د. فوزى فهمى طلب صاحب العمل من الرجل الذي يعمل عنده، أن يحمل السلة المملوءة بحبات التين التي أعدها ومعها الورقة المرفقة، ويسلمهما معاً إلي الشخص الذي حدد اسمه وعنوانه. في الطريق انفتحت أمام حامل السلة إغراءات الاستباحة لما يحمله، إذ الاستباحة لا تعترف بالحدود المغلقة، المحروسة بالحقوق، بل إنها تمارس إرغامها واجتياحها، تغذيها أوهامها، انطلاقاً من أن الأوهام سلطة غواية مطلقة، لذا التهم حامل السلة الجزء الأكبر من حبات التين الذي يحمله، وراح بعدها يتابع طريقه إلي وجهته. عندما تسلم الشخص السلة الموجهة إليه، ثم اطلع علي الرسالة المرفقة، وتفحص السلة، ولم يعثر علي الكمية المبينة بها، عاود قراءة الرسالة ليستوثق مما هو مدون بها، وطابقه علي راهن السلة، عندئذ أيقن دلالة النقصان الذي فضحته الرسالة، فاتهم حامل السلة بسرقة حبات التين، لكن حامل السلة أنكر بإصرار جامح، وقاوم بجنوح غير سوي في مواجهة موقفه المتناقض، الذي يكشف عنه الواقع الراهن، وتؤكده الرسالة، بل راح يلعن تلك الورقة، متهماً إياها بالكذب، وشهادة الزور. توهم حامل السلة أنه يمكنه إلغاء عالم الناس من حوله، بتناحره في ممارسة فيض إصراره علي الإنكار، وتجاهله لفعلته، ومواصلة تطاحنه بضخ اتهامه للرسالة بالتزوير والكذب، وكأنه بذلك قد أعدم الحقيقة وطمسها. حف التكرار بالرجل في ظرف مماثل، إذ أرسله صاحب العمل مرة أخري إلي الشخص نفسه، حاملاً إليه سلة تحوي حبات من التين، ترافقها رسالة تفصح عن عدد حبات التين المرسلة. صحيح ان حامل السلة قد أكل الجزء الأكبر من حبات التين، تماماً كالمرة السابقة، نظراً إلي افتقاده الإحساس بالعدالة، وافتقاره إلي ضمير ضاغط لإحقاق الحق، وليس لسلب الحق، لكن الصحيح كذلك هذه المرة أنه لكيلا يتعرض للانفضاح والتعرية، ولكي يمارس خطاب المخاتلة دون مراقبة آليات الاسترصاد والتأثيم له، فإنه قبل أن يمد يده إلي حبات التين، حرص علي إخفاء الورقة تحت حجر ضخم، حتي لا تكون الرسالة شاهداً عليه، ولا تستطيع الحكم بتأثيمه، حيث كان مقتنعاً أن الرسالة، إذا لم تره يأكل التين، فلن تستطيع إفشاء سره، لذا فإنه فور انتهائه من استباحته لما لا يستحقه، أعاد الورقة إلي موضعها بالسلة. وتوجه إلي الشخص المراد تسليمهما له، الذي من فوره طالع الورقة، وراجع عدد حبات التين بالسلة، فاتهم حاملها من جديد بأنه استولي علي نصف التين المرسل إليه، فإذ بالمتهم ينحشر في مضائق الارتباك، ويمتثل، مقراً بفعلته، معرباً عن انبهاره بالطاقة الخارقة لهذه الورقة، معاهداً صاحب العمل أن يكون وفياً، متوخياً الصدق في كل تعاملاته مستقبلاً. هذه حكاية رواها »جون ويلكنز« 4161 2761، رجل الدين، والعالم، والمؤلف الانجليزي، في معرض حديثه عن أن فن الكتابة تبدي غريباً عندما اكتشف أول مرة، وأورد هذه الحكاية التي تشير إلي كيف اكتشف الأمريكيون مذهولين، أن هناك من يتحدثون إلي الكتب، حيث كان عسيراً عليهم أن يصدقوا أن بإمكان ورقة أن تتحدث إلي بشر. صحيح ان حامل السلة قرر أن يكون وفياً، صادقاً في تعاملاته، وصحيح أيضاً أنه أعلن انبهاره بالقدرة الخارقة للورقة، لكن الصحيح كذلك أن المسكوت عنه، أن الرجل قد تصور أنه بتغييبه الورقة تحت الحجر، وإبعادها عن مكان وجوده، لن يسمح لها بمعرفة ما يفعله، لكنها وفق تصوره قد تخطت مكانها، واستطاعت أن تتعقبه دون أن يراها، ودون أن تستضيء بحضورها إلي مكانه، فشاهدته وهو يأكل التين، وباحت بما كان خفياً، إذ أخبرت صاحب السلة عن عدد حبات التين التي أكلها. تري أهو استدراك صادق لخطاب مسالمة، من جانب حامل السلة، إقلاعاً عن استباحته لحقوق الآخرين التي اؤتمن عليها، أم محض حيلة يمتطيها للاستمرار في عمله، حتي يتدبر مستقبلاً إعفاء نفسه من أمر مواجهة حرب هذه الورقة بإفشائها استباحته لحقوق الآخرين، أم هو كسل العقل المستقيل عن ممارسة الاجتهاد المعرفي؟ تري لو كان حامل السلة المتشدق بالتكذيب والإنكار قد عرف أن هناك ما يسمي »ماكينة الإبصار«، التي تحدث عنها المفكر الفرنسي المعاصر »بول فيريليو«، مشخصاً انفرادها بقدرتها علي تغييب دور العين الإنسانية في عملية الإبصار، إذ تحل محلها في أداء دورها، بل تدفعها بتأثيراتها، وتشويهاتها إلي تصديق العدم، والاعتقاد بما لم يكن له وجود قط، أو تنفي رؤية ما حدث، أو ما يحدث وكأنه لم يقع، تري هل كان حامل السلة سوف يستخدم »ماكينة الإبصار«، التي من خلالها يمكنه إجبار صاحب التين بحيث لا يري إلا ما يريد له أن يراه، بالمخالفة لما حدث حقيقة، اعتماداً علي عتاد »ماكينة الإبصار«، من أساليب التضليل، والحجب، والالتفاف، بخلق واقع افتراضي آخر غير حقيقي؟ إن حامل السلة قد يستخدم »ماكينة الإبصار« بشكل فردي، ليخدع الآخرين ويضلهم، ومن الممكن ألا يستخدمها، وربما يهيمن الوهم علي حامل السلة، ويسكنه، فيذوب فيه ذوباناً تاماً، عندئذ يصبح الوهم لديه يقيناً مطلقاً، فيتجلي له بأنه وحده معيار صحة ومرجعية كل ما يفعله، لكن أخطر طقوس تصديق العدم تتبدي حين يسلم رهط من الناس في مجتمع ما، اقتدارهم الإنساني، وثقتهم، إلي فرد واحد فقط، يحل محلهم في أداء دورهم، فيغدو ما يراه وحده هو عين الصدق للجميع، من دون إعمال العقل، بالمساءلة، والمراجعة، ووعي الحذر الرشيد، فالعين من دون وعي العقل عمياء. تري ألا يصبح عندئذ حامل السلة هو نفسه »ماكينة الإبصار«، أداة تصنيع العمي العام، بإنكارها الحقائق ونفيها؟