أيها المصري، لا تحزن، ولا تسمح للحزن أن ينزل بقلبك، أو أن يتملك فؤادك، ولا تدع الغم ولا الإحباط أن يحيط بك، ولا تسمح لنفسيتك أن تسوء أو أن يغمرها اليأس، نعم، عبر عليك في السنوات القليلة الماضية أحداث جسام، تنهدّ لها الجبال، لكنك بفضل الله تتوارث عن آبائك شفرة وراثية، كامنة هناك، في أعماق شخصيتك، تسري من أب إلي ابن، ومن جيل إلي جيل، وتزداد مع مرور الزمن رسوخا وتمكنا في باطنك وفي أعماق عقلك وشخصيتك، وهي أنك قوي، شامخ، تطرأ عليك الثورات والأحداث والمجاعات والاستعمارات والتيارات والجماعات والمصائب والصيحات والنكسات والانتكاسات والدعوات والأفكار والفلسفات، وتنصب علي رأسك الأهوال التي لا يتحملها إنسان، حتي يظن عدوك، وتظن الدنيا من حولك أنه لا قيامة لك، وأنك قد انتهيت إلي الأبد، فإذا بتلك الشفرة الوراثية تتحرك، وإذا بالعناية الإلهية تتجلي عليك وتغمرك، وتحف بك، وتنتشلك، وتبث فيك الحياة من جديد، فتنهض من جديد، وتنفض عن نفسك الحزن والإحباط والكآبة من جديد. جاء الهكسوس والصليبيون والتتار والفرنسيون والإنجليز والصهاينة، وطرأت عليك موجات غامرة من التسلط علي إرادتك، والتلاعب بأرزاقك ومقدراتك، والتحايل عليك، والالتفاف علي إرادتك ووعيك، وكم حصلت في تاريخك من مجاعات وضيق في الأرزاق، وشحٍّ في الموارد، وتراجع للاقتصاد، حتي رصد المقريزي (وقد توفي قبل ستة قرون) كتابا عجيبا اسمه: (تاريخ المجاعات في مصر)، تري فيه الغرائب المذهلة مما طرأ علي هذا البلد العظيم من صور القحط والبلاء، حتي يظن من يراقب ويرصد ويتابع أنه قد قضي عليه نهائيا، ثم إذا به يتجدد فيه الرزق، وتولد فيه الحضارة من جديد، وكم طرأ عليك مثلا من استعمار، ومصاعب، ويكفيك الاستعمار الثلاثي، ونكسة سنة 1967م، حتي ظن الصهاينة أن إرادتك قد ماتت، وأنه يستحيل عليك تحرير أرضك وامتلاك حريتك وإرادتك، ثم إذا بك تنهض من جديد محطما أغلالك، ومحطما أوهام عدوك، لتصنع النصر من جديد، وتبرهن من جديد علي أن الشفرة الوراثية المتراكمة فيك من التجدد واستمرار الحياة ما زال ساريا، وكم بذل الاستعمار مثلا من الجهود الجبارة لإماتة اللغة العربية، واستبدالها بالعامية أو الإنجليزية، ودعا إلي ذلك المستشرق الألماني ولهلم سبيتا، وألف سنة 1880م كتابه: (قواعد اللغة العربية العامية في مصر)، وبعده كارل فولرس في كتابه: (اللهجة العربية الحديثة)، وبعده المستشرق الإنجليزي سلون ولمور في كتابه: (العربية المحلية في مصر)، وبعدهم السير وليم ويلكوكس، وهو أشدهم وأعنفهم هجومًا علي اللغة العربية، وقد ربط كل تخلف وتدهور يعانيه المصريون بلغتهم العربية، وبذلت في ذلك جهود جبارة علي مدي سنين، حتي يخيل لأصحاب تلك الدعوات أن هويتك قد ماتت، وأن شخصيتك قد طمست، ثم زالوا جميعا، وبقيت أنت أيها المصري، وبقيت معك مقومات شخصيتك من لغتك وتاريخك ودينك، ومفاتيح نجاحك، التي هي همتك وعزيمتك وآمالك العظيمة الواسعة، وطموحك الكبير، وإدراكك لذاتك وضخامة حجمك ودورك في منطقتك ومحيطك العربي والإسلامي والعالمي. أيها المصري، أنت قلب هذه الأمة النابض، وربما اشتعلت النيران في الأطراف، وربما نزل الدمار بما حولك، ولا تزال دائرته تتسع، وتتسارع إليك، حتي إذا ما كاد الخطر يمتد إلي القلب، إلي مصر، فإن الله تعالي يوقف هذا الخطر، فينكسر، وينحسر، ويندحر، ويتصاغر، ويتلاشي، ويذوب، ويضمحل، وينهزم، لأن القلب إذا مات مات كل شيء، وإذا بقي حيا أمكن أن يتجدد كل شيء، وأن يعود إلي ضخ الحياة في كل شيء، ولقد زحف التتار من قلب آسيا، وهم الأشداء المتحجرون الشداد القساة، فما تركوا مملكة ولا سلطنة من ممالك المسلمين إلا اجتاحوها، ونشروا فيها الخراب، وهدموا ما فيها من صروح الحضارة، والمراصد الفلكية العظيمة التي ترصد أجرام السماء، وبددوا دور الكتب ومراكز العلم والمعرفة، وهدموا الأبنية والمدارس والمساجد المشيدة علي أصول هندسية عبقرية حتي تكاد تشابه جامع السلطان حسن عندنا في القاهرة، واستطار الشرر حتي اجتاح بغداد، عاصمة الدنيا يومئذ، واجتاحوا الشام، إلي أن طرقوا أبواب مصر، ومصر حينئذ في انقسام وتشتت، فتجددت سنة الله تعالي في مصر، بأن تنبعث في أشد أوقات ضعفها، وبعد أن يظن الجميع ظنا محققا أنه لا قيامة لها، فيخرج جيش مصر العظيم، إلي عين جالوت، ليلحق بجيش التتار عاصف المرعب أول هزيمة قاسية في تاريخه، فينكسر شرهم، ويزول طغيانهم، وتبقي مصر. أيها المصري، هل تحزن بعد كل ذلك؟! هل يحيط بك الحزن بعد كل ذلك؟! هل يتسرب اليأس إلي نفسك بعد كل ذلك؟! ألا تعرف من أنت ومن تكون؟! ألا تعرف سنة الله فيك، وأنه كتب لك البقاء، وأراد لك التجدد، وحفظك من الزوال والاندثار، مهما كان حجم الأخطار المحيطة بك، ألا تري أن التاريخ يتكرر، وأن الخطر في السنوات الماضية يمتد إلي كل الدول والأقاليم من حولك، وعندما اقترب منك، وكاد يعصف بك، أوقفه الله وردعه، وأمضي فيك سنته، ومهما حاول هؤلاء أن يحدثوا تفجيرا هنا أو تخريبا هناك، أو اغتيالا هنالك، فإنهم معاندون لسنة الله فيك، يسبحون ضد التيار الجارف الذي يحملك ويحمل لك التجدد والبقاء. حفظك الله أيها المصري الأصيل، وحفظ هذا الوطن العظيم: مصر، وأدام الله فيك سابق فضله وإكرامه، وجعل الإحياء علي يدك متجددا ودائما، وأدام الله تعالي فيك الأمل والهمة، وأجري علي يدك الخير والحياة والعمران والربانية متدفقة غامرة إلي يوم القيامة، وحفظ الله شعب مصر الكريم، وجيشها العظيم، ورد عنهم كيد الخائنين، ومكر الباغين، وأدام فيها العلم والحكمة والرزق الواسع، وأدام فيها منابع الأخلاق والنبل والفضل، وسلام علي الصادقين.