تماثل الرجلان في اسميهما, أحدهما يملك أربعة أحصنة, فسمي كلاوس الكبير, والآخر يملك حصانا واحدا, فسمي كلاوس الصغير. كان كلاوس الصغير يتولي حرث أرض كلاوس الكبير, ويعيره حصانه الوحيد, أما كلاوس الكبير فكان يعير كلاوس الصغير أحصنته الأربعة, مرة في الأسبوع. ويبدو أن كلاوس الصغير استوطنه اشتهاء التملك كهاجس ممتد, إذ كان يستمتع بضرب الأحصنة الخمسة بالسوط, ويصيح فيها أمام الناس بوصفه المالك الوحيد لها. نبهه كلاوس الكبير مرات كثيرة, مستنكرا ذلك الترويج المغلوط أمام الناس, وما يشكله من التباس يهدد شرعية امتلاكه الأحصنة, وفي آخر المطاف هدده بقتل حصانه الوحيد إذا لم يكف عن ذلك الادعاء العلني. لكن كلاوس تحت ضغط فتنة ممارسة الامتلاك, استمر متمسكا بإطلاق صيحاته أمام الناس بامتلاكه الأحصنة جميعها. لا شك في أن تبني كلاوس الصغير لذلك الضلال, ودوام ممارسته الاستباحة والانتهاك, باستمراره في الخلط المتعمد لاغتصاب حق الامتلاك, قد ولد لدي كلاوس الكبير حالة من الغضب, فإذ به يضرب الحصان الوحيد ل كلاوس الصغير بمطرقة في رأسه, فسقط الحصان ميتا. راح كلاوس الصغير يبكي حصانه الوحيد. لقد كان طموحه الامتلاك, لكن اشتهاء الامتلاك استدرجه, وأعماه عن أن يمتلك سؤال كيف أكون, بوصفه سؤال المسئولية عن كيفية تحديد المسار والمصير. سلخ كلاوس الصغير جلد الحصان, وتركه حتي جف, وحمله في جراب متجها إلي المدينة لبيعه, ضل الطريق في الغابة حتي المساء, أبصر علي البعد مزرعة يتوسطها بيت, فكر أن يقضي الليل فيه. طرق الباب, فتحت الزوجة, ورفضت استقباله لغياب زوجها. لمح كلاوس الصغير كوخا قريبا من البيت, فتسلقه إلي سطحه, واستلقي لينام. ويبدو أنه لم يفارقه سلوك الاستباحة والتحايل لانتهاك حقوق الآخرين, إذ راح يتلصص من خلال شبابيك البيت, فتمكن من رؤية لحم شواء, وسمكة كبيرة, وزجاجات شراب, وكعكة كبيرة, وقد جلس إلي المائدة رجل يأكل, والزوجة تصب له الشراب. فجأة انطلق صهيل حصان يمتطيه رجل متوجه نحو البيت, لاحظ كلاوس الصغير أن الزوجة أصابها الهلع, وطلبت إلي الرجل أن يختبئ داخل الصندوق الخشبي, ثم أسرعت بإخفاء كل الطعام في الفرن, عندئذ أدرك كلاوس الصغير أن الشخص القادم هو الزوج, وفوجئ كلاوس بالزوج يسأله عن سبب وجوده فوق الكوخ, فأخبره بحكايته, فدعاه الزوج إلي البيت. استقبلتهما الزوجة بالترحاب, وأعدت المائدة وقدمت إليهما صحنا من الثريد. أيقن كلاوس الصغير أنه أمام صيد لا يمكن أن يفرط فيه, فراح يمسرح الموقف باللعب علي أطرافه, فداس علي جلد الحصان اليابس, فطقطق الجلد, سأله الزوج عما في الجراب, فأجابه بأن بداخله ساحرا, يطلب عدم تناول الثريد, إذ قد سحر الفرن فملأه بلحم الشواء, والسمك, وزجاجات الشراب, والكعك, هرع الزوج ليفتح الفرن فوجد ما فيه مطابقا للقول. لم تجرؤ الزوجة علي الكلام, وأخرجت لهما الطعام, ثم داس كلاوس علي الجراب مرة أخري, فلما طقطق, سأله الزوج عن قول الساحر, فأجابه بأن الساحر قد سحر ثلاث زجاجات شراب لهما خلف الفرن, فأحضرتها الزوجة في الحال. صحيح أن الإنسان يسهل عليه إدراك العيني والمشهود, وأن ما حدث أسقط الشك من الحسبان لصمت الزوجة عن الكلام, لكن الصحيح أن الزوج برغم اقتناعه, طلب من ضيفه رؤية الشيطان, فحذره الضيف بأن الشيطان بشع المنظر, ولا يستحق أن يراه, لذا سوف يتجلي في صورة إنسان. داس الضيف علي جرابه, وحينما طقطق الجراب أعلن الضيف أن الشيطان يقبع في الصندوق الخشبي في هيئة إنسان, فتح الزوج الصندوق, فوجد بداخله الرجل الذي خبأته زوجته, فتصور أنه الشيطان, فأغلق الصندوق من فوره. لا شك أن نقطة الضعف الأولي للإنسان الهش, تتجلي في اجتنابه المنطق, وإعمال العقل, وميله إلي تصديق ما يرغب في تصديقه, وذلك مايشكل صدعا في التفكير, يسهل حجب الحقائق. لقد صدق الزوج أن الساحر القابع في الجراب, يمكنه أن يجعل كل شئ تحت يده, لذا قرر شراءه, متجاهلا إعمال العقل الذي يطهر القوي الإدراكية من عوائقها وأوهامها الزائفة, إذ قد شهد الزوج أن ضيفه الذي يمتلك هذا الساحر, كان يعاني معضلة إيجاد ملاذ آمن للنوم, وقد عجز الساحر بانفتاح حقل ممكناته عن أن يستحضر لصاحبه مكانا, وتركه ينام في مكان عار,, وكان بمقدوره أن يستحضر له قصرا, أو حتي خيمة مريحة, مثلما تبدت سلطة قواه السحرية علي استحضار الشيطان متنكرا, وفي داخل صندوق. لكن في ظل حضور هذا التعارض الواضح, طلب الزوج من ضيفه شراء الساحر, وقد صاغ سياق المشهد بينهما تضليل من جانب الضيف, متمثلا في تعاليه علي البيع, وعماء من جانب الزوج, متمثلا في إلحاحه المتصاعد, ودفعه أقصي ثمن لشرائه, حيث أعطي الضيف كيسا مملوءا بالنقود, وزيادة عليه, كما منحه عربة ليحمل عليها الصندوق الخشبي الذي بداخله الشيطان. قادكلاوس الصغير العربة حتي وصل إلي جسر علي نهر, وتوقف في منتصفه, وبادعاء ماكر, وبصوت عال ليسمعه الرجل داخل الصندوق, أعلن أنه سيلقي الصندوق فن النهر, صاح الرجل من داخل الصندوق, أنه سيعطيه كيسا كاملا من النقود إن أنقذه وتمت الصفقة, وحمل كلاوس الصغير أكياس نقوده, وقاد العربة حتي بيته. ولكي يتباهي باستحواذه علي الأموال, أرسل صبيا إلي كلاوس الكبير يطلب منه استعارة ميزانه, الذي راح يفكر عما سوف يفعل به, لذا لوث الميزان بالقار ليعلق به شئ مما يوزن به, وعندما أعيد إليه الميزان وقد علقت به بعض النقود, ركض إلي كلاوس الصغير يسأله عن مصدر النقود, فأخبره أنه باع جلد حصانه بكل هذه النقود, وذلك ليوسع لديه دائرة الانبهار, عاد كلاوس الكبير إلي بيته ركضا, وتناول فأسا, وشج به رءوس أحصنته الأربعة, وسلخ جلدها, واتجه إلي المدينة لبيعها. التف الإسكافيون والدباغون حول كلاوس الكبير يسألونه عن السعر الذي يطلبه, ووفقا لما أخبره كلاوس الصغير, طلب كيسا من النقود لكل واحد من الأربعة, انهال عليه الجميع ضربا وبصقا لا ستخفافه بهم, ورموه خارج المدينة. عاد إلي بيته متوعدا كلاوس الصغير بالقتل. توفيت جدة كلاوس الصغير, فوضعها في فراشه الدافئ, آملا أن تعود إليها الحياة, ونام علي كرسي في زاوية الحجرة. في الليل انفتح الباب, تنبه كلاوس الصغير, فإذ به يري كلاوس الكبير داخلا وبيده الفأس, متجها إلي سريره, وضرب الجدة العجوز الميتة علي جبهتها, معتقدا أنها كلاوس الصغير, ثم خرج. في الصباح الباكر ألبس كلاوس الصغير الجدة الميتة, واستعار حصانا, وأجلسها في العربة, وقادها إلي المدينة. عندما اقترب من الفندق, ترجل من العربة ليحصل علي ما يسد رمقه. كان صاحب الفندق ذا مزاج فورا, ويملك أموالا طائلة, فشكل هدفا لدي كلاوس الصغير وشحذ آليات اختراقه, فحلت الأفكار غير العقلانية للحصول علي المال منه, فأخبر صاحب الفندق بأن جدته العجوز تجلس في العربة, ولا يستطيع حملها, وطلب تقديم كوب حليب لها, تبرع صاحب الفندق بالقيام بالمهمة بنفسه, وحمل الكوب, وراح يناديها مقدما كوب الحليب, مكررا مناداته مرات كثيرة, ولما لم تجب, تملكه الغضب, فرمي الكوب في وجهها, فسقطت الجدة إلي خلف العربة, قفز كلاوس صائحا, ممسكا بصاحب الفندق, مدعيا أنه قتل جدته, احتوي صاحب الفندق ثورته, معترفا بتوتره الدائم, مقدما إليه كيس نقود كاملا, وأيضا تحمله نفقات دفنها, وتمت الصفقة. تري هل نزعة الاستحواذ علي المال خطر يراهن علي كل شئ بلا حد مستحيل, وفي ظل سيطرتها ينسي الإنسان معايير وجوده الإنساني, ويصبح وحشا مجردا؟ عندما وصل إلي بيته, أرسل صبيا ليطلب استعارة الميزان من كلاوس الكبير, الذي ما إن سمع أنه علي قيد الحياة بعد أن قتله حتي هرع إليه, فوجده جالسا وأمامه النقود. سأله في دهشة عن مصدر نقوده, فأجابه بأنه باع جدته الميتة التي قتلها بدلا منه. أسرع كلاوس الكبير إلي بيته, وتناول فأسا, وقتل جدته العجوز, ووضعها في عربة, وانطلق إلي المدينة, وسأل أحد الصيادلة إن كان يود شراء أناس ميتين. سأله الصيدلي عن مصدر الجثة, فأجابه أنها لجدته التي قتلها ليحصل علي كيس نقود. نهره الرجل علي جريمته البشعة التي لا يقترفها بشر, وأنه لابد من قطع رأسه. ارتعب كلاوس الكبير, وقفز مسرعا إلي العربة, وساط الأحصنة هاربا, متوعدا غريمه. انتقي أكبر جراب لديه, واتجه إلي كلاوس الصغير, وأمسك به, ووضعه فيه, وحمله علي ظهره, وصاح به لأنه سيلقي به في النهر ثمنا لخساراته التي سببها له بخداعه. سار كلاوس الكبير إلي النهر, حاملا الجراب مسافة طويلة, وشق عليه ثقل الجراب كثيرا, لذا فعندما اقترب من الكنيسة, أراد أن يستريح قليلا, فوضع الجراب بجوار بابها, ودخل مع الجميع الكنيسة. مر في الوقت نفسه راع هرم, يسوق قطيعا من الأبقار, فداست علي الجراب فانقلب. صاح كلاوس الصغير بأنه جد صغير علي الموت. اقترب الراعي من الجراب, معلنا أنه جد كبير, ويتمناه سريعا. صاح كلاوس الصغير طالبا إليه أن يفتح الجراب, ويدخل مكانه, عندئذ سينال مراده, حل العجوز ربطة الجراب, فقفز كلاوس الصغير خارجه, ودخل العجوز الجراب, فربطه كلاوس الصغير بإحكام, وتركه وسار في طريقة يقود القطيع أمامه. خرج كلاوس الكبير من الكنيسة, وحمل الجراب, وتوجه إلي النهر وألقي به في الماء. في أثناء عودته إذ به يقابل كلاوس الصغير مع أبقاره. أصابته الدهشة, فسأله عن نجاته, ومصدر تلك الأبقار, فأجابه بأنها أبقار بحرية, ثم راح يستهويه بحكايته بأنه بعد أن ألقي به في النهر, انفك الجراب, وظهرت عذراء جميلة أخبرته أنها منحته أبقارا ستكون بانتظاره بالطريق علي بعد ميل, وأنه اكتشف أن قاع النهر هو طريق زراعي لبني البحر, إذ إن هناك بشرا أسوياء يزرعون, والماشية ترعي الحشائش وأيضا تسبح الأسماك. اعترض كلاوس الكبير علي تركه هذه الحياة الجميلة, فأخبره كلاوس الصغير الماكر بأن الأبقار كانت تنتظره علي بعد ميل, لذا فضل أن يصعد إلي الأرض اختصارا للمسافة ليصل سريعا إلي الأبقار, ثم يقودها إلي قاع النهر ثانية, هدده كلاوس الكبير بضرورة حصوله مثله علي الأبقار البحرية, فاصطحبه كلاوس الصغير إلي النهر, وأدخله في الجراب, وربطه بإحكام, والقي به في النهر. إن كاتب الدانمارك الشهير هانز كريستين أندرسن, في قصته كلاوس الكبير وكلاوس الصغير, جسد فجاجة ثقافة الامتلاك بدون عمل جاد, وخطورتها علي المجتمعات, حين تصبح ثقافة منقولة بوصفها تفكيرا مسيطرا في ذهن فرد, وتتداول بالنقل إلي أذهان أخري, من خلال آليات السيطرة علي العقول بالإذعان, والتلاعب بإدراكات الآخرين, وتخديرهم بالتهويمات والتحايلات, وتوسيع العماء لانتهاك القيم, وأنظمة السلوك, بل اختراق المحرمات, نفيا لقيمة العمل بترادفه مع الاستحقاق, إقصاء للحقوق بالزيف, والتضليل, والخداع. صحيح أن كلاوس الكبير كبل عقله بيقيناته الساذجة, فأصبح ضحية حين استسلم للعجز, وانقاد إلي الأوهام, وخضع لممارسة التقليد, منبهرا بالأكاذيب سعيا إلي امتلاك المال بلا جهد للاستحقاق, فأصبح رهين ثقافة الضلال التي استدرجته إلي القتل, وأدت به إلي الموت, وصحيح أن كلاوس الصغير شيطان الإغواء, المناهض لثقافة العمل, والحامل للوباء, المسعور بالامتلاك دون عمل, المسكون بالتضليل, السارق والمستخف بالحرمات, قد ظل علي قيد الحياة, لكن الصحيح كذلك أن الكاتب قد استبقاه علي قيد الحياة, ليطرح سؤاله العام: تري كيف تكون حياة المجتمع لو تسيدت ثقافة الاستحواذ علي الأموال بلا عمل وتداولها الناس؟ إنه سؤال الوعي بسياقات المخاطر. إن مخاطر الاستلاب الثقافي الجالب للضرر العام, الذي لايحقق للفرد ازدهاره الإنساني, قد تجلت مواجهته واضحة في دعوة الرئيس مبارك إلي تعزيز ثقافة العمل من خلال وعي ثقافي إيجابي يعتنق قيمة العمل المثمر, بوصفه شرطا للوجود الاجتماعي, وضرورة لتعميق حس العدالة والاستحقاق, ومنطلقا لتأمين قيمة الخير, التي بتضافرها جميعها تشكل العقل العام, فتكسب المجتمع استقراره وارتقاءه. لقد انطلقت دعوة الرئيس مبارك من حقيقة أن المصريين في حياتهم الخاصة والعامة هم محور التنمية وهدفها, وأن ثقافة العمل هي الضمان الفاعل والحامي للإنجازات الإيجابية للتنمية واستمرارها, وأن ثقافة العمل المثمر تصوغ حاضرهم ومستقبلهم, وتطور إمكاناتهم, وقدراتهم, ومهاراتهم, وتمنحهم ثقة استحقاق توظيفها, وتفتح آفاقا لوعيهم العام في اضطلاعهم بمسئولياتهم نحو أنفسهم, وأسرهم, ومجتمعهم. إنه رهان الارتقاء, وما دون ذلك يعني أن تسود المجتمع مملكة الضلال التي يقودها كلاوس الصغير.