استحق جمال الغيطاني أن يكون في الصفوف الأولي لكتاب القصة والرواية، في مصر، والوطن العربي؛ لا لغزارة إنتاجه، وتنوعه، بل لتجاوزه مرحلة الرواية التقليدية، الواقعية، واتجاهه إلي الحداثة في أدق تفاصيلها. فالرواية الحديثة لا تحفل كثيرا بالمنطقية والموضعية بقدر ما تحفل بالحدث العجائبي الخارق، أو قل الواقعية السحرية بالمفهوم الحداثي للمصطلح، ففيه يستطيع الأديب أن يذهب بالقارئ إلي آفاق رحبة من الخيال والتصور، بغية إنتاج دلالات جديدة للعالم من حولنا. هناك مقولة تقول بأن الأديب إذا تضخمت أعماله أصبح بمنجي من النقد، فمن ذا الناقد الذي يتفرغ لتشريح وتحليل أعمال أديب، تجاوزت إبداعاته حد المعقول في غزارة الإنتاج، وتنوعه، بين القصة القصيرة، والرواية. ولكن أخذ عمل واحد من أعماله ووضعه تحت مجهر النقد والتشريح يمكّننا من سبر أغوار عالمه الفني بنسبة معقولة، شريطة أن يتم اختيارها بالشروط والظروف المواتية. لم يكن العمل المختار أمرا هينا؛ بل من الصعوبة بمكان أن تقف علي عمل واحد، تستطيع من خلاله الخروج بنتائج مثمرة ومرضية. "وقائع حارة الزعفران" رواية كتبها جمال الغيطاني وظهرت في طبعتها الأولي سنة 1976م. وإن كانت أحداثها دارت فعليا قبلها بعدد من السنوات. وإذا نظرنا إلي العتبة الأولي للرواية وجدناها جملة اسمية متكاملة الأركان، الخبر فيها بارز، قائم برأسه في الحدث، والمبتدأ محذوف، كابتداء الأحداث تماما، فلا أحد يعرف كيف بدأت؟ ولمَ؟ ومع تغييب المبتدأ فحضوره قائم ومتواجد علي سطح الرواية، ولا يكتمل المعني إلا بلزومه حيز الوجود. وبناء الجملة الاسمية يختلف عن بناء الجملة الفعلية، وكذا مدلول كل منهما؛ فالجملة الاسمية غالبا تفيد الثبات والرسوخ والاستقرار، بينما الفعلية تفيد التجدد والحدوث والاستمرار. وأثر ذلك علي اختيار الاسمية أن المبدع أراد أن تكون ثباتية الوقائع واستقرارها في حارة الزعفراني، وليس في غيرها من الأماكن، وكأنه بذلك يدخلنا في الأحداث مباشرة؛ لأن الأحداث الفاعلة في الرواية تكمن في ذلك المكان من الأرض. وهي أحداث (فنتازية) مضحكة تارة، مبكية تارة أخري، وفيها إرهاص يستشرف المستقبل. تمتاز لغة الغيطاني في الوقائع الزعفرانية بتحولات مثيرة، حيث جدل الرشاقة الإبداعية بلغة التقرير الوظيفية بشكل لافت، فهو يأخذك من خلالها إلي عوالم الواقع تارة، وإلي عوالم الشعوذة والسحر والخيال المجنح تارة أخري. وهي لغة تثير فضول القارئ أكثر من الركون إلي التعمق في مفرداتها، وأحيانا يثير فضول القارئ، ويدغدغ عواطفه، بتطعيم الفصحي ببعض عبارات العامية ذات التأثير العاطفي الحاد، خاصة عندما يستعرض موقفا جنسيا مثيرا، وما أكثره في الرواية! الضمير المستخدم في الرواية هو ضمير المتكلم، وربما منحه هذا الضمير تدخلا مباشرا، ليعقب بلسانه علي الأحداث، وإن لم ير في ذلك غضاضة، لأنه ساد قديما ألا يتدخل الكاتب في العمل القصصي، وعليه أن يختفي وراء الشخصيات، لكن الغيطاني بثقافته الموروثة لا يري عيبا في ذلك أسوة بكتابات الجاحظ في آثاره الأدبية. كما تمتاز اللغة بإبحارك السريع عبر الأزمان الثلاثة، فتارة يذهب بك إلي الماضي البعيد،وفي اللحظة نفسها، يطوح بك في المستقبل القريب،أو الحاضرالآني.بشكل يبهرك،ويجعلك مشدوها إلي استكمال الرواية بشغف ونهم. تدور الرواية حول شخصية رئيسة، يتجمع حولها شخصيات ثانوية تتفاعل مع الأحداث بلا رابط مشترك، وبلا صراع حقيقي يربط بينها، وبلا شكل تقليدي للرواية المتعارف عليها. يقدم الغيطاني للشخصية الرئيسة مقدمتين: الأولي علي لسان أبناء الحارة حيث "يؤكد الأهالي أنه سيري القيامة بعينيه، ولد من بطن أمه نابت اللحية، تكلم القرآن قبل خروجه من الرحم، ماتت أمه بمجرد ولادته». الثانية: يستخدم فيها ضمير المتكلم، راسما له صورة أشبه بالكاريكاتير،"إنه قصير القامة إلي حد لا يتجاوز معه طول طفل في الثامنة، ضيق الكتفين، عريض الحوض، يغوص رأسه حتي لا تبدو له رقبة... وجهه بيضاوي...جلده مترهل. يخيل للناظر إليه أنه لو مد يده وأمسكه فيستطيل معه إلي ما لا نهاية كالحلاوة السائلة.." هذا هو الشيخ عطية بطل الوقائع، وكاتم أسرار الحارة، رجالها ونسائها، مهيمن علي القلوب والعقول، يعرف هل زار الرجل امرأة، ومتي؟ وكيف؟ وما تم في اللقاء؟ يعرف.. كأنه شاهد حضور بينهما. فكشفت الشخصيات عن مكنوناتها الباطنية، وبدا المخفي ظاهرا جليا،ودار صراع باطني بين الشخصيات سرعان ما انقلب إلي وقائع حربية فيما بينهم، وتناقلت وكالات الأنباء أحداث حارة الزعفراني لحظة بلحظة، ولم يعرف من الناجي من الطلسم،حتي نهاية الرواية. والعجيب أن الغيطاني أراد أن ينتصر المشعوذ في النهاية، ويصيب أحد أعدائه بالتجمد والتحجر،فيجعله مسخوطا يسمع أنينه.