ولكن ذلك للآسف لم يتم التفكير فيه ولا العمل به، نتيجة العشوائية وغيبة العلم والمعرفة في كل مساء ومع غياب شمس القاهرة طوال الخمسة اسابيع الماضية، كنت ومازلت اتمني ان يتغير الحال، ويأتي علينا زمان افضل مما نحن فيه، تختفي فيه إلي غير رجعة تلك النكبة التي حلت بنا منذ خمسة عشر عاماً بالتمام والكمال، وفرضت علينا وجودها الكارثي أو المأساوي المسمي بالسحابة السوداء، بما تحمله في طياتها من سم زعاف مضطرين للتعايش معه وتجرعه مع كل هواء نتنفسه مع حلول شهري اكتوبر ونوفمبر وحتي منتصف ديسمبر من كل عام. ولأن الأيام والسنين علمتنا ان بعض الاماني يمكن ان تتحقق، فمازال عندي أمل ان تتبدل الأحوال وتزول السحابة أو تختفي، قبل ان تزول عنا الصحة وتختفي عنا كل قدرة علي مقاومة سمومها القاتلة والمميتة ونسقط صرعي السحابة اللعينة، التي فشلت كل الجهود المزعومة للتخلص منها طوال السنوات الماضية وحتي الآن وقد تتعجبون إذا ما قلت لكم ان هذه الملعونة المسماة بالسحابة السوداء، اصبحت تثير في النفس الكثير من الشفقة علي عموم الناس في القاهرة وبقية محافظات الدلتا والوجه البحري المضطرين مثلي للتعايش معها نظراً لغياب البديل، وعملاًبالحكمة القائلة «بأنه لابد مما ليس منه بد»، إلا أنها اصبحت ايضاً تثير في النفس الكثير من الأسي والرثاء لحال وزراء البيئة عندنا، الذين تعاقبوا علي الوزارة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، وفشلوا في التعامل مع هذه السحابة، رغم التصريحات المتكررة منهم والصادرة عنهم والتي كانت تبشرنا بأنهم سوف ينتصرون عليها ويقضون علي وجودها عليهم وعلينا أيضاً. واقع سييء واقع الحال الذي نحن فيه الآن، يقول انه رغم مرور أكثر من خمسة عشرعاماً متوالية ومتعاقبة، الا ان السحابة السوداء مازالت تفرض وجودها البغيض علينا، ضيفا ثقيلا غير مرغوب فيه ولا مرحب به علي الاطلاق من جميع المصريين الذين يعانون منها، ومن وجودها السمج الذي اصبح مفروضا علينا كل عام مع مقدم الخريف وقبل حلول الشتاء. وواقع الحال يقول ايضا أنه رغم التصريحات المتفائلة من جانب المسئولين في الحكومات المتعاقبة طوال السنوات الماضية، والتي كانت تبشرنا بإجراءات فاعلة للخلاص منها والقضاء عليها وعلي اسبابها، الا أنها مازالت باقية ترفض ان تستجيب لهم ولما قالوه وأكدوه، وتأبي ان تتحرك او تغادر سماء مصر المحروسة. وفي وسط هذه المأساة السوداء لا نملك الا ان نقول، كان الله في عوننا نحن سكان القاهرة، وجميع سكان الدلتا، الذين اصبحوا ضحايا سحابة الدخان والتلوث التي عششت في سماء العاصمة، بعد ان تشبعت بها سماوات جميع المحافظات وكل المدن والقري في الدلتا، وخاصة الشرقية وكفر الشيخ والدقهلية ودمياط والبحيرة وغيرها، وكلها تعاني وتتضرر من السحابة المسمومة ولا مستجيب ولا منقذ. وقلبي مع آلاف المرضي والمصابين بالحساسية الصدرية أو قصور الدورة الدموية، أو حساسية العيون وغيرها من الأمراض التي تتأثر مباشرة بتلوث الهواء، ووجود نسبة مرتفعة من الغازات الخانقة والسامة به، مثل أول وثاني أكسيد الكربون، وأكاسيد الكبريت والهيدروجين وغيرها من الغازات المؤثرة بالسلب علي الصحة العامة. وإذا كان قلبي مع هؤلاء جميعاً تعاطفاً وخوفاً وشفقة، فإن عقلي يشغله دائماً التفكير في هذه السحابة بوصفها مثالاً واضحاً وفجا علي ما يمكن ان تؤدي إليه عشوائية التفكير والأداء، في زمن لم يعد فيه مكان لهذه الافة اللعينة المسماة بالعشوائية، وسط عالم الاقمار الصناعية وسفن الفضاء والكمبيوتر والهايتيكنولوجيا الذي يتزاحم فيه الكل للأخذ بأسباب العلم والتخطيط وسيلة للتقدم والقفز إلي المستقبل الافضل،..، بينما نحن مازلنا نعاني من السحابة القاتلة منذ ما يزيد علي خمسة عشر عاماً دون ان نجد لها حلا.. العشوائية وقد يتخيل البعض ان استخدام السحابة السوداء للدلالة علي العشوائية في التفكير أو القصور البالغ في الأداء والفعل هو نوع من المبالغة، او تحميل الامور فوق ما تحتمل،..، ولكن ذلك للاسف ليس حقيقيا، فهي بالفعل مثال واقعي وحقيقي علي عشوائية التفكير وغيبة التخطيط العلمي، وعدم الوعي بالمتغيرات التي تطرأ حولنا ، وعدم النظر بعين الاحترام للبيئة التي نعيش فيها والهواء الذي نتنفسه،..، وأشياء أخري كثيرة. هذه السحابة كشفت في الحقيقة عن سلبيات عديدة تحيط بنا ونتعايش معها، أكثر موروث للاسف نتيجة عدم المعرفة والجهل بأهمية وخطورة تلوث الهواء بصفة خاصة، وعدم الاهتمام بنظافة البيئة بصفة عامة، وتأثير ذلك المدمر علي صحة البشر بما يؤدي بالضرورة الي انتشار الأمراض وإعاقة الإنسان صحيا وعقلياً أيضاً، وهو ما يؤدي بالتتابع الي إعاقة التنمية وتعويق كل الجهود المبذولة أو المتطلعة للتقدم. ولعل اكثر هذه السلبيات بروزاً، هو غيبة الوعي البيئي لدي عامة المواطنين، وبعض المسئولين، في الوقت الذي يتعاظم فيه الاهتمام بذلك الأمر في جميع الدول المتقدمة، بل والنامية ايضاً، وبحيث اصبح الاهتمام بالبيئة ونظافتها المقياس المعترف به عالمياً للفارق بين التخلف والتحضر ويكفي للدلالة علي العشوائية التي نحن فيها، ان تنظر إلي ما يحيط بالقاهرة الآن، من مصادر ملوثة للبيئة، وكلها للاسف تزايدت وتكاثرت خلال السنوات القليلة الماضية في ظل صمت عاجز منا جميعاً، وهو ما حول القاهرة الي واحدة من أكثر المدن تلوثاً في العالم، بلا فخر، هذا ان لم تكن من أكثرها علي الاطلاق،...، بعد ان كانت واحدة من أكثر المدن نقاء وجمالاً قبل ذلك. أيام زمان ونظرة واحدة للخلف، ورجوعاً بالزمن بضع عشرات من السنوات، نجد ان الطرف الجنوبي للقاهرة،حيث منطقة حلوان كانت منطقة استشفاء بالغة الأهمية وذائعة الصيت في العالم كله حتي الخمسينيات من القرن الماضي وكانت نقطة جذب يأتيها الناس من جميع الدول للاستمتاع بجوها الرائع، والاستشفاء بمياه عيونها الكبريتية الشهيرة،..، فإذا بنا نحولها الان الي مكان خال من الجمال، طارد للإقامة والسكن بعد ان تشبع هواؤها بدخان المصانع الخانقة، ورماد الاسمنت القاتل. ونظرة أخري علي الطرف الشمالي للعاصمة، حيث شبرا الخيمة، نجد الحال لا يختلف كثيراً، حيث في ذات الوقت تحولت اليمنطقة.. صناعية، تضم في جنباتها كل انواع الصناعات، ابتداء من النسيج وحتي الزيوت والصابون، وكلها للأسف صناعات ذات نواتج ملوثة للبيئة، سواء كانت الأبخرة والأدخنة المتصاعدة، أو السوائل والمخلفات الناتجة عن عملية التصنيع، وكلها تنتشر في الهواء وتختلط بالمياه حاملة معها اخطر انواع السموم تأثيراً علي الصحة. ونحن في قولنا هذا لا نقلل من قيمة هذه المصانع علي الاطلاق، ولا نهدر فائدتها، بل نحن نقدرها ونثمنها عالياً، ونقدر من اقامها، لأنه لم ينتبه ولم ينبهه أحد الي ما سينجم عنها من آثار ضارة ومدمرة إذا اقيمت في المكان الذي اقيمت به. نعم، كان من الممكن ان تتم اقامتها في اماكن اخري بعيدة عن الكتلة السكانية، وفي اطار خطة متكاملة الجوانب، ليست صناعية فقط، بل وعمرانية وبيئية ايضاً، نضع الصناعة محل الاهتمام، ولا نهدر نظافة البيئة وصحة البشر. كان من الضروري ان يتم ذلك في إطار تخطيط عمراني اقتصادي كامل لمصر كلها، يضع في اعتباره نشر المجتمعات العمرانية والانتاجية الجديدة علي خريطة مصر كلها، بطول وعرض صحاريها ومساحاتها الممتدة في كل مكان، والممتدة باطرافها إلي شاطيء البحرين الابيض المتوسط والاحمر والمتلامسة شرقاً مع فلسطينالمحتلة، وغربا مع ليبيا وجنوبا مع السودان. وكان من الممكن ان يضع هذا التخطيط في اساسه وجوهره أنه يضع مستقبلا للأجيال القادمة لمئات وآلاف السنين القادمة والتي مازالت حلما في رحم الغيب،...، ولكن ذلك للآسف لم يتم التفكير فيه ولا العمل به، نتيجة العجلة العشوائية وغيبة العلم والمعرفة. غيبة التخطيط بالفعل لم يحدث ذلك للآسف، ولم يكن هناك من فكر وخطط بطريقة علمية وحضارية، بالرغم من أن العالم كله من حولنا كان قد أخذ بالتفكير العلمي وسيلة وحيدة لتحقيق الأهداف، وبالرغم من أن علوم التخطيط العمراني وإنشاء المجتمعات الجديدة كانت قد استقرت في العالم كله،..، ولكنها كانت غائبة عنا وسط الحماسة والتسرع وربما الإهمال ايضاً. ونحن في ذلك لا نوجه لوما الي احد بذاته أو فترة أو حقبة من الحكم بعينها، ولا نحاول أن ندين احدا، ولكننا فقط نرصد ما كان، ونحدد الاسباب التي وصلت بنا اليما نحن عليه الآن، ونحدد ان السحابة السوداء هي نتاج اسباب كثيرة أبرزها وفي مقدمتها علي الاطلاق افعالنا نحن وطريقة تفكيرنا نحن. ودون الدخول في تفاصيل عديدة، كلها مؤلمة ومثيرة للرثاء، بل والخجل ايضاً،دعونا نقولها بصراحة تامة،..، اننا فتحنا الباب واسعاً امام العشوائيات، نتيجة غيبة التخطيط الواعي والشامل والملزم في ذات الوقت،..، وفي ذلك يكون من المهم ان نذكر ان وجود تخطيط علمي لا يكفي وحده لتحقيق الهدف، بل لابد ان يتماشي معه، ويتواكب معه ضمان التزام الجميع بتنفيذ هذا التخطيط، وألا يتم الخروج عليه علي الاطلاق،...، وذلك لن يتحقق دون الانضباط الكامل والالتزام بالجدية الكاملة، والإيمان التام بقوة القانون واحترام هيبة الدولة، وترسيخ ذلك في نفوس الجميع. ما نريد أن نقوله بالضبط وبالتحديد، إن الجدية والانضباط والالتزام بالقانون هي الحل لما نحن فيه من ازمات ومشاكل، سواء كانت السحابة السوداء أو غيرها. وما نريد ان نؤكد عليه هو، ان العشوائية هي البديل للانضباط، وهي الطريق للفوضي والرجوع للخلف في طابور التقدم. وفي ظل العشوائية في الفكر والأداء رأينا القاهرة ومدنا اخري كثيرة في مصر، كانت يوماً ما جميلة ونظيفة، وتحولت رويداً رويداً إلي شيء بعيد عن الجمال، غريب عن كل ذوق، بل مثال للقبح، نتيجة عدم الانضباط والإهمال والعشوائية. مثالب كثيرة وفي ظل العشوائية ظهرت مثالب كثيرة وطفحت علي السطح بثور وندب تحولت الي بؤر للقذارة تشوه وجه مصر الجميل، ورأينا الأرض الزراعية في الدلتا وجميع المحافظات، تتناقص تدريجياً وباستمرار، وتتحول في غيبة الانضباط والتخطيط الملزم إلي غابات خرسانية وكتل سكانية مشوهة وقبيحة وفي هذا المناخ البائس، زاد الزحام وتلوث المناخ وتكدس البشر في المدن المزدحمة، وزادت العشوائيات وزاد الاستهلاك وقل الانتاج الزراعي والصناعي، وحدثت الفجوة بين الانتاج والاستهلاك، وهو ما فتح الباب امام الاستيراد، وتدهورت الحالة الاقتصادية بصفة عامة واصبحنا فيما نحن فيه الآن. وتواكب مع ذلك وتزامن معه ظهور خلل فيالسلوكيات و الاخلاقيات العامة، وسيطرت بعض المفاهيم الرديئة علي التعامل بين البشر، واثرت بالسلب علي العلاقات الاجتماعية والانسانية بينهم، سواء داخل الاسر، أو في المجتمع ككل، وظهرت بعض المفاهيم الخاطئة لدي كثير من الناس، كلها تشجع علي الإهمال والتسيب والفوضي، والخروج علي القانون، وتقلل من قيمة العمل والكفاءة والجدية والانضباط، غير واعين أن ذلك هو طريق الانحدار والتخلف والسقوط من ركب التقدم نحو المستقبل الافضل. والآن،..، اعتقد ان السحابة السوداء ليست نقطة سلبية في حد ذاتها فقط، وليست بؤرة صديدية منفصلة عما حولها، ولكنها للأسف جزء من كل ونتيجة مباشرة وطبيعية لانتشار العشوائية في التفكير والسلوك والأداء، وكذلك انتشار الإهمال وغيبة الجدية وغياب الالتزام،...، ودعوني اقولها بكل صراحة لا تقدم ولا حداثة في غيبة العلم وغياب الانضباط والالتزام بالقانون.