أسعار الخضروات في سوق العبور للجملة اليوم الأحد 11 مايو    السيطرة على حرائق المستودعات النفطية في بورتسودان    بعد وقف إطلاق النار.. ترامب: أمريكا ستزيد التبادل التجاري مع الهند وباكستان    الرئيس الأمريكى يُشيد بالمحادثات التى جرت بين بلاده والصين فى سويسرا    برشلونة يستضيف ريال مدريد في كلاسيكو الأرض    أخبار مصر: حظر تشغيل الموظف أكثر من 8 ساعات، ذروة الموجة الحارة اليوم، أولمرت: غزة فلسطينية، نجل فنان شهير يدهس موظفا بسيارته    اليوم.. نظر محاكمة المتهمين بقضية خلية النزهة الإرهابية    مواعيد عرض مسلسل أمي على منصة شاهد    هل تصح طهارة وصلاة العامل في محطة البنزين؟.. دار الإفتاء تجيب    استقالة مستشار الأمن القومى السويدى بعد يوم من تعيينه بسبب صور فاضحة    مع استئناف جلسات «قانون الايجار القديم»: خبير عقاري يشرح فوائد إعادة فتح الشقق المغلقة    تشكيل ريال مدريد المتوقع ضد برشلونة اليوم في الليجا    حظك اليوم الأحد 11 مايو وتوقعات الأبراج    تشكيل ليفربول المتوقع ضد آرسنال اليوم.. موقف محمد صلاح    هل للعصر سنة؟.. داعية يفاجئ الجميع    لأول مرة.. نانسي عجرم تلتقي جمهورها في إندونيسيا 5 نوفمبر المقبل    أسعار الذهب اليوم الأحد 11 مايو في بداية التعاملات    اليوم.. انطلاق التقييمات المبدئية لطلاب الصفين الأول والثاني الابتدائي    صنع الله إبراهيم يمر بأزمة صحية.. والمثقفون يطالبون برعاية عاجلة    سعر الذهب في مصر اليوم الأحد 11-5-2025 مع بداية التعاملات    إخلاء سبيل ضحية النمر المفترس بالسيرك بطنطا في بلاغ تعرضه للسرقة    الدوري الفرنسي.. مارسيليا وموناكو يتأهلان إلى دوري أبطال أوروبا    بالتردد.. تعرف على مواعيد وقنوات عرض مسلسل «المدينة البعيدة» الحلقة 25    في ظل ذروة الموجة الحارة.. أهم 10 نصائح صحية للوقاية من ضربات الشمس    سعر الموز والخوخ والفاكهة بالأسواق اليوم الأحد 11 مايو 2025    «جودة الحياة» على طاولة النقاش في ملتقى شباب المحافظات الحدودية بدمياط    هاني رمزي: من المبكر تقييم النحاس مع الأهلي.. وأتوقع فوز بيراميدز على الزمالك    تامر أمين بعد انخفاض عددها بشكل كبير: الحمير راحت فين؟ (فيديو)    ما شروط وجوب الحج؟.. مركز الأزهر للفتوى يوضح    وزيرة التضامن: خروج 3 ملايين أسرة من الدعم لتحسن أوضاعهم المعيشية    بوتين: أوكرانيا حاولت ترهيب القادة القادمين لموسكو لحضور احتفالات يوم النصر    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الأحد 11 مايو 2025    انطلاق النسخة الثانية من دوري الشركات بمشاركة 24 فريقًا باستاد القاهرة الدولي    "التعليم": تنفيذ برامج تنمية مهارات القراءة والكتابة خلال الفترة الصيفية    الأرصاد تكشف موعد انخفاض الموجة الحارة    كارثة منتصف الليل كادت تلتهم "مصر الجديدة".. والحماية المدنية تنقذ الموقف في اللحظات الأخيرة    إخلاء عقار من 5 طوابق فى طوخ بعد ظهور شروخ وتصدعات    إصابة شاب صدمه قطار فى أبو تشت بقنا    سامي قمصان: احتويت المشاكل في الأهلي.. وهذا اللاعب قصر بحق نفسه    إنتهاء أزمة البحارة العالقين المصريين قبالة الشارقة..الإمارات ترفض الحل لشهور: أين هيبة السيسى ؟    وزير الصحة: 215 مليار جنيه لتطوير 1255 مشروعًا بالقطاع الصحي في 8 سنوات    رسميًا.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي وطريقة استخراجها مستعجل من المنزل    مصابون فلسطينيون في قصف للاحتلال استهدف منزلا شمال غزة    المركز الليبي للاستشعار عن بعد: هزة أرضية بقوة 4.1 درجة بمنطقة البحر المتوسط    «التعاون الخليجي» يرحب باتفاق وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان    حكام مباريات الأحد في الجولة السادسة من المرحلة النهائية للدوري المصري    محافظة سوهاج تكشف حقيقة تعيين سائق نائباً لرئيس مركز    ضع راحتك في المقدمة وابتعد عن العشوائية.. حظ برج الجدي اليوم 11 مايو    وزيرة التضامن ترد على مقولة «الحكومة مش شايفانا»: لدينا قاعدة بيانات تضم 17 مليون أسرة    في أهمية صناعة الناخب ومحاولة إنتاجه من أجل استقرار واستمرار الوطن    أمانة العضوية المركزية ب"مستقبل وطن" تعقد اجتماعا تنظيميا مع أمنائها في المحافظات وتكرم 8 حققت المستهدف التنظيمي    «أتمنى تدريب بيراميدز».. تصريحات نارية من بيسيرو بعد رحيله عن الزمالك    خالد الغندور: مباراة مودرن سبورت تحسم مصير تامر مصطفى مع الإسماعيلي    أبرزها الإجهاد والتوتر في بيئة العمل.. أسباب زيادة أمراض القلب والذبحة الصدرية عند الشباب    تبدأ قبلها بأسابيع وتجاهلها يقلل فرص نجاتك.. علامات مبكرة ل الأزمة القلبية (انتبه لها!)    منها «الشيكولاتة ومخلل الكرنب».. 6 أطعمة سيئة مفيدة للأمعاء    رئيس جامعة الأزهر: السعي بين الصفا والمروة فريضة راسخة    وقفة عرفات.. موعد عيد الأضحى المبارك 2025 فلكيًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأصالة والمعاصرة في أعمال جمال الغيطاني

الحداثة المطروقة والمعدة للسباق باتجاه ما هو "جديد"، كانعكاس للتجديد والتغيير المستمر تلبية لقوانين السوق وإرضاء لذوق الجمهور المتغير خلال النصف قرن الأخير، كانت حداثة ناقصة وسطحية، ومحكوم عليها بالزوال والتواري كزوال السراب السريع، ولو أضفنا إلي ذلك الوضع المتردي للثقافات الهامشية في مواجهة مراكز الإنتاج الثقافي الكبري في الغرب والجهود المبذولة لمحاكاة بعض مبدعيها البارزين - وهو شيء مشترك بين أسبانيا والدول العربية، رغم الفوارق بينهما - لذلك تعثر علي أوضاع متشابهة علي جانبي المتوسط، كتلك التي عبر عنها "Vicente Liorens" في كتابه عن القرن التاسع عشر: "مجهود طويل وشاق للوصول إلي روح الزمن، وعندما يبدو أن الهدف قد تحقق، نجد أن هذه الروح قد أخذت طريقا آخر، من هنا تأتي البلبلة والغموض الأبدي وتواصل تخلف ثقافتنا، التي لاتعايش العصور الحديثة من خلال وضع قلق فقط، بل بحركتها المستمرة خارج الزمن".
أعمال جمال الغيطاني مثلها مثل أعمال الكاتب التركي :اورهان باموك "Orhan Pamuk" تهرب من شراك الخطاب المتكرر (التبني الأعمي لقوالب واقعية القرن التاسع عشر) والتأثيرات المبالغ فيها لكتاب أساسيين، من السهل تقليدهم (كافكا وفوكنر وجارثيا ماركيز) وكذلك تتفادي الوقوع في شراك دوامة الطليعية التي تستهلك نفسها دون فائدة ترجي منها، وبعيدة عن خطر الجماليات المكونة عبر تراكمات فنية وأدبية متعالية من الإبداعات ذات الدسامة المترهلة، فهو تماما مثل باموك وموقفه من استنبول، الغيطاني "يقرأ" القاهرة، كنظام يولد ماضيه الخاص، وهو ما يجعله يمتلك إمكانية مواجهة الحاضر بطريقة متوافقة مع الزمن تماما: (انظر لوري لوتمان Luri lotman، سيموطيقا المدينة). وتماما كمؤلف "الكتاب الأسود" الذي يتناول التراث العثماني الثري الخبيء، فالغيطاني يجذر شجرة أدبه في التراث العربي الثري، خاصة كتابات المؤرخين، والأدب المترامي والمجهول في عالم التصوف.
في كتبه عن العظمة المصرية، يحاول الغيطاني فك رموزها كما لو كانت طلاسم، فيمر من خلال الحاضر إلي الماضي، ويعيد تحديث الماضي، يلعب باللا تاريخي، ويكشف عن قدم ما بين يديه علي انه جديد واستحالة استمراره. كنت قد عرضت من قبل رؤيتي النظرية والعملية في نص المدينة، وكذلك الخصوبة التركيبية للكلمتين، والروائي المصري يعتبر نموذجا ممتازا ل "محاولاته المستعصية" كحيوان حضري". يقول "حياتي ملتصقة بالقاهرة... فقد وزعت أوقاتي ما بين الشوارع والحارات والطرقات والمساجد والفضاء... وشكلت.. الطلال.. والملامح والعتاقة القاهرية اركانا أساسية في وجداني وتكويني الروحي.. ان النواحي القاهرية والمباني والأزقة والاقببة مسكونة بالحنين والحكايات المتوارثة إلي جانب المصائر البشرية وفيها كان احساسي بالزمن".
ومتوازيا مع هذا التدريب الممتع للقراءة الحضرية القريب في وجوه متعددة منه من "والتر بنجامين Walter Benjamin"، عرف الغيطاني كيف يصنع لنفسه نسبا أدبيا تمتد فروعه إلي مؤلفين متباينة اتجاهاتهم، كالمؤرخ ابن اياس والشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، وذلك من خلال رؤية متكاملة مع الماضي والتي ندركها اليوم علي أنها تعبير أدبي وفني خاص بنا مع اقتراب نهاية القرن العشرين، يتأمل الغيطاني بنجاح انه في كل مغامرة فنية أيا كانت في الشعر أو النثر أو النحت أو العمارة لابد أن تقوم دائما علي إرث وتراث، وذلك بعد هضمها يمكن الانطلاق نحو التحقق من جديد". وكانت نتيجة هذه الرؤية كتب عديدة له منها "كتاب التجليات"، الذي يتعايش فيه الكاتب مع تجارب للصوفي المرسي في البرزخ - متون الأهرام - الذي نقدمه اليوم كنموذج علي قدرته علي طرح هذه الرؤية.
التعرف علي مسيرة العمل الروائي للكاتب جمال الغيطاني تتطلب رؤية متكاملة، ولحاجتنا إلي ذلك، سأحاول التعمق في بعض وجوهها الأكثر إشراقا.

ظهور رواية "الزيني بركات" الرواية الأولي للكاتب جمال الغيطاني يمكن اعتباره اليوم، كحدث كبير: اقتحام للرواية العربية التي نشعر بها كتعبير أدبي عن النهاية الفرعية لهذا القرن، تعبير أدبي، لا يرتبط بتقاليع أو طليعية مفترضة بل جاء كثمرة لامتزاج العناصر التي تشكل شيئا فشيئا العالم الهاجسي لرؤية قدرته الإبداعية المتسعة والحادة، فإذا كان المنهج البدائي للكاتب يجرب معارف مهضومة جيدا لجماليات متفرقة مكانية - زمنية ولأصوات روائية متعددة لبعض الكتاب الغربيين الرافضين للفرضيات المسبقة وقوانين أسواق النشر، فان روايته لاتعتمد علي الاشكال الأوروبية ولا الأمريكية اللاتينية - من كافكا إلي جارثيا ماركيز - كما هو معروف في هذه الحالة، بل يعتمد منهجا بنائيا نابعا من التراث العربي الثري في أدب الرحلات والروايات التاريخية كاشفة عن نضج وتناسق وبهجة مدهشة، وذلك علي خلاف العديد من الأعمال الروائية والشعرية المنتشرة في لغات أوروبية مختلفة جرت كتابتها لهدف نبيل لكنها تعتبر ممارسة عقيمة، لأنها ليست سوي إعادة ترجمة للمصادر التي استوحتها، فقراءة "الزيني بركات" في اللغة الأسبانية، من خلال الترجمة الدقيقة للمستشرقة "ميلاجروس نوين مونريال"، هذه القراءة لا تعدنا لخطاب مكرر تلعب فيه ألوان المكان: علي العكس من ذلك، تكشف لنا عن البحث عن تعبير جديد وخاص، يتغذي من الجذور العميقة الرائعة للأدب العربي.
وقائع "الزيني بركات" تحدث في مصر فيما بين 912 و 922 هجرية (1507 - 1517 ميلادية) والتي شهدت انحطاط الفترة المملوكية وهزيمتهم النهائية علي يد الغازي العثماني ومصادر الرواية التاريخية معروفة: بعضها سابق علي الفترة التي تقصها الأحداث، مثل تاريخ المقريزي، ومصادر أخري معاصرة للحدث، مثل "تاريخ مصر لابن اياس". ويمزج الغيطاني في الرواية شخصيات حقيقية، مثل الشخصية التي تحمل الرواية اسمها، بشخصيات أخري من وحي خياله، وأمانته في رواية وقائع ذلك العصر لاتعيقه عن ممارسة حرية التخيل، وهكذا، نجد أن المقاطع التي يختارها من شخصيته المتخيلة للرحالة الفينيسي "جييانيتي" الذي زار القاهرة عدة مرات في ترحاله في العالم الأفريقي الآسيوي مع بدايات القرن السادس عشر تساعدنا علي فهم الواقع الاجتماعي والسياسي لمصر المملوكية، لكنها تزيد من صعوبة فهم القاريء للأحداث نظرا لعدم النسق المتعمد للوقائع حسب ترتيبها التاريخي (922، 914، 917، 922، 913 هجرية)، وطبقا لجماليات التشتت، فإن النصوص المتضمنة في الرواية مكتوبة بضمير المتكلم والراوي الذي يقص الحدث من الخارج، وهذا الجانب الأخير تدور حول الشخصيات الرئيسية عدا شخصية الزيني (الطالب سعيد الجهيني، زكريا ابن رياض، رئيس بصاصي السلطان، الشيخ أبوسعود، والبصاص عمرو ابن العدوي) الأجزاء الأولي تعتبر رسائل لزكريا من خلال أوامر سلطانية وإعلانات وتقارير سرية وأحكام قضائية للسلطة الدينية، وخطب منبرية، ورسائل مرسلة بالحمام الزاجل، ووثائق غاية في السرية، ووقائع خاصة بديوان زكريا الخاص عن النصر علي العثمانلية، الخ، وهذا المجموع من الأصوات والسجلات التي تحتويها الرواية تقدم شكلا سيمفونيا موسعا حيث نجد درجات صوت السلطة الرصين - مقدمو البوليس، ورسائل البصاصين، والرسائل الرسمية - تتبادل مع الأصوات الجميلة للأصوات الرقيقة لمعاني رسائل السلطة إلي العامة: تعدد النغمات طبقا لمعناها عند "باخ"، أنها لحن يداعب أذان القاريء ويدعوه لترديده بصوت مرتفع.
تجزيء الرواية يجبرنا علي العودة إلي الوراء: لاعادة القراءة الخصبة. وهذه القراءة وحدها تسمح لنا استعادة طريق الصعود الصعب إلي السلطة الذي ساره الزيني بركات، محتسب القاهرة، الذي استقبله الشعب استقبال الأبطال بعد سقوط المحتسب السابق عليه والتعذيب البشع الذي لم يسبق له مثيل الذي تعرض له، وذلك بعد صدور الأمر السلطاني لتعيينه وتصريحاته باسم العدالة التي أقلقت رئيس البصاصين في السلطنة زكريا ابن راضي. فالصراع بين الرجلين يسبق بشكل ما العمود الفقري للرواية، شيخ الجامع الأزهر أبوسعود وتلميذه سعيد الجهيني كانا يثقان في توجهات الزيني الطيبة، ولذلك كانوا محط أنظار البصاص عمرو ابن العدوي التلميذ الأزهري الذي اخترق المكان لحساب زكريا ابن رياض، وبعد كل هذا فإن الأحداث التالية تتولي الكشف شيئا فشيئا عن الطموح والغباء واللعب المزدوج للزيني، تحالفه الاستراتيجي مع رئيس بصاصي السلطنة وصعوده المتواصل إلي المراتب الهامة والحساسة في السلطة. حب السلطة الذي لايعرف أي نوع من أنواع الوفاء، وأشياء أخري كهزيمة السلطان الغوري علي يد العثمانلية، وتثبيت الزيني في موقعه من السلطة علي يد الغزاة، والعالم الذي وصفه الروائي هو عالم الزعزعة والتغيير الدائمين، يرافقهما كما يقول: في الهواء ذمته، أهو الدخان الذي يظهر قبل قيام الساعة؟
الجند الغرباء يغتصبون الأبكار علي باب جامع المؤيد، ما الذي بقي اذن؟
يطول الليل، يصحو القوم فلا يلقون إلا ظلاماً مستمراً عتيماً. أول خيوط الضوء تدير العقول، ما الذي بقي إذن؟، وهو المعادل الموضوعي المصري للضجيج والغضب الشكسبيريين.
اختيار بطلين علي شاكلة زكريا ابن راضي والزيني بركات يغرق قاريء الرواية في قاع السلطة: سلطة فاسدة ديكتاتورية لغتها و "ايدلوجيتها" الدينيتين تخفيان ركائزها الحقيقية، القمع المفروض علي عامة الشعب - هذه "الغوغاء" أو "القطيع الذي يتجه إلي حيث يقودونه" - وذلك من خلال التجسس، والخطف والتعذيب والسجن ونشر الرعب العام، وشخصية زكريا ابن راضي، الحذرة داخليا وخارجيا بفضل الرسائل والتقارير السرية، شخصية ذات ازدواجية ومراوغة، تتمتع بالمكر والدهاء والذكاء لها قدرة علي السيطرة علي الآخرين، وتتميز بقوة مغناطيسية تجذب القاريء لتشابهها بشخصيات تاريخية اكثر قربا منه: قيادات ومنظمو هيئات تتمتع بنفوذ واسع كما كان "كي . بي. جي" أو علي درجة أعلي من التميز كما كان الحال في "سي. أي. إيه" علي أيام فوستر دلاس. زكريا ابن راضي قبل لقائه الفاصل بالزيني كان يقيم سلطته علي ركيزة الرعب المليء بالتعذيب والسجون، العنف الملتصق بسلطته يسيطر علي حياته بالكامل. ومسكن ملذاته النيلية عبارة عن سجن كبير تحت الأرض.
"تقدمه المشاعل مبروك، لايذهبان إلي السجن إلا نادر مرات قليلة خطا فوق الممر المعتم الضيق، في نهايته تجاويف صغيرة في الجدران الرطبة المبللة اللزجة، تضيق الفجوة بقاعة الانسان، السجين يضطر إلي اضاء ظهره عند الوقوف حتي لايصطدم رأسه بالسقف غير المستوي".
و"الفلسفة" المهنية لزكريا، قائد هذا العش الصغير بحرسه الأخرس، والعقاب الجسدي والقتل المجاني، يرتكز في جملة يمكن أن تكون اكثر التصاقا بشخصيات كتلك التي حكمت أسبانيا من خلال محاكم التفتيش".
وهكذا بدلا من بتر الانسان حيا أحوله وهو يمشي علي نفس قدميه ويحرك ذراعيه ويتحدث بلسانه فيناديه الناس باسمه لكنه في الحقيقة شخص آخر وانسان ثان..
بعد ذلك، تزداد مناهج زكريا إحكاما باتباعه لنصائح الزيني صاحب أتباع الطرق الأكثر تقدما والأكثر نجاعة في التعذيب، وخلال خطابه أمام اجتماع البصاصين القادمين من جميع أنحاء العالم، سيلاحظ مثل بطل :الصفر واللانهاية" أن: لحظة الضرب أو التعذيب نفسها لاتؤلم يا ممثلي سير الكون، إنما ما يؤلم انتظار الانسان لهذه اللحظة بعينها.. عند تعذيب شخص ما الذي ينتظره اكثر من هذا؟ لكن المهم أن يعتبر في انتظار دائم هذه اللحظة..".
رغم أن رئيس البصاصين في السلطة يتراجع دائما أمام الضغوط العنيفة - اغتصاب وقتل شعبان غلام السلطان المقرب أو "وسيلة" عشيقته هو شخصيا - بسبب شكه فقط في انهم "عملاء مزدوجون" - فإن موهبته تدفعه إلي تخيل عالم مستقبلي متشابه بشكل كبير مع اليوتوبيا المرعبة لزماياتين واورويل. وبعودته إلي هذه الفترة الزمنية التي تزيد علي أربعة قرون، فان الغيطاني يكشف هدفه: استمرار الرعب والقمع الظلم، وقدرة الإنسان علي اكتشاف أشياء علمية وتقنيات فنية لكنها تتعارض مع مفاهيمه وقيمه، فالقمع الذي يفرضه الحكام المصريون علي الشعب المسلم المؤمن لايختلف كثيرا عن ما فرضته محاكم التفتيش الأسبانية علي أولئك الذين تم تنصيرهم بالقوة ولايختلف عن ما توصل إليه ستالين من فنون التعذيب والعقاب.
يتفاخر زكريا بأنه عين وأذن السلطان:
آلاف من الرجال والنساء والاطفال......
وباقي الجيران، فانه يعلم بها علي الفور".
إضافة إلي تشوقه إلي إقامة مدينته الفاضلة التي وصفها الفارابي وتوماس مور، تلك الأفكار تطارده وتحاصره وتسكن لياليه وتحرسه طوال يوم عمله، تماما كمنافيه الذين يحلمون بأدوات وتقنيات ما كان لها أن تتحقق لسوء حظنا إلا في القرن العشرين، إنها كابوس حقيقي:
.. إنني أري يوما يجيء فيمكن للبصاص الأعظم أن يرصد حياة كل انسان منذ لحظة ميلاده حتي مماته ليس الظاهر فحسب، إنما ما يبطنه من خواطر، ما يراه من احلام، لهذا نرصد كل شيء منذ مولده، نعرف اهواءه ومشاربه بحيث نتنبأ بما سيفعله في العام العشرين من عمره مثلا، فنستطيع منعه أو دعمه قبلها وإذا ما سئل انسان عن الحقيقة الأولية فانكرها يمكن للبصاص استعادة الموقف كاملاً من الزمن فيواجه به من أنكر، أري يوما يجيء فيمكن للبصاص استعادة الموقف كاملا من الزمن فيواجه به من أنكر..".
سنعمل جميعا للتوصل إلي تحويل الإنسانية جميعها إلي بصاصين".
إنها أحلام حققتها محاكم التفتيش تماما كالتي وصفها "جيلمان" عندما أعاد تشكيل المناخ العائلي المحيط ب كفرناندو روخاس" والتي كانت بمثابة العمل الروائي الكبير حول المجتمعات الشمولية التي قامت في قرننا - الذي يوشك علي الرحيل: رقابة إلكترونية للمواطنين يطلقون عليها اسم المجتمعات الديمقراطية - التي لاتتردد في استخدام تلك الأدوات الحيوية لتحقيق التجارب العلمية - ممارسة القمع تحت اسم تحقيق المساواة أو العنصرية - كما في الاتحاد السوفيتي أو ألمانيا النازية - واستخدام أشكال أكثر تطورا في التعذيب في الأنظمة الدكتاتورية، من أول تروخيو إلي العصبة الأرجنتينية إلي ماثياس نجيما وتيودور اوبيانج في غينيا الاستوائية، هذا علي سبيل ذكر القليل من الأمثلة - بينما كان الفارابي وتوماس مور تصورا المدينة الفاضلة من خلال الإيجابيات، وثقة حازمة لاتقبل الشك في تنمية وتنقية القدرات الأخلاقية للبشر، فإن جمال الغيطاني يبدو اكثر شكا في النيات الطيبة والجادة أو المفترض أنها جادة في هذا الاتجاه والتي تترك مكانها للممارسة الواقعية التي تؤكد عكس ذلك وهو ما يكشف عنه تطور حياة الزيني بركات البشرية عندما تتمرد ضد القمع المسيطر عليها، تفعل ذلك من خلال تطلعات نبيلة، لكن حركتها سرعان ما تنجب أنظمة قمعية وخانقة جديدة، هذا التشاؤم في رؤية توجهاتنا يعبر عنها تشومسكي بقوله: "أنها برمجة جينية"، والتي لامهرب منها كما سنري فيما بعد إلا بالتصوف، الذي يجمع بيننا وبين "حديقة الحيوانات" وبين مؤلف "القوادة".
إن لقاء وتمازج تطلعات رئيس بصاصي السلطنة بتطلعات محتسب القاهرة يعتبر تحالفا قاتلا للآمال التي علقها الشعب والطبقة الشريفة علي المحتسب، وتوثر بشكل عكسي يتعلق رئيس البصاصين بأشكال جديدة ومتطورة من القمع والسيطرة.
يقول الزيني: "أساس عملنا إرساء الأمن.. والعدل في ربوع السلطنة وسأقصر حديثي الآن علي دائرة اختصاص (القاهرة والوجه البحري الذي أضافه السلطان إلي نظارة حسبتي أخيراً، أما فيما يخص ربوع الشعر فهذا أمر أنت عليم به، خبير فيه، ولا أقر عليه، وحتي يستقر العدل في ربوع مصر لابد من اقامة اسس قوية ودعائم متينة... سواء عن طريق العامة أو رجال الدين".
بينما كان الزيني ينمي وبإحكام صورته كرجل صالح ومتواضع لا يخاف إلا الله، كان يحرك بمهارة احترام نائبه زكريا عبر الاعلانات العامة والبصاصين وعبر صخب المؤمنين بالمسجد: "زيني، زكريا قواكما الله وحماكما" وحقيقة هذا التحالف غير المقدس نجدها في جملة علي لسان زيني في اليوم الذي يكتشف فيه اللعبة ويوقع الاتفاق مع غريمه:
"أنت، كنائب للحسبة ولي في جميع ما أتولاه من مناصب (قررت هذا أخيراً.. ومما يلحق بي اليوم يلحق بك غداً وما يمسني يمسك".
هذا اللعب بالمصالح في "في المياه الباردة للحساب الأناني لايعرف الوفاء علي الإطلاق، ورع وغيرة الزيني وزكريا في خدمة السلطان الغوري والأمراء المماليك تنتقل عبر أتباعهم بلا مواربة، وعندما يتم احتجاز الزيني وتجريسه علي يد الشيخ أبو سعود ومريديه كعقاب عادل لتجاوزاته وفساده ونفاقه، يحرك زكريا جيشه من المنادين والبصاصين لرفض الخطأ الذي وقع فيه وإعلان الولاء للرجل "المستقيم العادل" الزيني واتهام الشيخ قطب الشرفاء بكل أنواع الاتهامات والجرائم، ويعلنون مكافأة لكل من يسلمه حياً.
في وسط كل هذه الأحداث التي تجري حول الوقائع المروية في الرواية، نجد شخصية سعيد الجهيني تلميذ ومريد الشيخ يقع في حب ابنة الشيخ، وهو ما يمثل استثناء مضيئا، فهو تلميذ حساس تجاه دعوة القطب - "يا الهي، اجعل حكامنا من أفضل رجالنا وليس من أسوأهم" يحلم بعالم منعتق من الدكاتورية البؤس، لاتكون فيه عيون الأطفال :وطنا للذباب".
يثق سعيد الجهيني بداية في توجهات الزيني فيسر إليه بأحلامه قبل أن يقنعه هذا بازدواجيته، ولكن النتيجة النهائية المؤلمة التي يصل إليها إن "الظلم كنار المجوس الأبدية"، لايتراجع أمام خطر مقاطعة خطبة المسجد ويتهمه بالنفاق، والكوابيس التي سيعانيها لاتخرسه، وتعلقه الجميل بالشهيد الحسين ابن المنصور الحلاج، هي بذرة الفريضة الأخلاقية في مواجهة تدمير التاريخ الذي ينمو وتصل إلي أن تكون الشجرة الظليلة في أعمال الغيطاني الروائية التالية، من "كتاب التجليات" الذي لم يترجم بعد إلي أي لغة أوروبية إلي أحدثها "منون الأهرام".
"الفضيلة تظل خبيئة والعربدة والشر مكشوفان بكل فجور. أين المفر؟ أي الطرق نسلك؟" قاريء الزيني بركات لايجد إجابة شافية لأسئلة سعيد، والغيطاني لايحاول الإجابة عنها. إضافة إلي النقد الواضح الصريح في مسيرته الروائية الثرية التي تتفق مع ما طرحه قبل ربع قرن المعلم الخالد امريكو كاسترو، في المراسلات التي جرت بيننا: "الثقافة العلمية الغالبة اليوم، لاتوازيها أي ثقافة أخلاقية".

"وقائع حارة الزعفراني" تبدو لأول وهلة كرواية مقلدة لروايات نجيب محفوظ: تتجسد فيها كل عناصر رواياته المعروفة، سكان الحارة - شخصياته الكثيرة عبارة عن عينات لشخصيات الحارة - يلعبون أدوارهم في بطولات جماعية، ووحدة المكان - بيوت القاهرة القديمة المتعرجة - تمثل النواة التي بتدأ منها الحكاية، المقهي الشهير والمشاجرات والحسد بين الجيران، والشخصيات التي تمثل جميع طبقات الشعب المصري - حتي أكثرها شذوذا وغرابة - تجد مكانها بسهولة في الفراغ الروائي الحميم، ذلك الفراغ الذي يضاف إليه التشويه الذي أصابه بسبب الحلقات التليفزيونية التي تدعي تقديم المناخ الشعبي القاهري.
في الحقيقة فإن ملامح سكان الحارة والواقعية التي تصف تفصيلاته يمكن القول انه ديكور معد مسبقا بالرواية، واستخدمه العديد من كتاب السيناريو غير الموهوبين، لكن الغيطاني يدخل واعيا طرقا مطروقة ويضع حكايته في أشكال واضحة المعالم، لكن، نكتشف علي الفور انه يتعامل مع القواعد الظاهرية للرواية لكنه يضيف إليها عناصر تفجرها وتكشف تخلفها الواضح واختلافه معها، انه "الوهم الواقعي" الذي يفضي في الإحباط في الوقت نفسه يكون "الوهم" الذي نحاول الكشف عن طبيعته.
توزيع أدوار شخصيات الرواية يخضع، طبقا للمشروع الروائي الواقعي، لذوق وتطلعات مريديها، لو تابعنا مثلا قائمة لبعضهم: تكرلي الموظف الحكومي، الذي يعيش علي مفاتن زوجته إكرام، وداتوري، صاحب المقهي، الذي يسكنه حلم بناء عمارة حديثة وتأجير شققها، وبنان وزوجته، ضحايا ذكري الابن الغائب، وعاطف، الجامعي بروحه الجريحة بسبب طلاق وهروب زوجته رحمة، وقرار، الموسيقي بحمل الرغبة في حلم الشهرة المفتقدة، ورأس الفجلة، بائع التحف الثري ومحل السخرية والحسد بسبب تركيبه الجسماني المشوه وزواجه من الصبية الجميلة فريدة، ورمانة، المثالي المسجون لفترات طويلة بسبب نشاطه الشيوعي، وحسن أنور، مستخدم الملكية القديم، الذي تنتهي به أسطورته كفارس عسكري إلي التهميش، وعويس، جبار الصعيد المتواضع، الذي يستغله صاحب.... لإرضاء زبائنه المفضلين... إنها عينة لها دلالاتها الخاصة جدا، وساكن الحارة الوحيد الذي لم يصفه الكاتب هو صاحب الشخصية الأساسية في الرواية، الذي يحرك الخيوط من خلف الستار، ويرسم المصير المأساوي الساخر للآخرين: انه الغامض - نبي، منقذ، ثرثار، عراف؟ - الشيخ عطية، يخفيه الغيطاني عن أعين المتطفلين ولايسمح لنا إلا بسماع رسائله عبر وسيط مشكوك فيه وفي أمانته.
الأسلوب الذي اختاره المؤلف - تعدد وجهات النظر، وجمعية الخطاب، إعادة نشر مذكرات ووثائق سرية - تخفف عن قصد من سرعة إيقاع الحدث. كما لو كان الغيطاني وضع في حسباته النصيحة الجيدية (نسبة إلي اندريه جيد) التي ذكرها في "يوميات حوافظ النقود المزيفة": لا يجب أبدا استغلال السرعة التي يفرضها وقع الكتابة. بعد أن يتم عرض الكلمة أو وضع خطوط ممثلي الدراما المختلفة، يعود إلي نقطة البداية، ولايضيف سوي ما يمثل تعددا: باستخدام بناء دائري تقترب ذروته كما في تجسيد نغمات "رقصة رافيل" الشهيرة.
الحدث الذي يزعزع الوجود الهش لسكان حارة الزعفراني - كما لو كانت أحجارا ألقيت إلي مائها الساكن فتنتشر دوائر أمواجها رويدا رويدا وتصل إلي أقصاها علي هيئة مرعبة - هو حدث غريب ومقلق في الوقت نفسه: كل سكان الحارة يفقدون قدرتهم الجنسية. يتوقف الأزواج عن القيام بواجباتهم الزوجية، عشاق اللحظات العابرة أو عشاق التسرية يغرقون في خوفهم ويكتشف صبي الحمام عدم قدرته علي الوفاء بطلبات زبائنه الذين يحاصرونه. المصيبة التي حلت بهؤلاء الضحايا تتكشف رغم الحرص الشديد علي كتمانها. فتسوء العلاقات الزوجية وتتحول إلي شد دائم والزوجات المهجورات تندبن حظهن والهمسات تنتشر وتنتقل إلي الأحياء الأخري، وأصل الشر يتعلق بسبب غير طبيعي ولا سبيل إلي الشفاء منه، لكن يمكن تفاديه سرا لأنه من سحر الجبار الشيخ عطية، الأمل في الشفاء قائم لان العجز مفروض كعقاب يقع علي الذين حادوا عن "الطريق القويم" وساروا في طريق الرذيلة، ويمكن للشيخ أن يوقف مفعوله لو اتبعوا أوامره وساروا في طريق الفضيلة. عويس، صاحب الحمام يصبح المنادي الذي ينقل أوامره ويبلغ طلباته. ضحايا السحر يتبعون خانعين كل علي طريقته الأوامر الجديدة. يعتقدون أن الشيخ مطلع علي أسرارهم عبر الحوائط، ويسمع همساتهم، ويتنبأ بأفكارهم، يقرأ ما في صدورهم. لا أهمية من أن تكون أوامره متعسفة أو عبثية: فرض حظر التجول، الساعات المحددة لتناول الطعام، التفريق بين الجنسين. الخضوع لقائد العهد الجديد يزداد حتي يخرج عن نطاق الحارة: من تطأ قدماه الحارة، لاتمر عليه دقائق حتي يصاب بالعجز مثلهم ولا تستطيع الأدوية المستوردة من أوروبا أو الولايات المتحدة أن تعيد إليه انتصابه ولا القدرة علي القذف. وما أن انتشر النبأ المأساوي في كل القاهرة حتي وجد سكان حارة الزعفراني أنفسهم محاطين بحجر صحي خفي، كما لو كان قد أصابهم الطاعون أو تم وضعهم في حجر صحي: لم يعد يدخل حارتهم لا ساعي البريد ولامحصل البوتاجاز ولامحصل الكهرباء، ولم يعد يقبل علي حارتهم الباعة الجائلون، ولم يخاطر بزياراتهم لا الأصدقاء ولا الأهل ولا الأقارب. وتسري إشاعة تتحدث عن وجود شخص واحد لم يطبق عليه عقاب العجز الجنسي، وهذا يطلق عنان الغيرة والاتهام بالخيانة المتبادلة بين الرجال، ويفتح الباب أمام فضول الزوجات للبحث عنه والتعرف عليه والتمتع معه بالمغامرة. فتنتهي بعض الزيجات بالطلاق، النساء المهجورات يبحرن في رغباتهن والرجال المهانون يلتهمهم الضياع.
طبقا للبناء الروائي الدائري للمؤلف، فان نتائج العقاب تنتشر وتخرج عن السيطرة،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.