رغم ما نعانيه ونشعر به في القاهرة جراء السحابة الملعونة، إلا أننا محظوظون بالقياس لما يعانيه أهلنا في محافظات الدلتا دون أدني مبالغة علي الاطلاق تستطيع القول بأن هناك اهمالا شديدا في التعامل مع هذه القضية بالغة الأهمية،...، بل للأسف نستطيع التأكيد أن هذا الاهمال يصل إلي درجة التفريط البالغ في حق كل مواطن يعيش علي أرض هذا الوطن، ويتنفس هواءه. وإذا قلنا إنها قضية اهمال شديد، فذلك واقع وقائم بالفعل دون تهويل أو تزييد،..، وإذا كان السؤال المطروح علينا وعلي الجميع، هل هناك أهم من الصحة العامة للمواطنين في أي دولة من الدول،...، فإن الاجابة بالتأكيد ستكون دون تفكير، هي انه ليس هناك بالقطع أهم ولا أخطر من هذه القضية بالنسبة لكل البشر وكل الناس. وفي ظل هذه الاجابة تكون أمام اتفاق جمعي يحتم علينا البحث بجدية في أسباب هذا الاهمال الشديد في هذه القضية أو تلك المسألة، بما يمثل خطرا مؤكدا علي صحة المصريين،...، وبالمناسبة هو خطر ظاهر وواضح للعيان، مرئي ومشموم ومحسوس من الجميع. فهو خطر مرئي، بمعني انه مشاهد من الكل، وحرائقه ونيرانه وسحبه ظاهرة للعيان، غير خافية علي أحد، بل ملفتة للنظر تتحدي الكل، وتخرج لسانها للجميع. وهو خطر مشموم، لأن رائحته الكريهة والرديئة والنفاذة تقتحم كل الأماكن، وتعلق في كل الأجواء، وتدخل كل البيوت دون استئذان، وتفرض نفسها علي الجميع، وتسد عليهم المنافذ، وتجبرهم علي استنشاقها حتي ولو كانت خانقة.. وهي كذلك بالفعل وهو خطر محسوس، لأن اثاره واضحة، نظرا لما تحمله سحب دخانه الأسود من غازات سامة، تتسلل إلي جسد كل منا، مقتحمة جهازه التنفسي، حاملة معها قدرا هائلا من الدمار للجسد المغلوب علي أمره، والذي لا يملك مهربا أو وسيلة للنجاة منها سوي أن يتوقف عن التنفس، اذا استطاع لذلك سبيلا.
وطالما اننا نتحدث عن حرائق ونيران وسحب ودخان أسود مسمم وخطر مؤكد علي صحة البشر، فأعتقد اننا نعرف ان ما نقصده وما نعنيه هو »السحابة السوداء«. نعم نحن نتحدث عن السحابة السوداء التي تحمل في طياتها خطر الموت لنا جميعا أو علي الأقل خطر المرض العضال، نجانا الله ونجاكم منه اجمعين. نتحدث عن هذه السحابة الملعونة التي مازالت تفرض نفسها علينا، وعلي كل المصريين، ضيفا ثقيلا غير مرغوب فيه ولا مرحب به للسنة الخامسة عشرة علي التوالي، حيث انها ظهرت ولأول مرة في مثل هذه الأيام من خريف عام 1998، وأبت علي الرحيل منذ هذا الحين وحتي الآن. ورغم كل التصريحات والأقوال المعلنة من جانب المسئولين في جميع الحكومات السابقة، والتي بشرتنا بإجراءات فاعلة للخلاص منها والقضاء علي أسبابها، إلا انها مازالت باقية، راسخة علي قلوبنا ترفض الرحيل وتأبي أن تغادرنا. وفي كل مرة تسوقني الأقدار إلي إحدي محافظات الدلتا، أشعر بمدي المعاناة التي يعانيها اهلنا في هذه المحافظات وهم يختنقون آلاف المرات من جراء استنشاقهم الاجباري للهواء المحمل بغازات الموت المتصاعدة من حرائق قش الأرز ومخلفات الحصاد والقمامة وغيرها التي هي العماد الأساسي والمكون الرئيسي لسحابة الموت التي هي السحابة السوداء. ورغم ما نعانيه ونشعر به في القاهرة جراء هذه السحابة الملعونة، إلا اننا محظوظون بالنسبة وبالقياس لما يعانيه اهلنا في محافظات الدلتا،...، فنحن اذا كنا نكاد ان تختنق في بعض الأحيان، فهم يختنقون فعلا،...، وفي كل الأحيان، وفي ذلك أقول كان الله في عوننا، وكان الله في عونهم من قبلنا، حيث انهم اصبحوا ضحايا سحابة الدخان والتلوث التي عششت في سماء محافظاتهم كلها. واذا ما أردنا التعرف عن قرب علي حدود الخطر الذي يحيق بنا جميعا بسبب هذه السحابة المدمرة، فعلينا ان نتبع ما يؤكده الأطباء المتخصصون من زيادة نسبة الإصابة بالحساسية الصدرية والجهاز التنفسي، وقصور الدورة الدموية، وزيادة ضغط الدم، والاضطرابات القلبية، وأيضا حساسية العيون في هذه المناطق الموبوءة بالسحابة القاتلة، وذلك نتيجة الاستنشاق القهري للهواء الملوث بنسبة عالية من الغازات الخانقة والسامة، مثل أول وثاني أكسيد الكربون، وأكاسيد الكبريت والنيتروجين، وغيرها من الغازات المؤثرة بالسلب علي الصحة العامة.
وما يجب أن تدركه هو أن هذه السحابة السوداء هي نتاج اعمالنا السيئة وأفكارنا العشوائية واهمالنا الزائد عن الحد والذي أصبح للأسف منهج حياة، لابد من التخلص منه اذا ما اردنا لأنفسنا الخير ولبلدنا التقدم. هذه للأسف هي الحقيقة التي لابد أن نعترف بها إذا اردنا لأنفسنا النجاة مما نحن فيه الآن،...، وأي تفكير جدي وموضوعي في هذه السحابة السوداء التي تلازمنا منذ خمسة عشر عاما ولم نستطع أن نتخلص منها، نجد انها بالفعل مثالا واضحا وفجا علي ما يمكن أن تؤدي إليه عشوائية التفكير والأداء، وادمان الاهمال، في زمن لم يعد فيه مكان لهذه الأمراض التي هي نتاج التخلف ولا تؤدي إلا إلي مزيد من التخلف،...، وأحسب أن الوقت قد حان الآن كي نتخلص من داء الاهمال وان نبرأ من عشوائية التفكير والأداء، وان ندرك أن العلم والتخطيط والعمل الجاد هي وسائل التقدم وتحقيق الأهداف والانتقال إلي المستقبل الأفضل.
وقد يتخيل البعض ان استخدام السحابة السوداء للدلالة علي ما نحن فيه من عشوائية التفكير، وقصور الأداء والفعل، هو جنوح للمبالغة أو تحميل للأمور فوق ما تحتمل، ولكن ذلك ليس صحيحا للأسف، حيث ان وجود السحابة السوداء بالفعل هو مثال حقيقي وواقعي علي عشوائية التفكير، وغيبة التخطيط العلمي، وعدم الوعي بالمتغيرات من حولنا، وقلة النظر بعين الاحترام إلي البيئة التي نعيش فيها والهواء الذي نتنفسه،...، وأشياء أخري كثيرة. وإذا ما تفكرنا في هذه السحابة ووجودها المفروض علينا كرها، لوجدناها تكشف عن سلبيات عديدة تحيط بنا ونتعايش معها، أكثرها موروث نتيجة الجهل وعدم المعرفة بخطورة التلوث الهوائي بصفة خاصة وغيبة الاهتمام بنظافة البيئة بصفة عامة، وتأثير ذلك المدمر علي صحة البشر، بما يؤدي بالضرورة إلي انتشار الأمراض، وإعاقة جهود التنمية في المجتمع كله. وأكثر هذه السلبيات بروزا علي الاطلاق، هو غيبة الوعي البيئي لدي عامة المواطنين، وكذلك الكثير من المسئولين، في الوقت الذي يتعاظم فيه الاهتمام في جميع دول العالم المتقدم بالحفاظ علي البيئة ونظافتها، باعتبارها المقياس الحقيقي للفارق بين التخلف والتحضر الإنساني. ويكفي للدلالة علي ما نقول، الإشارة إلي ما تمتليء به القاهرة من »زبالة«، ونفايات وقمامة، وما تفيض به القاهرة الكبري من مصادر ملوثة للبيئة، وما تطفح به قرانا ومدننا وطرقنا من تلال التلوث من كل لون وعلي كل صورة.
ونظرة متأملة علي حال القاهرة الآن تكفي لإصابتنا جميعا بالاحباط الشديد، بل القرف الشديد ايضا مما ألت إليه الأحوال في العاصمة التي كانت في يوم من الأيام جميلة ونظيفة تبعث علي البهجة وتحظي بإعجاب كل من يقيم فيها أو يزورها،...، ولكنها اصبحت اليوم في حالة من البؤس و»الهرجلة« والفوضي والقذارة والتلوث، يصعب احتمالها أو التعايش معها. ولو ألقينا هذه النظرة علي الطرف الجنوبي للقاهرة، حيث منطقة حلوان، التي كانت منطقة استشفاء بالغة الأهمية وذائعة الصيت في العالم كله، طوال العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وكانت بقعة جذب للسياحة العلاجية علي مستوي العالم، يأتيها الناس من جميع الدول للاستمتاع بجوها الرائع، والاستشفاء بمياه عيونها الكبريتية الشهيرة،...، فإذا بها تتحول بفعل ايدينا وتفكيرنا المندفع وغير المدروس، بل العشوائي، إلي مكان خال من الجمال طارد للاقامة والسكن، بعد ان تشبع هواؤها بدخان المصانع الخانقة، وطفح برماد الأسمنت القاتل، ثم اضفنا إليه كما هائلا من المخلفات والقمامة يصعب احتماله. ولو انتقلنا بالنظر إلي الطرف الشمالي للعاصمة، حيث شبرا الخيمة والقليوبية، لوجدنا الحال لا تختلف كثيراً، حيث تحولت المنطقة في نفس الفترة تقريبا، إلي منطقة صناعية كثيفة، تضم بين جنباتها جميع أنواع الصناعات، ابتداء من النسيج والزيوت والصابون، وحتي المنتجات والصناعات البترولية، وكلها للأسف صناعات ذات نواتج ملوثة للبيئة، سواء كانت من خلال الابخرة والأدخنة المتصاعدة، أو السوائل والمخلفات الناتجة عن العملية الصناعية، وكلها تنتشر في الهواء أو تصب في مياه النيل، حاملة معها اخطر أنواع السموم تأثيرا علي الصحة العامة. ونحن هنا لا نقلل من قيمة هذه المصانع، ولا نهدر فائدة وضرورة هذه الصناعات، ولكننا نتحدث عن الجهل الواضح بأهمية الحفاظ علي البيئة ونظافتها وسلامة الهواء ونقائه وخلوه من السموم، التي تحملها السحابة السوداء في طياتها، لنستنشقها نحن في صدورنا، في حين انه كان من الممكن تلافي ذلك، وإقامة هذه الصناعات بعيدا عن العاصمة، بما فيها من كتلة سكانية كثيفة، ولكن كان للعشوائية وسوء التقدير رأي آخر.
وفي ذلك لابد أن نتحدث بصراحة كاملة، حيث كان من الممكن بل من الواجب ان يتم نشر وإقامة هذه الصناعات كلها، وأكثر منها في إطار خطة متكاملة الجوانب ليست صناعية فقط، بل عمرانية وبيئية أيضا، بحيث يتم اقامة مجتمعات عمرانية وانتاجية في ذات الوقت، عن طريق المجتمعات والمدن الجديدة الصناعية والزراعية والتجارية المتكاملة والشاملة لكل المرافق والخدمات اللازمة لها،...، علي أن تضع هذه المجتمعات الجديدة بطول وعرض مساحة البلاد البالغة مليون كيلو متر مربع، في اعتبارها الأساسي ضرورة الحفاظ علي البيئة ونظافتها سواء كانت في الصحراء الغربية، أو الصحراء الشرقية، أو في سيناء، أو علي البحر الأبيض، أو علي البحر الأحمر، أو في أي مكان آخر،...