هذا الطريق يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وأصبح خارج إطار الصلاحية، وتحول إلي سيرك ممتلئ بالاكروبات والحوادث وبؤر التلوث. نحن الآن في عز الظهر كما يقولون، الساعة بعد الثانية عشرة بعدة دقائق، أي في منتصف النهار، الجو خانق والهواء ثقيل لزج، مشبع بالرطوبة والغبار، بحيث تحول إلي غلالة رمادية كثيفة من الدخان المترب، أو التراب المدخن، الذي كون ساتراً، يكاد يحجب الرؤية ويعوقها علي مبعدة أمتار قليلة، بعد ان حجب أشعة الشمس ومنع تسللها، وأحبط محاولاتها للنفاذ إلي الأرض. رائحة حرائق القش ومخلفات أخري تكتم الأنفاس، وتشيع في النفس إحساساً سيئاً ومحبطاً، وإيحاء بقرب الاختناق نتيجة التلوث، وندرة الهواء النقي، وغياب الأوكسجين. كنت في طريق العودة للقاهرة بعد أداء أحد الواجبات الاجتماعية، وشاء حظي أن أكون واحداً من الموعودين بالعذاب علي الطريق الزراعي الرئيسي مصر الاسكندرية، الذي أصبح لا يطاق علي الإطلاق في كل الأوقات للأسف، خاصة في عز الظهر، و..، ولمن لا يعرفون فإن أشكال العذاب علي هذا الطريق متعددة، ولكن نتيجتها واحدة، وهي ضياع وإهدار الوقت بسبب ودون سبب، بحيث يمكننا القول بصدق »تعددت الأسباب، وضياع الوقت واحد، علي هذا الطريق«. وهذه في الواقع هي السمة الأساسية الآن لهذا الطريق المأسوف عليه وعلي تاريخه، الذي كان في يوم ما منذ سنوات مضت، متعة للناظرين بمساحات الخضرة الممتدة عليه لمئات الكيلو مترات، كبحر أخضر واسع مترامي الأطراف، عبر آلاف بل ملايين الأفدنة المزروعة بطول وعرض الدلتا كلها، ..، ولكن للأسف تم استبدال ذلك بسلسلة كريهة الشكل وكالحة الصورة من التجمعات الحجرية والغابات الأسمنتية تربط بين كل المحافظات، وجميع القري والمدن في فجاجة وقبح يفوقان الوصف. سيرك ضخم والمتابع لحالة هذا الطريق يلفت انتباهه بشدة أنه يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، بحيث أصبح بالفعل والواقع خارج إطار طرق السفر الصالحة للاستخدام الآمن، بعد أن تحول إلي سيرك ضخم يضم جميع أنواع السيارات والمركبات وعربات النقل الثقيل والمتوسط والخفيف، وحتي التكاتك وأيضاً عربات الكارو والميكروباصات، ..، وكلها تتحرك وتلتوي، وتندفع وتقف، وتقذف بنفسها من مكان إلي آخر، فيما يشبه الأكروبات دون مانع أو رادع، ودون مراعاة لأصول القيادة، أو قوانين السير علي الطرق، أو آداب المرور، أو أي شيء آخر له صلة باحترام الدولة لمواطنيها، وحقوقهم في الانتقال الآمن من مكان إلي آخر. والمضطرون للسير والسفر علي طريق مصر الاسكندرية الزراعي يدركون أنه رغم بشاعة الحالة المتردية والمتدهورة التي وصل إليها هذا الطريق، إلا انهم لا يملكون بديلا عنه،..، وبالرغم من المخاطر التي أصبحت تحلق فوق رؤوس المسافرين عليه، نتيجة الفوضي المسيطرة والسائدة علي كل مواقعه وأجزائه، إلا أنهم مجبرون للأسف للسير عليه، نظراً لعدم وجود بديل آخر، حيث إنه الشريان الرئيسي للربط بين القاهرة والمحافظات المختلفة، ولذلك فقد وطنوا أنفسهم علي احتمال جميع مساوئه ومخاطره.. ولكن الملاحظ أن الأمر زاد عن حده كثيراً خلال الشهور الماضية، فقد اتسعت مساحة الفوضي وتعددت مظاهر عدم الانضباط، وشاعت وانتشرت حالات الخروج علي القانون، وأصبحت القاعدة المعمول بها علي هذا الطريق هي الانفلات العام والسير والقيادة دون ضابط ولا رابط، بحيث تعددت الحوادث بصورة غير مسبوقة، وزادت المخاطر بصورة لم تكن متوقعة، ..، والناس مضطرون لركوب الصعب والسير علي هذا الطريق الإجباري وصولا إلي مقاصدهم، وأنا مضطر مثلهم. الحركة المقيدة ولكوني واحداً من المضطرين للسفر علي هذا الطريق، فقد كنت ولازلت أعرف ما يعلمه كل المسافرين عليه، بأن المسافة بين مدينة طنطاوالقاهرة لا تتجاوز التسعين كيلو متراً تقريباً، ومن المفترض في حالة السرعة المتوسطة، والتي لا تزيد علي معدل تسعين كيلو متراً في الساعة، أن يتم قطع المسافة في حوالي الساعة والربع أو أقل قليلاً،..، هذا هو المفروض، وإذا كان الطريق طريقاً عادياً مؤهلاً وصالحاً للسفر، وتتوفر فيه جميع الشروط اللازمة لذلك، مثل بقية الطرق المنتشرة في كل أنحاء العالم. ولكن طريقنا هذا ليس مؤهلاً ولم يعد صالحاً للسفر، ولا تتوفر فيه الشروط الواجب واللازم توافرها، فهو مكدس بالسيارات، ممتلئ بالعربات، فاض به الكيل وزاد بحيث تحول الوضع عليه من الحركة السلسة والسائلة طبقاً لمعدلات السرعة المتعارف عليها، إلي الحركة المقيدة والجامدة إذا جاز التعبير، بل وفي أحيان كثيرة أصبح الوضع الطبيعي عليه هو اللاحركة أو السكون لأوقات وأزمنة متفاوتة وممتدة. ودون مبالغة أمضينا أكثر من ساعتين ونصف الساعة بعد أن غادرنا طنطا، ولم نصل إلي القاهرة بعد، بل كنا مازلنا علي أبواب القليوبية، بعد توقف متعدد ومتتابع علي امتداد المسافة من طنطا إلي شبين الكوم وقويسنا ثم بنها، ولأسباب متنوعة ومختلفة، منها علي سبيل المثال لا الحصر، ثلاث حوادث تشمل الاصطدام بين سيارتين، وانقلاب مقطورة إحدي سيارات النقل، وبعثرة حمولتها علي الطريق، وجنوح ميكروباص نتيجة الرعونة وسوء القيادة واصطدامه بالرصيف ثم اصطدام ميكروباص آخر به، كان يحاول تجاوزه وسط الزحام، وفي كل حادث وحوله هناك تكدس للسيارات وركابها، وهناك جمهرة تحاول استجلاء الأوضاع، وعمل اللازم، ومحاولة المساعدة إذا كان هناك حاجة إليها، وهذا شيء محمود، خاصة إذا كان هناك مصابون يحتاجون إلي طلب سيارة إسعاف أو النجدة، أو الانتقال السريع إلي أحد المستشفيات. لكن التكدس والتجمهر هو الشيء غير المحمود علي الإطلاق، حيث يتسبب في الضرر الشديد بالمصابين، وتعطيل محاولات إسعافهم نظراً للفوضي والتكدس وصعوبة التحرك، وتضارب الاجتهادات واختلاف الآراء وتعارضها، هذا بالإضافة إلي ما يسببه التكدس من توقف كامل للحركة علي الطريق، مما يعوق وصول سيارات الإسعاف للمصابين. ريمة وعادتها القديمة وإذا كانت هناك ملاحظة جديرة بالتسجيل في هذا السياق، فهي بالتأكيد ما لفت نظري وشد انتباهي بقوة طوال الطريق وبعدما شاهدته من حوادث عليه حيث لمست غياباً واضحاً لرد الفعل الطبيعي والمتوقع من قادة السيارات في أعقاب رؤيتهم لهذه الحوادث المتكررة خلال سيرهم علي الطريق، ..، حيث من الطبيعي أن نتوقع حرص كل قائدي السيارات علي الحذر في القيادة ومحاولة التروي والتقليل من السرعة ومراعاة الانضباط، ولكن للأسف لم يحدث ذلك، بل استمر الحال علي ما كان عليه، بمجرد الابتعاد عن موقع الحادث بعدة أمتار، فإذا بالفوضي مستمرة والخطورة قائمة، وعدم الانضباط هو سيد الموقف، ..، وكأن شيئاً لم يحدث منذ دقائق، أو علي مبعدة قليلة، وكأنه لا وجود لأحد يمكن أن يأخذ عبرة مما جري، ومما حدث منذ فترة وجيزة، ..، وكأن الثابت الوحيد هو أن ريمة تعود دائماً لعادتها القديمة، ..، ولله الأمر من قبل ومن بعد. في السحابة السوداء وهناك ملاحظة أخري يصعب تجاهلها أو غض الطرف عنها من جانب المسافر علي هذا الطريق، نظراً لوجودها الظاهر، وتأثيرها الواضح والذي لا يمكن تجاهله أو تجنبه، وكيف السبيل إلي ذلك، وهذا التأثير يطبق علي الصدر، ويكاد يخنق البشر المسافرين علي الطريق، بفعل الهواء المشبع بالدخان الخانق، المنبعث من الحقول المشتعلة بحرائق قش الأرز وحطب القطن وغيرها من بقايا ومخلفات المزروعات والمحاصيل التي لا يجد الفلاح وسيلة للتخلص منها غير الحرق، في ظل غيبة كاملة لعمليات المتابعة من جانب الإدارات المحلية وأيضاً المركزية، وانشغال الكل بشئونه الخاصة. وفي مشكلة أو قضية السحابة السوداء بكل سلبياتها هناك حقيقة لابد ان ندركها بوضوح، في اطار المصارحة الواجبة مع النفس، والمسئولية المؤكدة تجاه الاخرين، وهي أن وجود ظاهرة السحابة السوداء سوف يستمر رغم خطورة تأثيرها علي الصحة العامة، طالما عجزنا عن اتباع الوسائل والأساليب التي لجأ إليها العالم شرقه وغربه لحل هذه المشكلة والقضاء عليها،...، ولكن هذا موضوع شرحه يطول، وتلك قضية مهمة تحتاج لتناولها بكل تفصيل في يوميات قائمة بذاتها. في الصحراء ورد واقفة في امتداد الصحراء، قدماها تغوصان في الرمال، ويمتص الهجير آخر رمق في عينيها التي تتجه إلي غيمة في السماء تتضرع إليها أن تهطل، أن تروي عطشها قبل أن يصادر الهجير آخر رمق للحياة فيها، ..، الغيمة تبقي معلقة في السماء، شحيحة هي الأخري كمثل الحياة التي عاشتها، لا يتكاثف بها المزن، تبقي باهتة وضعيفة كرحم امرأة تشهت أن تنبت الروح فيها، لكنها بقيت خاوية، كرسائل الأحبة التي تختمر في الصدور وتضيق بها الأوراق التي فقدت بياضها. ليس للغيم معني إذا لم يمطر، وليس للحياة معني لو لم تختلج فيها رعشات المحبة. وبقيت واقفة في الصحراء، عيناها معلقة بالغيمة، وقلبها مسمر في انتظار عابر ربما تحمله لها الريح، ويكون لديه جناحان يحملها بهما إلي حيث الماء والحياة. هذه واحدة من إبداعات الأديبة الدكتورة »حصة لوتاه« الأستاذ المساعد بجامعة الإمارات العربية، والمتخصصة في علم الاتصال الجماهيري، وصاحبة الخبرات المتعددة في هذا المجال، في الصحافة المكتوبة، والإعلام المرئي، ولها العديد من الدراسات والبحوث في الإعلام والثقافة. »وفي الصحراء ورد« واحدة من القصص القصيرة جداً الواردة في مجموعتها القصصية الجديدة الصادرة عن »دار العين« بالاسكندرية، والمجموعة محاولة جادة للغوص في أعماق النفس البشرية، والتعبير الصادق عما يعتمل بها من أحاسيس وانفعالات.