلاك الوقت واستنزاف الجهود في التفاوض الشكلي والغوص في التفاصيل هو أمر يعرفه المفاوض المصري جيداً من تراكم خبرات سابقة مع طرف آخر ولكنه لم يكن «إفريقياً» ولا شقيقاً فالفارق هنا يلزم الأطراف الثلاثة في «أديس أبابا»و»الخرطوم»و»القاهرة» بالالتزام بروح الأخوة والشعور بأننا في قارب واحد وأن المصلحة المشتركة هي التي تحكمنا خصوصاً وأن المخاطر سوف تكون واحدة علي الجميع إذا جري مكروه لإحداها لذلك يجب أن نرفع شعاراً يؤكد ألا ضرر يلحق بدولة لصالح دولة أخري وأن التنمية في «إثيوبيا» هي قضية عادلة ولكنها لن تكون علي حساب حق المصريين في «مياه النهر» الخالد الذي بني الحضارة وزرع الحياة علي امتداد مساره حتي مصبه عند «البحر المتوسط»، هذه بعض خواطري في أيام حاسمة من علاقات «مصر» ب»جنوب الوادي» وارتباطها بأشقائها في «دول حوض نهر النيل» وهو أمر دعاني شخصياً إلي أن أطالب بصياغة شبكة تنموية متبادلة المنافع مشتركة المصالح بين «مصر» وتلك الدول وفي مقدمتها بالطبع «السودان» ثم «إثيوبيا» و»أوغندا» وغيرها من دول «حوض النهر» حتي تلك التي تنظر بريبة إلينا وتحكمها شكوك تاريخية نحونا إذ أن روح العصر تفرض التعاون بين الأطراف وتلفظ مظاهر العداء الذي يمكن أن يطرأ علي العلاقات بيننا، ولنتذكر أن في مقدورنا أن نصل إلي سياسة مستقرة يربح فيها الجميع ولا تنعم أطراف علي حساب أخري و»مصر» لديها الكثير الذي يمكن أن تقدمه فهي معبر للتجارة البرية والبحرية تجاه أوروبا وهي أيضاً دولة متقدمة نسبياً في الناحيتين التكنولوجية والتنموية فضلاً عما لديها من حشد من الخبرات المدربة علي تأهيل الحياة إلي الأفضل في «دول النهر» - زراعة وصناعة وتعليماً - كما أن جامعاتها مفتوحة والمنح الدراسية متاحة لأشقائنا القادمين من «الجنوب»، خلاصة القول إن لدي كل طرف من «دول النهر» ما يمكن أن يقدمه للدول الأخري، المهم أن تسود روح جديدة تؤمن بشعار ردده الأباء والأجداد هو «وحدة وادي النيل» ويكفي أن نعلم أن القبيلة الأكبر في «أوغندا» قد طالبت بالانضمام إلي «مملكة مصر والسودان» ذات يوم في الربع الثاني من القرن الماضي عندما كانت «مصر» مركز جذب للأشقاء ولم تكن هدفاً للأعداء. عيد ميلاد «عبد الناصر» لو أنه كان حياً لاحتفل بعيد ميلاده الثامن والتسعين ولكنه رحل مبكراً في الثانية والخمسين، ولا أظن أن شخصية أثرت في العالم العربي خلال القرن العشرين مثل «جمال عبد الناصر» الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وخاض معارك ضارية وفتح جبهات متعددة في وقت واحد، ولابد أن أعترف أن جزءاً كبيراً من مشاعري الوطنية وعواطفي القومية يرتبط بذلك الرجل الذي ألهم الفقراء بأولوية قضايا «العدالة الاجتماعية» وجعل المواطن العربي في كل قطر يشعر أن حجمه يكبر وأن قيمته تزداد، وقد يقول قائل وما الفائدة إذا كانت النهاية هزيمة عسكرية واحتلال أراض من ثلاث دول عربية؟! والجواب في الحال هو أن تقييم الزعامات عبر التاريخ لا يتم بخواتم حكمها أو نهايات عهدها ولكن العبرة تكون بالروح التي بثتها لدي البشر والمبادئ التي ارتبطت بها ودافعت عنها، والتاريخ يذكر الذين احترمهم الناس وليس بالضرورة الذين أحبهم معاصروهم، إن «نابليون فرنسا» مات محبوساً في جزيرة «سانت هيلانا» أسيراً في أيدي خصومه و«أحمد عرابي مصر» رحل والناس تبصق عليه في المقاهي بعد عودته من المنفي معتبرين أنه سبب «الاحتلال البريطاني» للبلاد، كما أن «محمد علي» من قبله قد رحل محبوساً في غرفة يعاني من «داء الخرف» بعد أن رحل ابنه «إبراهيم» الذي تولي الحكم بعده علي حياة عينه، إن «جمال عبدالناصر» لم يكن رئيساً تقليدياً ل«مصر» ولكنه كان زعيماً استثنائياً ل«العرب» ويجب ألا يأتي تقديرنا له علي حساب رجل دولة بحجم «أنور السادات» الذي أعترف أن عقلي يتجاوب كثيراً مع رؤيته الواقعية للأمور وقدرته السياسية علي اللعب بين الصراعات، كما أن حماسي ل 23 يوليو - بما لها وما عليها - لا ينتقص من قيمة «العصر الملكي» ومكانته لدينا فأنا ممن يذكرون ل«الأسرة العلوية» مآثر بيضاء رغم كل الخطايا والتجاوزات إذ لم يكن فيها إلا خائن واحد هو «الخديو محمد توفيق» الذي سلم «مصر» ل«بريطانيا» بدم بارد ودون ذرة من الإحساس الوطني.. إننا نتذكر «جمال عبدالناصر» هذه الأيام ونستعيد أيام المد القومي والحلم العربي ونقول كم تغيرت الدنيا وكيف تحولت المنطقة؟ وإلي أين يتجه العرب في ظل تحديات عاتية ومشكلات تحاصرهم من كل اتجاه؟ رحم الله «جمال عبدالناصر» وكل من سعي بإخلاص لخدمة بلاده حتي وإن ضل الطريق أحياناً. د. «محمود المناوي» و«جامعة القاهرة» دعانا الدكتور «جابر جاد نصار» رئيس «جامعة القاهرة» منذ أيام لحضور حفل تأبين الأستاذ الدكتور «محمود المناوي» الأستاذ الراحل ب«كلية الطب» وكان الاحتفال بمبني الجامعة المركزي بالقرب من المتحف الذي أطلق عليه اسم الراحل الكبير تقديراً لخدماته الجليلة ل«جامعة القاهرة» بالتأريخ لها والحفاظ علي تراثها، فلقد كان الدكتور «المناوي» - وهو أستاذ أمراض نساء وتوليد - شخصية موسوعية بكل المقاييس فلقد تجاوز حدود مهنته ليكون مؤرخاً وأديباً ولغوياً يتنافس «المجمع العلمي المصري» و«مجمع اللغة العربية» علي الاستفادة منه والاعتزاز بوجوده، ولقد تحدث يومها رئيس الجامعة في تأبين واحد من رموزها كما تحدث السيد «عمرو موسي» أمين عام «جامعة الدول العربية» السابق، وتحدثت أنا أيضاً عن مآثر الفقيد الذي ربطتني به صداقة عبر عشرات السنين وقدّرت له دائماً أنه شخصية موسوعية من طراز الشوامخ في حضارتنا العربية الإسلامية كمثال المعلم «ابن سينا» و«الفرابي» وغيرهما، وتذكرت يومها أبناء «مدرسة الطب المصرية» العظام الذين يتساقطون واحداً وراء الآخر فقد فقدنا «إبراهيم بدران» و«محمود المناوي» وقبلهما «علي باشا إبراهيم» و«نجيب باشا محفوظ» و«عبدالوهاب باشا مورو»، ولكن لاتزال «مدرسة الطب المصرية» متميزة منذ «العصر الفرعوني» حتي الآن وسوف تظل كذلك إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.. رحم الله الراحلين وبارك في الباقين!