إذا ما تحدثنا عن أعلام البيئة ممن ذاع صيتهم في المحافل الدولية،. لابد أن يتبادر إلي ذهننا علي الفور الدكتور مصطفي كمال طلبة والدكتور محمد القصاص اللذان أفنيا حياتهما وعلمهما في خدمة البيئة المصرية.. ويضاف إلي هذا السجل بالتأكيد الدكتور صلاح عرفة أستاذ الفيزياء بالجامعة الأمريكية، فعرفة من أوائل العلماء الذين عايشوا البسطاء في القري المهمشة، واستطاع في منتصف السبعينيات بمشاركة هؤلاء البسطاء أن تصبح قرية مثل البسايسة بالشرقية نموذجا عالميا للقرية المصرية.. واستطاع من خلال الموارد المحلية البسيطة واستخدام الطاقة الشمسية وتدوير المخلفات وتشغيل الشباب وافتتاح مدارس أهلية، أن تتحول لقرية نموذجية! قاد عرفة في بداية التسعينيات مجموعة من شباب الشرقية لإقامة مجتمع جديد في صحراء سيناءالجديدة علي مساحة 7500 فدان وأصبح المجتمع الذي أنشأه يعيش الآن علي الاكتفاء الذاتي باستغلال البيئة المحيطة سواء الطاقة الشمسية والبيوجاز والكمبوست للزراعة العضوية والعمارة الخضراء وتكنولوجيا الري بالتنقيط، حتي أنه تم تخصيص 8 أفدنة لكل شاب يقيم عليها مزرعة وبيتا صغيرا. أعاد الدكتور صلاح عرفة تجربة البسايسة تحت نفس المسمي البسايسة الجديدة في محافظة الوادي الجديد في ،2007 ليكون بذلك أول رائد للهجرة الداخلية للصحراء في مصر! جهود ونشاط د. عرفة، المعروفة عالميا ومحليا، جعلته أول المكرمين من قبل وزارة البيئة والجمعيات الأهلية وعلي رأسها جمعية كتاب، وكان لابد أن نستمع في روزاليوسف لشهادة عالم بحجمه حول البيئة في مصر وكان لنا معه هذا الحوار. - د. صلاح رغم إنشاء وزارة البيئة وقبلها جهاز شئون البيئة منذ ما يقرب من عشرين عاما إلا أن البيئة في مصر تزداد سوءا.. هل يرجع ذلك إلي قصور دور الوزارة.. أم لغياب مفهوم البيئة السليمة عند الدولة والمواطنين؟ - لابد أن نعترف بأن وزارة البيئة ليست مثل وزارة التجارة والصناعة أو الزراعة والري، لكنها تشمل كل ما يخص البيئة سواء كانت من اختصاص الوزارات أو خارج اختصاصها.. وتكون النظرة قاصرة لو اتهمنا وزارة البيئة بالتقصير لأننا نحملها أكثر من طاقتها في ظل إمكانيات ونفوذ قليلين.. المفترض أن تعمل جميع الوزارات في حماية البيئة وأن يتم محاسبتها علي أي تقصير تجاه البيئة خاصة فيما يخص المصانع ونهر النيل.. لكن ما يحدث أن هناك عدم تنسيق بين الوزارات وتسيد ثقافة الأنا بين المسئولين في تلك الوزارات إذا كان هذا المشروع علي سبيل المثال سيبرز اسم المسئول أو الوزير فلنهتم به.. وإذا لم يظهرنا في الصورة سيتم إهماله، بل ربما تتم محاربته أيضا! أي أن كل وزارة لا تهتم إلا بشكل الإنجازات حتي لو كانت علي حساب البيئة.. والدليل علي ذلك أن هناك تجاوزات كثيرة تتم بفعل شركات قطاع الأعمال أو قطاع خاص لرجال أعمال ولا تستطيع وزارة البيئة وقفها! - هناك قانون للبيئة منذ 1994 وتم تعديله وتفعيله العام الماضي ومع ذلك لا نشعر بتأثير هذا القانون أو غيره من القوانين؟! - بداية نحن لدينا من القوانين ما يكفي.. لكن ببساطة لا يتم تنفيذها لتفشي ما يسمي بالفساد الإداري.. مخالفات البيئة يتم إغفالها علي نمط المحضرين في المحاكم بأنه لم يستدل علي العنوان باستغلال الروتين علاوة علي عدم ردع بعض القوانين وضآلة الغرامات التي يدفعها المخالف ويستمر في تلويث البيئة، للأسف قوانين البيئة غير ملزمة للكبار ولا تستطيع وزارة البيئة مواجهتها وحدها.. لذلك لابد من إعطاء وزارة البيئة صلاحيات لتكون أكثر فعالية بداية بتحويلها إلي وزارة تنفيذية وليست وزارة دولة وحتي ذلك الحين في بلد مثل بلادنا، ولمواجهة المخالفات الصارخة لابد أن يكون القرار فوقيا خاصة عندما يكون هناك تعارض بين الوزارات. - هناك ثلاث مشاكل رئيسية عجزت أجهزة الدولة عن حلها رغم وضوح المشكلة والعلاج وهي القمامة وتلويث نهر النيل والزراعة علي مياه الصرف الصحي والصناعي.. ما هي رؤيتك للحل؟ - بالنسبة لمشكلة القمامة، هناك مفهوم أساسي معروف في كل بلاد العالم إلا مصر وهو ثقافة فصل القمامة من المنبع وذلك بقيام سيدة المنزل أو في جميع الأماكن بفصل المواد الصلبة عن المواد العضوية.. وكان المفروض أن يتم ذلك من خلال التوعية في المدارس ووسائل الإعلام بتركيز واستمرارية.. هذا المفهوم يمثل نسبة كبيرة من حل المشكلة وهو لا يتم! أيضا تزايد العشوائيات في جميع المحافظات وخاصة القاهرة كشف عن وجود أعداد هائلة من سكان تلك العشوائيات تعيش علي القمامة سواء بالبحث عن الأخشاب والمخلفات إما للاستفادة منها أو بيعها.. التعامل لسكان العشوائيات مع فرز القمامة يتم بشكل فوضوي هائل حول المربع المحيط بكل صندوق قمامة إلي تلال وخرابات. ثم نأتي للشركات الأجنبية التي بدأت العمل بأسلوب خاطئ وهو جمع القمامة من الشوارع وقامت بالاستغناء عن عشرات العاملين وأيضا الزبالين، وأصرت علي جمع القمامة من الصناديق، غافلة تماما البعد الاجتماعي، لكنها بعد الاستغناء وجدت نفسها رغم وجود الإمكانيات والسيارات الكبري عاجزة عن جمع تلك القمامة التي أصبحت تستمر أياما بدون أخذها. كل ذلك يحدث في ظل غياب دور الدولة والرقابة.. فلا أحد حاسب المواطنين ولا الشركات.. وما يحزنني أن أساتذة أمريكيين وأوروبيين يعيشون في مصر يتعجبون من وضع القمامة ويريدون تقديم خدماتهم أو تجارب بلادهم التزاما منهم بأنهم يعيشون في هذا البلد ولو بشكل مؤقت لأنهم تعودوا علي العمل بإخلاص.. ومع ذلك يتم تجاهلهم وهم يسألونني: لماذا لا تريدون تنظيف هذا البلد؟! - مشكلة السحابة السوداء فرضت نفسها لما يزيد علي 10 سنوات ولم تنجح جهود وزارة البيئة وغيرها من الوزارات في القضاء عليها.. ما رأيك في التصريحات الأخيرة التي أكدت أن سوء الأحوال الجوية مؤخراً هو سبب زيادتها؟ - معروف أن السحابة السوداء نتاج عدة أسباب مجتمعة أهمها العوادم وحرق قش الأرز والقمامة يضاف إليها حالة السكون الجوي.. واستمرار السحابة طوال السنوات السابقة بسبب غياب التنسيق بين الجهات المسئولة ولصدور قرارات لم تنفذ وضبطيات غير سليمة.. أيضاً هناك عدة مشروعات طرحت للاستفادة بقش الأرز ولم نر نتائج ملموسة لتلك المشروعات بدليل أن قش الأرز مازال يتم حرقه رغم أنه يمثل ثروة حقيقية يمكن أن تستخدم لتنمية المجتمع.. أما الأحوال الجوية التي حدثت مؤخراً فلا يمكن أن تكون وحدها السبب في زيادة السحابة السوداء. - هناك مستثمرون جادون حاولوا الاستثمار في مجال تدوير مخلفات القمامة لكنهم واجهوا كمًّا من العراقيل جعلهم يتجهون إلي مشروعات الكسب السريع والمواد الاستهلاكية وفقدنا عدة مستثمرين أعرف بعضهم كفر بخدمة البلد؟ - هذا جزء من الفساد الإداري لأن المستثمر في هذه الأحوال يطلب علي سبيل المثال قطعة أرض لإقامة مصنع لتدوير المخلفات، لكن لأن هذه الأراضي محجوزة لبعض رجال الأعمال أو لأشخاص سوف يدفعون أسفل المنضدة، فلن يجد هذا المستثمر الجاد من يساعده، هذا بخلاف الروتين والتلاعب بالقوانين وعدم الحماس لأي مشروعات تنهيضية بالبيئة. ما يهم أن القمامة تمثل عقداً من عدة حلقات متشابكة إذا سقطت حلقة انفرط العقد وتداعت المنظومة من أساسها، وذلك ما حدث في مشكلة القمامة، والحقيقة أن عدة حلقات قد تداعت في تلك المنظومة لدرجة أننا عجزنا فيها عن حل مشكلة بسيطة مثل جمع القمامة!! - ماذا عن تلوث نهر النيل والزراعات علي الصرف الصحي والصناعي ؟ - ما يحدث لنهر النيل مصيبة كبري.. وكيف أترك المصانع تلقي مخلفاتها في النيل بدون وضع غرامات كبيرة، أو محاكمات جادة؟ هناك شماعة تسمي توفيق الأوضاع البيئية.. تلك الشماعة غير معروف مدتها، ومدي التزام المصانع بها.. أيضا كيف يترك مسئولو الري والزراعة سيارات الصرف الصحي للقري لتلقي هذه المياه سرا وليلا في نهر النيل ؟! - كارثة تلوث نهر النيل لابد أن تحل بحسم، لأن الأمراض الوبائية انتشرت بالفعل.. وهناك فاتورة كبيرة يدفعها المصريون من دمائهم وأرواحهم وتدفعها الدولة في المستشفيات، والدليل أن معظم شباب مصر يعاني من أمراض لا تتناسب مع أعمارهم، كل ذلك بسبب المياه الملوثة والزراعات الملوثة.. أؤكد أن أغلي ثروات الوطن هو المواطن، وأغلي ثروات المواطن هي الصحة.. والصحة تحتاج إلي بيئة سليمة، ومطلوب قرار رئاسي لإنقاذ نهر النيل. - نفس المشكلة تحدث في كارثة الزراعة بمياه الصرف الصحي والصناعي في ظل غياب تام للضمير وانتشار الفساد والإهمال.. وهناك سبب جديد هو عدم الوعي، فهناك من لا يدرك بشاعة وخطورة الزراعة علي تلك المياه.. لكن أين الرقابة؟! - التغير المناخي مشكلة عالمية لكن لها تأثير سلبي شديد علي مصر كأكثر الدول المضارة.. ورغم وجود لجنة وطنية تتبع مجلس الوزراء إلا أنه لا توجد خطة لمواجهة ما قد يترتب علي التغير المناخي مثل غرق أجزاء من الدلتا والهجرة والتصحر ونقص المزروعات والأمراض الوبائية! - للأسف دول كثيرة استعدت من الآن لأي أزمة قد تحدث نتيجة للتغيرات المناخية.. فمثلا دول شمال البحر المتوسط مثل فرنسا أعدت خطتها لمواجهة الأمراض الوبائية مثل الملاريا التي تصيب البعض نتيجة ارتفاع الحرارة ونشاط الفيروسات، ومع ذلك لا نزال خارج هذا الإطار ؟! - صحيح أننا لسنا المتسببين في التغيرات المناخية والمفترض أن الدول الصناعية المتقدمة هي التي تدفع لنا الفاتورة وهي بالفعل علي استعداد لمساندة الدول المضارة ومنها مصر.. لكني أتساءل: هل قدمنا دراسات وثيقة لاحتمالات الضرر، وتكاليف هذه الأضرار وآليات معالجة الأزمات الناتجة عنها؟! بالإضافة إلي أن المطالب التي تحتاجها هذه الدول لن تدفع إلا لدول مسئولة تعرف كيف ستعالج المشاكل المترتبة ولديها خطط عاجلة وآجلة وآليات المواجهة. نحن نحتاج لتفعيل أداء اللجنة الوطنية للتغيرات المناخية والتي تضم وزراء وعلماء أنا منهم .. ويتم هذا التعامل علي المستويين المحلي والدولي.. ولابد من وجود خطط طوارئ. - بما أنك عضو نشط ومسئول في عدة جمعيات أهلية معنية بالبيئة. ألا تري أن معظم الجمعيات تعتمد علي المنح الأجنبية و مع ذلك لم تقدم شيئا ولم تساهم في إنقاذ البيئة؟ - الحكومة تركت الجمعيات الأهلية كلها ومنها البيئة تتسول من الخارج، ولم تساند أو تدعم الجمعيات الجادة، وهنا مكمن الخطر.. لأن تلك الجمعيات تنفذ أجندة أجنبية.. لو كانت الجمعيات الأهلية تعمل بجدية لتغيير حال البيئة في مصر.. ولا يعني ذلك رفضا تاما للمساعدات، لكن نعني أن تعمل الجمعيات الأهلية البيئية بجهودها الذاتية، وبمساعدة الدولة أولا وتحدد أجندتها بنفسها، وفي هذه الحال يمكن تقبل مساندة جهة ما لتحقيق تلك الأجندة. - بمناسبة تكريمك هذه الأيام نتيجة جهودك في إنشاء عدة مجتمعات تحت اسم البسايسة ألم تصادف أي مصاعب أو مشاكل؟! - الإصرار علي مشاركة المواطنين بجهودهم الذاتية واستغلال الثروات المتاحة مثل طلب مساعدة الحكومة جعلت المسئولين يسعدون بدعمهم لنا لأن أول نجاح في البسايسة بالشرقية سببه أن المواطنين تعمدوا أن يبدأوا بالعمل أولا ثم طلب مساعدة الدولة ! هذا ما حدث في قرية البسايسة عام 1974 عندما قررنا إدخال الطاقة الشمسية وتدوير المخلفات وإنشاء أول معمل في الهواء وأول مدرسة أهلية كل ذلك تم بمشاركة أهالي القرية.. لذلك عندما كنا ندعو المسئولين ليروا مدي الجهد المبذول من الأهالي كانوا يوفرون لنا كل ما نطلبه، وهذا النجاح جعل سمعة البسايسة تخرج للعالمية.. ما أريد أن أوضحه أن تلك المجتمعات لم تقم إلا بمشاركة المواطنين ومساهمتهم وتأكدهم من الاستفادة واستمرارية العمل واستمرار عمل الأجيال.. فالطالب الصغير الذي كان يستمع إلي ويصاحبني وعمره 15 سنة في قرية البسايسة في السبعينيات يتولي الآن زمام المبادرة في القرية.. وهو أستاذ في الزراعة ورئيس الاتحاد الإقليمي للجمعيات الأهلية بالشرقية.. أيضا لا أعفي أي مثقف أو أي إنسان لديه درجة من العلم من المسئولية لكي يتولي مهمة وطنية، سواء خدمة البيئة أو المجتمع.. لأنه للأسف هناك كثيرون في مصر يعرفون، لكن لا يعملون.. ونحن في مصر لا نفتقد القادة، ولكن نفتقد القدوة!؟