د. فوزى فهمى عرفت المجتمعات عبر تاريخها ثلاثة انواع من السلطات، لكل منها مصدر مغاير يكرس لغايتها المنشودة، في ضوء استخدام كل سلطة لأدواتها التي تعكس طبيعتها، ومرجعيتها، وقدراتها الخصوصية. وقد جري تعريف هذه السلطات الثلاث علميا بالوقوف علي مصدرها، وأدواتها التي تستخدمها تجاه الاخرين لتحقيق اهدافها، اذ عندما تكون القوة هي مصدر السلطة، وتمارس القمع الصارم، بوصفه أداتها للاخضاع، عندئذ تندرج تحت مسمي »سلطة قسرية« وحين تصدر السلطة عن المال، فتستخدم المكافآت أداة لابتياع الخضوع، حينئذ يتحدد تعريفها بأنها »سلطة تعويضية«، وإذا ما صدرت السلطة عن تنظيم عقلاني يحوي السياق الاجتماعي العام، ويتبدي في صيغة معلنة، ترتكز علي اساسيات تعد الاقوي، والاقدر، والاصدق في حماية كيان الوطن، وضمانة الشرعية، وعدالة الحقوق الفردية والجماعية كافة، وتتجلي اداة هذه السلطة في استخدامها آليات استبصار المعرفة، بالاحتكام إلي المشاركة، والمناقشات، وتبادل الآراء، والتداول، عبورا إلي ما تأتلف عليه الارادة العامة في اطار ما تستدعيه من رضاء بتلك السلطة وقبولها، لذا فإنه بحكم مصدرها وأداتها وتأثيراتهما، يطلق عليها تسمية »السلطة التلاؤمية«، التي اكتسبت اتساعا متعاظما عبر مراحل التطور الثقافي والاجتماعي انطلاقا من رفضها آليات القمع والانصياع، واحتكامها إلي تنظيم يحدد شرعية ممارسة الحكم، وفقا لقواعد وضوابط تحرص علي التشارك والتضامن بين جسور شبكة الوجود الجماعي، في ضوء اهداف وقيم يتواضع عليها ويقرها المجتمع، ويلتزم بها. صحيح ان هذه »السلطة التلاؤمية« حاملة لفكرتين أساسيتين، أولاهما: فكرة تنظيم السلطة، وهيكلتها، وتقييد حدودها، وثانيتهما: فكرة شرعية الإرادة العامة كمصدر للسلطات، وهما الفكرتان الرئيسيتان اللتان يحتضنهما مفهوم الدستورية، وصحيح ايضا ان كل دولة مستقلة، تسعي إلي اكتساب دستورها الوطني الذي يصدر عن الارادة العامة لمجتمعها، حتي لاتكاد دولة تخلو من دستور تصوغه بنفسها لنفسها، لكن الصحيح كذلك انه منذ أن تفردت الولاياتالمتحدة بإدارة المجتمع الدولي في العقد الاخير من القرن الماضي، تصاعدت موجة تدفع الدول إلي تدويل دساتيرها الوطنية. عندئذ ينبثق سؤال مستحق: كيف تتبدي اثار هذا التدويل وآفاقه علي الدستور الوطني، وكيان الدولة؟ ان الخاصية الحاسمة للدولة تتجسد في امتلاك سيادتها، التي تعد الضمانة الأساسية لفاعلية مفهوم استقلالها، ودلالة تحققها كيانا وطنيا متكاملا، بل الشرط النافي لوجود اية سلطة اعلي من الدولة في شئونها الداخلية والخارجية علي السواء، فالدولة تمارس اعمال سيادتها انطلاقا من ان السيادة تكمن اساسا في الدستورنفسه، الصادر عن توافق الارادة العامة بوصفه تشريعا وطنيا، يحفظ للكيان المجتمعي وجوده وحقوقه، من خلال شكل من الانتظام العام المعبر عن تراتبية السلطات العامة وتعددها، وتقاسمها الاختصاصات في إطارها الدستوري، لكنها لا تتقاسم السيادة بوصف سيادة الدولة واحدة لا تتجزأ، ولا يمكن التنازل عنها، لذا فإن الشرط الضروري والكافي لسلامة مفهوم سيادة الدولة يتحدد في عدم تعرضها لاية انتهاكات، سواء بالسيطرة، أو الفرض، أو التفويض، أو التعدي، أو إذابة الخط الفاصل بين ما هو وطني وما هو دولي. وحرصا علي ألا يبارح مفهوم سيادة الدولة وجوده من خارطة تعاملاتها، جرت تساؤلات واستيضاحات للمسكوت عنه في دعوة الدفع إلي تدويل الدساتير الوطنية، فكانت هناك آراء تشكلت لديها عناصر الاقتناع وموجباته من خلال الاستبصار المستقبلي لدعوة التدويل، واعرب عن ضرورة التعامل معها للاستفادة من تطور القانون الدولي، اسهاما في تقدم المجتمعات، وأيضا هناك آراء اخري عارضت هذه الدعوة ورفضتها، باعتبارها اداة وليدة للعولمة واستحواذاتها، احكاما للسيطرة، واستدراجا، وإيغالا في بسط الهيمنة، بممارسة اذابة الخط الفاصل بين ما هو وطني وما هو دولي، حيث بموجب هذه الاذابة جرت عمليات التعدي علي سيادة الدول من خلال اساليب العولمة، إرغاماتها المتعددة، بممارسة توريط الاقتصادات الوطنية في اتباع سياسات محددة، أهم ثوابتها تغلغل نفوذ الشركات الكبري المتعددة الجنسيات، المتحررة من سلطة الدولة، بل التي تعجز الدولة عن ضبط سلطانها في استحواذها ونحرها لخيرات المجتمع وموارده. تورد الكاتبة الانجليزية »نوريتا هيرتس«، في كتابها »السيطرة الصامتة، عولمة الرأسمالية وموت الديمقراطية« امثلة موثقة عن ممارسات الشركات الكبري للأساليب الشرعية، وغير الشرعية، في الضغط علي الحكومات، لتحقيق مصالحها. كما تعترف الكاتبة انه حين تصطدم مصالح الشركات والدول، فإن الاولوية تأتي وبشكل متزايد لصالح الشركات، بل ان منظمة التجارة العالمية تحد من قدرات الدول علي حماية مصالح شعوبها، وتحكم لصالح الشركات ضد حكومات منتخبة بصورة ديمقراطية، عندئذ تتعرض شرعية الدولة وسيادتها للخطر، في سياق عجزها عن التزاماتها تجاه مجتمعها. صحيح ان الموقع الذي تحتله الشركات المعولمة، هو موقع فوق المجتمعات، وفوق حقوقها وإرادتها، ويمثل تعديا، وفرضا ينتهك سيادتها، والصحيح ايضا ان الباحثة الفرنسية »هلين تورار«، في كتابها »تدويل الدساتير الوطنية«، تفرق بين العولمة والتدويل، وتري التدويل يخص علاقة الدساتير بتطور القانون الدولي بالاساس، وما تطرحه قضية قابلة للنقاش، لكن ما ليس صحيحا، بل اللافت الاستثنائي، هو ما ذكره الكاتب الامريكي »مارك ويبر« في الفصل الذي حرره في كتاب »قضايا في السياسة العالمية« إذ يؤكد »أنه يمكن تسليم السيادة طواعية إذا أمكن الحصول علي بعض المنفعة الدائمة« تري أهو منطق »السلطة التعويضية« التي تبتاع اخضاع سيادة الاوطان بالمنافع والاموال؟ إذن ما جدوي رهانات وضع الدساتير بوصفها مدونة حماية حقوق كيان الوطن والمواطنين، وتقييد السلطات من التجاوزات، ومحاسبة المسئولين عند التفريط؟