في فيلتهما الأنيقة، أقام الرجل وزوجته سهرة عشاء، ضمت مجموعة من وجوه لقوي الحياة الاجتماعية، حيث تشكلت من فيلسوف، ورسام، وناشر، ومعمارية، ومترجمة، وصحفي،ومعلم، تري هل ذلك التنوع يعني ان ثمة هدفا مبتغي من هذه السهرة؟ ربما لأن صاحب الدعوة يعمل في مجال صناعة الإعلان، لذا فإنه من المحتمل أن يكون هدف ذلك التواصل، ما قد يتخلق من مناقشات تكشف عن معايير قد ترتبط بأساليب الاستهلاك ومتغيراتها، إذ بوابة فهم تقنيات الصناعة الاعلانية من آليات الإقناع والإغواء، ترتكز تحديدا علي أهمية الوقوف علي ضروب التواصل بأشكاله وأدواته مع المستهلكين، إذ المستهلك حاضر دوما في هذه الصناعة بما يخضع له سلوكه الشرائي من عوامل خفية أو معلنة تحفز ممارسات استهلاكه. لاشك ان ذلك يقتضي علي صناع الترويج بموجب حسابات النجاح ضرورة مراقبة خصوصيات المستهلكين وخفاياهم، ودراستها، وتفكيكها، واستشفافها، بوصفها مستوجبات معرفية مهنية، تساعدهم علي صياغة خطاب ترويجي خاص يخترق حشود الناس، رهانه أن يمنح ما يقدمون معني ما يبحث عنه المستهلكون. هل يمكن لهذا المنهج أن يستخدم في التلاعب السياسي، حين يختزل المواطن في مجرد مستهلك يجري تعطيل اشتغاله بالمستقبل المنشود، بمنح الراهن معني المرغوب؟ انتقل المدعوون إلي الشرفة، فشكا أحدهم من البعوض، لحظتها انطلقت مناقشة حول موضوع الحلزون، بوصفه من الرخويات التي تستخدم في قتل البعوض، فكشفت المناقشة ما يقيد البعض من انتماءات، وما يوجه البعض من ولاءات، إذ أعلن الناشر انه ضد اي شكل من اشكال التلاعب بالتوازن الطبيعي للكون، أما الفيلسوف فقد دبج مديحا في الحلزون انطلاقا من أنه رد غير عنيف علي ذلك العقم الدموي غير المنطقي، المتمثل في البعوض الذي يعض ولا نفع فيه، ثم انعطف النقاش إلي مفهوم النافع في مجال تاريخ الكلمة ومدلولها، ويبدو ان ذلك ما قد يشير إلي الوظائف الاجتماعية للغة وأبعادها الدلالية، وما تؤديه من نفع بالنسبة إلي الانسان بوصفه فاعلا اجتماعيا، وقد جري استطلاع رأي كل من المعمارية و الرسام حول الموضوع، لكن فجأة استأثر المشهد بكل الانتباه من الجميع، حين ظهرت المكرونة علي المائدة، التي تغنت بمحاسنها صاحبة المنزل، في حين راح زوجها يشكو للحاضرين إفراط استخدامها المنزلي للمكرونة، متهما إياها بالشمولية. صحيح ان اتهام الزوج يحمل معني رفض الزوجة للتعدد والاختلاف، وتجاهلها الواقع النابض بالتغير والتنوع، كما يشير ايضا إلي أن الشمولية علي المستوي الخاص تكبح إطلاق الزوجة لقواها الحية والخلاقة، وعلي المستوي العام فإن الشمولية تعد ذريعة للاحتكار والاستغلال، لكن هل صحيح ان خطاب الزوج قد صدر عن اقتناع بتلك المبادئ، أم انه خطاب اصطناع صدر عن منظور نفعي ليسوق عبر المباديء، ويروج منفعة تخص مهنته ومحيطه، انطلاقا من ان الشمولية تنفي التعدد والتنوع، فتلغي بذلك سوق الاشتغال بالاشهار والإعلان؟ إن حساب رصد تعليقات الضيوف يكشف عن اختلافات متنوعة مع وجهة نظر الزوج، إذ الضيفة المترجمة أكدت ان علاقة الزوجة بالمكرونة علاقة إدمان، قياساً علي ما قرأته في أحد الكتب الأمريكية عن حالة مماثلة لإدمان النخالة »الردة« لاشك انه قياس نظري للحاضر علي الغائب، دون خارطة فحص معرفية للحاضر، كإقرار واقعي بخصوصيته، لايفرض عليه حد قسري من خارجه، أما الصحفي فالواضح انه ممن يؤمنون بضرورة معرفة العالم كما يتبدي له، اي فحص الواقع واختبار العالم بالتجربة من خلال الحواس، إذ نراه يعلن ان المكون الأساسي للطعام يتمثل عموما في الشهية بوصفها استجابة شرطية للطعام، لكن المعلم ابدي اعتراضا تجلي في صيغة المطالبة الإرادية المسبقة بالجبن المبشور مرافقا للمكرونة، والمعني المتواري في طلبه ان الشهية ليست انعكاسا حسيا ونفسيا، واستجابة لا إرادية للطعام، بل انها تحفز بالإرادة. اما الكاتبة فقد اكدت بكبرياء في خطاب اتهام مضمر لايعفي الحاضرين من مسئولياتهم، رفضها لهذه المناقشة، في حين يعاني جموع البشر الجوع في مائة وستة عشر بلدا في العالم، لكن الفيلسوف بقراءته للمسكوت عنه في الحديث، رفض الابتزاز الاخلاقي للكاتبة، حيث في حديثها يكشر الاقصاء عن انيابه، ويتجلي الابتزاز قمعا بوصفه سلطة للقولبة تهدد حق الآخر في التعبير عما يعتقده ويراه، كما رفض كذلك تناول الجبن المبشور، اذ انزلقت علي هذا الرفض دلالة تعني ان ما يحفز شهية المعلم، لا يؤثر في شهية الفيلسوف، فلكل منهما خصوصية لاتستباح توسطت الزوجة بمهارة لتسوية ذلك الاستنفار حتي لاينقلب إلي استرصاد بين الضيوف يفسد السهرة المرغوبة، وقد شاركها الزوج بإلقائه النكات. فجأة صعدت صرخة بشرية، اعقبها نباح كلب غاضب، ثم صرخة اخري، توترت الزوجة، معلنة انها نسيت ان تربط الكلب، ولا بد أنه يقطع اوصال أحدهم. هبط الجميع مسرعين إلي الحديقة، حيث تصطف سياراتهم، فوجدوا بعض ابواب السيارات مفتوحة، ونافذة إحداها مهشمة، وهناك جهازان من اجهزة راديو السيارات علي الارض، وتسلل الكلب الضخم يسحب مخلوقا من ساقه المنهوشة، حتي تبدي من غزارة طفح الدم النازف منه ان حالته علي فرضية الموت، فصاحت الزوجة بفخر ودهشة ان كلبها قد امسك لصا. صحيح ان الموقف تجلي صدمة مكشوفة الإثارة، عارية التحدي في مواجهة القيم والتصورات التي تقود سلوك ردات فعل أطراف تلك المجموعة، لكن الصحيح دون أدني التباس أن الموقف يتطلب التدخل السريع من مؤسسات التحكم الاجتماعي الرسمية التي لايحل محلها بديل. استدركت المترجمة الموقف، فطالبت بخلاص ذلك المخلوق من فم الكلب. حذرتها المعمارية من هروبه، فأشارت محتجة إلي ساقه المنهوشة، عندئذ تآزر أربعة من المجموعة فأمسكوا برأس الكلب، وبعد عناء نجحوا في إجباره علي ترك ساق الرجل الذي ما إن وقف حتي سقط علي الارض غائبا عن الوعي نتيجة تدافع نزف دمه، ففرض الحدث أولوية ضاغطة عاجلة لمباشرة علاج الرجل، فتباينت مواقف افراد المجموعة تجاهها، فبعضهم ازاح جانبا قضية إسعاف الرجل، وبعضهم طالب باستدعاء الطبيب، والبعض عارض استدعاء الشرطة، والبعض طالب باستدعائها، ثم شغلوا انفسهم بمناقشات اتخذت من الحدث موضوعا، فراح كل منهم يطرح وجهة نظره ممارسة لحق مشروعية الاختلاف في المجتمع الديمقراطي. وبدلا من احترام القانون والالتزام به بوصفه ملاذا لهم وحاميا، إذ بهم يتجاهلون أهمية الفعل الذي يتطلبه الحدث، بل مارسوا مهام مؤسسات حماية النظام الاجتماعي العام للمواطنين وتأمينه، إذ مارس الفيلسوف فحص الرجل معلنا انه عربي، وتحديدا تونسي، دون أدني اهتمام بحالته، عندئذ قرر صاحب المنزل ان يستدعي الشرطة، اعترض الرسام، طارحا مبررا مفاده ان سرقة جهازي راديو ليست سببا كافيا لسجن الرجل، متجاهلا قاعدة ان المجتمع يقاد بموجب قوانينه العامة التي تدار بها شئونه، واجه الفيلسوف الرسام مؤكدا اعتراضه بأن تهشيم سيارته ليس سببا تافها. تمحور اهتمام صاحب المنزل في الكشف عن معلومات مخبأة، فراح يفتش الرجل دون الانشغال بخطورة حالته، وإذ به يطلق مفاجأة بأنه عثر علي مسدس يحمله الرجل، لكن الناشر بعد معاينته قرر انه لعبة اطفال، مع ذلك تجلي المعلم شارحا ان ثمة دلالة للمقاصد التي يحملها المسدس وان كان زائفا. لم تتمالك المترجمة مشاعرها امام نزيف دم الرجل، فصرخت تطلب استدعاء طبيب لإنقاذه، عاود صاحب البيت الإعلان عن عثوره علي جواز سفر الرجل ملطخا بالدم، لكنه لم يستطع قراءة سوي جزء من اسمه »سعد« فأكد الرسام انه اسم فلسطيني، وكرر الاحتراز من استدعاء الشرطة حتي لاتزداد توجعات الشعب الفلسطيني بإضافة ظلم آخر إلي قائمة الاعتداءات التي يتعرض لها. احتجت الكاتبة علي تضامنه المفاجيء والمخادع الذي يختلط بشكل خطير مع معاداة السامية، عندئذ اقترب المعلم من الرجل، متفحصا مواصفات وجهه، ثم اصدر حكمه بأنه ليس فلسطينيا، بل من وسط إفريقيا، من المحتمل ان يكون اصلا من قبيلة »باتا« فسارع الصحفي إلي مطالبته باستدعاء الشرطة فورا، إذ ان هذه القبيلة كانت السند المسلح للدكتاتور ضد الثورات الشعبية، لكن المعمارية قذفت بيقين القرائن والدلالات ان المخلوق الممدد في دمه محض امرأة، حيث أشارت إلي العقد الذي في العنق، والشعر الطويل الممسد، فتدخلت الكاتبة، بوصفها مناصرة لحقوق المرأة، مطالبة بعدم استدعاء الشرطة، زاعمة ان هذه المرأة كانت مجبرة علي هذا الفعل بدفع الرجال المفسدين، لكن صاحب البيت واجهها بالطرح المضاد المؤكد باليقين انه رجل. وفي مواجهة استمرار حالة استعصاء استدعاء الشرطة توسلت المترجمة لإنقاذ الرجل من الاحتضار. ان الكاتب الايطالي »ستيفانو بيني«، المولود عام 7491، استمر في سرد قصته »اللص« كاشفاً عن احتكاك المسائل الخلافية و الصدامات بين أفراد مجموعة السهرة حول حقيقة اللص المتمدد في نزيف دمه، التي انتجت ارتحالا لكل ممكنات الوصول إلي الحقيقة لعدم تفعيل القانون، ذلك ان كلا منهم اعفي نفسه من اعباء القراءة الصحيحة للموقف، واستيعاب اولوياته الضاغطة، وراح يمارس الحرية السلبية التي ترفع عنه الخضوع لأي انظمة يري فيها إكراها، حتي لو كانت القوانين، مفترسا إمكانية الاستعانة بالآليات الكفيلة باكتشاف حقيقة اللص. لقد دب بينهم الخلاف بشأن السماح باستدعاء الشرطة، وإعمالا للديمقراطية كان الاقتراح ان يجري التصويت علي الاستدعاء، واقترحت المعمارية استدعاء شرطي ديمقراطي، عندئذ اخبرتهم المترجمة انه لانفع فيما يقولون، ذلك ان الرجل قد مات، ولاشك ان العدالة تقف مكتوفة اليد امام حد الموت. تري هل من المعقول عند اكتمال أركان جريمة السرقة، والقبض علي السارق، يجري التصويت علي استدعاء الشرطة؟ أليس ذلك توظيفا فاسدا لآليات الديمقراطية؟ صحيح ان الديمقراطية شرط ضرورة لنهضة المجتمعات، لكنها ليست شرط كفاية دون عدالة تتحقق علي المستويات كافة، من خلال آليات تتبدي في قوانين عامة تنظم فعل الدولة نفسها ومؤسساتها، وعلاقتها بالمواطنين، وتحدد علاقات القوة بالحق في النسيج الفردي، والكيان الاجتماعي، حماية للسلامة العامة، دون تهميش للحقوق، أو إقصاء للحريات، لذا فإن رهان الثورة لحماية مستقبل مجتمعها يتجلي في اشتغالها علي استصدار قوانين الانماء السياسي والاقتصادي، لتصوغ تبدلات اجتماعية تحقق العدالة والانصاف لمواطنيها، إذ لا معني للديمقراطية عندما يجري بخطاب ترويجي اختزالها في حرية الكلام، دون التفعيل الدائم لآليات نسق القوانين، والحقوق الاساسية التي تقيد المؤسسات والأفراد في الالتزام بحدودها، التي لو كانت حاضرة لما كان هذا الخراب والخسارات في ارواح الشهداء من الشباب، وجموح نهب الأموال التي كشفت عنها تحقيقات النائب العام، مفجرة مفاجأة المفارقة المذهلة بين الحقائق والادعاءات التي عرت فساد رموز النظام الذي اسقطته ثورة الشباب.