حال مصر مع بعض أخواتها كحال الرسل مع أقوامهم، كما وصفه الله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]. أو كما وصفه الحديث النبوي: أن رجلًا قال: يا رسول الله، لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ. فقال له النبي الكريم: "لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك". تستدعي في المغارم وتنسى في المغانم، يلجأ إليها في الهموم ويولى عنها في الأفراح، في الهم (مدعية) وفي الفرح منسية – كما يقول المثل - تطالب بالواجبات ولا تؤدى إليها بعض الحقوق. ينفسون عليها توسط موقعها، وروعة نيلها، وعراقة تاريخها، ونباهة أبنائها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد أنعم سبحانه على كل بلد من فضله، والشكر يجلب المزيد، والحقد والحسد يزيل النعم. مصر كنانة الله في أرضه، وكنانة الله لا تنفد سهامها، قد تنفد كنانات البشر، لكن كنانة الله لا. مصر صخرة صماء في وجه أعدائها، تكسرت عليها نصال الصليبيين، ووهت من صلابتها قرون التتار، ورحل من بسالتها جنود الاستعمار. مصر قوتها قوة لكم لا ضعف، وعزها عز لكم لا ذل، وغناها غنى لكم لا فقر. مصر العراقة والحضارة، مصر الجغرافيا والتاريخ، مصر الشعر والأدب، مصر الدين والثقافة، مصر الأزهر والعلم، مصر الإسلام والعروبة، مصر الماضي والمستقبل بإذن الله. مصر غنية بأولادها، من أطيب الشعوب قلبًا، وأصدقهم إيمانًا، وأكثرهم رضا، وأطولهم صبرًا، وأكرمهم كفًا، وأبسطهم معيشةً، وأسرعهم فيئًا. مصر في الماضي البعيد، في عهد يوسف، عليه السلام، أمارت البلاد المحيطة في زمن المجاعة، وأعطت كل وارد إليها من غير أهلها حمل بعير، شهد الله من فوق سبع سماوات، ومصر في الماضي القريب، كانت حديثة العهد بالإسلام، ولكنها أبت أن تشبع هي وتجوع الجزيرة العربية، ف"ليس منا من بات شبعانا وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم"، فسيرت قافلة أولها عند أمير المؤمنين عمر في المدينة، وآخرها عند عمرو بن العاص في الفسطاط، يريد البعض الآن إغلاء أسعارها، وتجويع أهلها، أو توهين إرادتها، ويأبى الله. لقد مثلت مصر لبعض الدول العربية أثناء الاحتلال الشريان الذي يمدها بالاستمساك بالإسلام مقابل التبشير، والتشبث بالعروبة في مواجهة التغريب، والنزعة للتحرر ضد الرضا بالاستعمار، فلما لم يستطع الاستعمار أن يوجه سهامه للإسلام والعروبة والوطنية، وجهها إلى مصر التي تمثل كل ذلك، فنشأت أجيال عربية على الكراهية لمصر من غير سبب جنته، وهي تحسب ذلك استقلالَا، وما هو إلا تبعية للمستعمر القديم. يجرب البعض اليوم ما جربته مصر من مائة سنة، ويحسب أنه أتى بما لم تسطعه الأوائل، ونسي أن الفضل للمبتدي. ويظن البعض أنه لن يكون كبيرًا إلا إذا وقف على جثة مصر، وهو ما لن يكون، والكبير الحق يكون بين العمالقة، لا بين الأقزام. لم يقبل المصريون أن يهين غيرهم رئيسهم أنفة واعتزازًا بأنفسهم، رغم ظلمه وفساده وجبروته، ولم يستيعينوا على إسقاطه بشرق أو غرب، ولم يكونوا ليقبلوا أن تطلق على بلادهم رصاصة من خارجها، حتى ولو كانت في صدر المستبد الذين يحاولون إسقاطه، وبالأحرى لن يقبل المصريون الشرفاء أن يهين البعض كائنًا من كان رئيسهم المنتخب بإرادة شعبية حرة. ليتهم إذ لم يقيلوها من عثرتها، وينهضوها من كبوتها، تركوها تستجمع قوتها، وتلملم جراحها، وتستعيد دورها، لكنهم أبوا أن يعينوها بل أعانوا عليها، ووضعوا العراقيل في طريقها، وشاركوا في عقوقها، وأثقلوا كاهلها. هم كشيعة الحسين المغدور، رضي الله عنه، ألسنتهم معه، وقلوبهم عليه، ولا يسلم الأمر من فلتات ألسنة تظهر مكنونات الصدور. لا يرقبون فيها إلا ولا ذمة، ولا يراعون فيها صهرًا ونسبًا - أوصى بهما صاحب الخلق العظيم - ولا يعرفون الفضل لأهله، فليسوا من أهل الفضل، ولا العدل. ستنهض مصر بكم أو بغيركم، بيد أنه عز الدهر لكم إن حفظتم جميلها، وذله أبدا إن كنتم بين أعدائها، ولن تعاملكم بما أنتم أهله، فالمياه التي تجمعها مع الشعوب العربية أعمق من أن يعكرها بعض الأغرار، وجذور العروبة والإسلام المشتركة بينها وبين أخواتها أعمق من أن تقتلعها أيدي الحمقى، فهم إلى زوال، والبلاد والعباد باقون. ظلموك يا مصر، وما أشد مضاضة ظلم ذوي القربى على النفوس. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]